“عزمي بشارة” – نحو نظرية عربية في دراسة الطائفية
ما هي الأشكال الأوّلية للطائفية؟ وكيف أصبحت الطائفية السياسية مُمكنة؟ وما هو دور هذه الأخيرة في إنتاج وتشكيل الطوائف المتخيّلة؟ هذه بعض الأسئلة المنهجية، وربّما المفتاحية لفهم مؤلّف عزمي بشارة الموسوعي حول تطور الطائفية في المجتمعات العربية.
وهو مؤلّف، كما يقول صاحبه، “لا يأتي مصادفة ولا يقوم بتمارين نظرية في فراغ وجداني”، بل يُلبي حاجة علمية وواقعية ماسة في مجتمعات تُهددها الانقسامات والحروب، “فالمشرق العربي، ولاسيما العراق وسوريا واليمن، وسبقهم لبنان، يعيش مرحلة يبدو فيها كأنه دخل أتون حرب أهلية طائفية تشبه في بعض الوجوه حرب الثلاثين عامًا التي شهدتها أوروبا ويؤرّخ لها عادة في الفترة 1618 – 1648م”.
خطأ تاريخي جسيم أن نقرأ تاريخنا على أنّه تاريخ صراع بين الطوائف. يُقرّر عزمي بشارة هذه النتيجة، وذلك بخلاف ما تعرضه بعض الأدبيات الاستشراقية عن تاريخ المجتمعات العربية.
من المستحيل استيعاب نص بشارة “الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيّلة” في مقال واحد أو عشرة مقالات حتى، فهو نص تقاطعات. يتقاطع فيه التنظير الفلسفي والفيلولوجي مع التحليل التاريخي السوسيولوجي لصيرورة زمنية تزيد على 14 عشر قرنًا بوقائعها وأحداثها المتشابكة.
هذا إضافة إلى أن الكتاب يستعرض ويُحلل حالات تاريخية من الطائفية، ويتضمن نماذج راهنة للطائفية السياسية مثل الحالة العراقية، التي أفرد لها بشارة قسمًا كاملًا من كتابه، والحالة اللبنانية، والحالة الإيرلندية كمثال من خارج السياق العربي.
حسبُنا إذًا أن نقدّم بعض الإضاءات حول هذا المؤلّف الضخم الذي يتجاوز 900 صفحة، وأن نبيّن قدر الإمكان موقعه في المكتبة العربية والعالمية كعلامة فارقة في مجال التنظير حول المسألة الطائفية، فمؤلِّف كتاب “في المسألة العربية” وصاحب كتاب “الدين والعلمانية في سياق تاريخي”.
قد قدّم، بدون مبالغة، نظريةً جديدة في الطائفية السياسية، ولم يكتف بالتنظير وإنما حاول اجتراح الحلول القمينة بتجاوزها، بعد أن قام بمراجعة نقدية للحلول الإجرائية المتداولة في تسوية الصراعات الطائفية، وعلى رأسها الديمقراطية التوافقية التي يعتبر أرينت ليبهارت أشهر منظّريها.
الظاهرة الطائفية، إذا صحّ الوصف، مثلُ جميع الظواهر الاجتماعية التاريخية، عرفت التطور من أشكال أوّلية جنينية إلى أشكال أكثر تطورًا، أهمّها بالنسبة للدارسين ظاهرة الطائفية السياسية التي تعتبر اليوم أحد أهم تحديات الدولة الوطنية العربية.
خطأ تاريخي جسيم أن نقرأ تاريخنا على أنّه تاريخ صراع بين الطوائف. يُقرّر عزمي بشارة هذه النتيجة، وذلك بخلاف ما تعرضه بعض الأدبيات الاستشراقية عن تاريخ المجتمعات العربية. حيث تحاول بعض تلك الأدبيات جعل الصراع السني الشيعي محور التاريخ الإسلامي ماضيًا وحاضرًا.
ولا يخفى أن الهدف وراء ذلك هو الاستغلال السياسي، ولم يجد أحد هؤلاء “المستشرقون الجدد” غضاضة في محاولة إقناع صناع القرار في الولايات المتحدة أن نشر الديمقراطية في المنطقة يتطلب التحالف مع الشيعة والتخلي عن ما أسماه “الدكتاتوريات السنية” أو العكس في حالات أخرى.
لكن ذلك لا يُعفي الباحث الجاد من استكشاف الأعطاب التاريخية واستكشاف المحطات التي شكّلت منعطفات تحوُّل نحو مأزق الطائفية السياسية، بتحويل الصراعات السياسية والمذهبية المبكّرة إلى صراع هويات قائمة على معتقدات دينية.
يعتقد بشارة أنه لفهم تطور الطائفية في المجتمعات العربية ينبغي تحليل العناصر التالية:
1 التمييز بين المذهب والتمذهب وتشكّل الطائفة بوصفها كيانًا اجتماعيًا.
2 رصد تحوّلات الجماعة الطائفية تاريخيًا.
3 التمييز بين الطائفة بوصفها كيانًا اجتماعيًا محليًا أهليًا والطوائف المتخيّلة.
4 فشل تحوّل الإمبراطورية العثمانية في مرحلة التنظيمات إلى الأمة والمواطنة.
5 دور الاستعمار والتفاعل مع الغرب عمومًا في نشوء مسألة الأقلّيات وسياسة الهويات.
6 قدرة الدولة الوطنية على دمج الجماعات على أساس المواطنة.
7 تحولات النخب السياسية في النظام والمعارضة واستثمار الهوية الطائفية في الصراع على الدولة.
هذه العناصر التحليلية يمكن اعتبارها خطاطة منهجية ضرورية لمن يريد فهم تطور الطائفية عربيًا.
وفي ضوئها كذلك يمكن حسب بشارة “فهم نشوء الطائفية من جهة والقومية من جهة أخرى”، وينبغي أن لا نُغفل أهمية ثنائية “الطائفية والقومية”، فلاحقًا تصبح الدولة الوطنية حلبة صراع بينهما على تنظيم العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة.
- طائفية اجتماعية ودينية
لفظ الطائفة في أصوله اللغوية العربية لم يرتبط دلاليًا بالجماعة الدينية والمذهبية، ويبدو ذلك جليًا بالعودة لاستعمالات اللفظ في القواميس اللغوية وحتى في المفهوم الوصفي الإسلامي الكلاسيكي للطائفة، فالطائفة هي دائما طائفة من جماعة أو طائفة من فئة أو طائفة من الأشياء..
وبالتالي فهي دائمًا جزء من كل، ولا تعبر عن كل ديني أو مذهبي أو حتى عن كل من الأشياء. كان ذلك قبل أن ينصرف مدلول الطائفة مع الزمن ليكون تعبيرًا عن جماعة من البشر تحديدًا، وليس عن طائفة من الأشياء.
وفي هذه اللحظة أصبح من الممكن الحديث عن طوائف اجتماعية قد تمثل رأيًا سياسيًا أو مذهبيًا أو قد تكون حتى سلالة من العائلات الحاكمة على غرار ملوك الطوائف، فالطوائف في هذه الحالة سلالات وأسر، وليست مذاهب أو فرق أو جماعات دينية.
أما الدلالة التخصيصية في حالة مصطلح الطائفة (الدينية أو المذهبية) فقد ازدادت في عصرنا حسب بشارة، فلم تدخل لفظة الطائفة حيز التوظيف التفسيري لصراعات الماضي المذهبية والسياسية، إلا مؤخرًا، بخلاف مقولة الفرق/ الفرقة/ الافتراق، المذاهب، الجماعة، التي دخلت حيز التداول الوصفي والتفسيري للصراعات السياسية والدينية في فترة ما بعد الإسلام المبكّر، وإن كان القرن الخامس الهجري قد سجّل ظهور عبارات “الطائفة الظاهرة” و”الطائفة المنصورة” و”شيخ الطائفة”.
ولهذا الظهور دلالة بالغة الأهمية مع الانشغال الكبير “بحديث الافتراق” المشكوك في صحّته أصلًا. لكن عزمي بشارة يعتقد أن هذا الظهور لمصطلح الطائفة لم يتطور من مضمونه الوصفي لتبيان ملامح مضمونه المعياري السلبي إلا في مراحل متأخرة.
بناء على هذه التحديدات اللغوية يمكن القول، فيما يتعلق بلفظ الطائفة، إنها في الأصل جماعة محلية أهلية. أما الطائفية فهي انتماء عصبوي إلى جماعة تربطها رابطة العقيدة وليس بالضرورة الإيمان بهذه العقيدة وممارساتها. وهذه إحدى المفارقات الجديرة بالتّأمل فيها.
فليس بالضرورة أن يكون المتدين طائفيًا والعلماني غير طائفي، فأحيانًا كثيرة نجد الآية معكوسة. أي نجد العلماني طائفيًا والمتدين غير طائفي.
لقراءة المقال كاملا من موقع ألترا صوت.