جورج طرابيشي: قراءتي لأعمال الجابري كانت حوارا بلا حوار
مزية الجابري أنه فتح مجال البحث عن مفهوم العقل في التراث الإسلامي وساهم بحفرياته النقدية في تقصي أصول هذا العقل ومساره التاريخي ومآلاته ولكن يبقى مجهوده كمجهودي وكأي مجهود آخر مجرد مساهمة.
طبق في بعض مؤلفاته التي تعد بالعشرات منهج التحليل النفسي، ومنذ عقدين من الزمن عكف على مراجعة ونقد تآليف المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري تعالج “نقد نقد العقل العربي” حيث صدرت منه أربعة مجلدات.
والمؤلف بصدد إصدار آخرها وهو المجلد الخامس وعنوانه: “الانقلاب السني: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث”. وقد حاول طرابيشي في هذا العمل الموسوعي أن يقرأ ويراجع التراث اليوناني والتراث الأوروبي الفلسفي والتراث العربي الإسلامي في علم الكلام والفقه والتصوف واللغة.
وما إن أنهى طرابيشي مشروعه في “نقد نقد العقل العربي” حتى ودع محمد عابد الجابري الدنيا فجاء حوار مركز الجزيرة للدراسات مع طرابيشي مزيجا من حسرة طرابيشي على نهاية مشروع نقده دون أن يكون صاحب الفكر المنقود على قيد الحياة.
وفي ما يلي الحوار كاملا مع جورج طرابيشي:
تؤكد دائما أن “محمد عابد الجابري” نقلك من الإيديولوجيا الغربية إلى التراث العربي الإسلامي. وتقول في أحد حواراتك “إنه فتنك وسحرك بالإشكاليات التي طرحها”، لكنك خلصت إلى إعلان انفصالك عنه بالقول في كتابك “العقل المستقيل في الإسلام ” (دار الساقي 2004) “لقد أحدث فجيعة فيك “لأنه جزّأ وحرَّف بعض الأدلة التي استعملها لإثبات مشروعه” فهل لك أن تبين لنا كيف تحولت علاقة الإعجاب بالجابري في مسيرتك إلى نقيضها؟
ساعدني الجابري على تحقيق نقلتين في حياتي الفكرية: الأولى أنه نقلني من الإيدولوجيا إلى الإبستومولوجيا، أي من الكلام في الأفكار بإيديولوجية معينة إلى علم معرفة المعرفة. وثانيا ورغم أني خريج اللغة العربية، وبالتالي فإن فكري التراثي كان متجها إلى الأدب أكثر منه إلى الفكر الأصولي والفكر الفقهي وحتى الفلسفي، فإنه أجبرني على أن أعيد بناء ثقافتي التراثية”. |
طرابيشي: في الحقيقة من الصعب أن يبدأ الواحد منا بجواب سلبي في ظرف كهذا الظرف الذي تحكي فيه كل دنيا العرب بحزن عن رحيل الجابري. فنقد النقد الذي أمارسه على كتابات الجابري ربما يكون أثره اكبر لو كان الجابري ما يزال على قيد الحياة وكم كنت أتمنى طول عمري – وقد صارحته بذلك – أن أكون أنجزت كل ما كنت أريد أن اكتبه عن مشروعه في ” نقد العقد العربي” وهو ما يزال على قيد الحياة.
لقد قلت له هذا الكلام منذ نحو ربع قرن عندما بدأت بالكتابة عنه وقد كانت بيننا زمالة وصداقة ثم انفصام بعد إصدار الجزء الأول من مشروعي المضاد في “نقد نقد العقل العربي”.
فمن المزعج للإنسان أن يناقش إنسانا قد رحل عن هذه الحياة، وقد كنت أتمنى أن يصدر الجزء الخامس والأخير من مشروعي في “نقد نقد العقل العربي” أي في نقد مشروع الراحل الجابري وهو على قيد الحياة، وهكذا نكون قد وقفنا على أرضية متكافئة.
أما أن ينقد الحي الميت فهذا أمر في منتهي الصعوبة. ومع الأسف فإن ربع القرن الذي قضيتها في نقد الجابري وهو ما يزال على قيد الحياة كانت وكما أطلقت عليها بمثابة “حوار بلا حوار” لأنه سكت عن هذا النقد.
فمنذ حوالي ربع قرن أي منذ عام 1984 وأنا أعمل على مشروع الجابري، وكنت مضطرا إلى إعادة قراءة كل ما قرأه، وكل ما قال إنه قرأه. بل أكثر من ذلك عدت إلى التراث المتعلق بالإشكاليات التي أثارها: أي تراث الفلسفة اليونانية والتراث الغربي الحديث.
وبطبيعة الحال مراجع تراثنا العربي الإسلامي بوجوهه التي لا يمكن إحصاؤها بما فيها من علم الكلام والفلسفة والتصوف والفقه والسنة والتفاسير. وطبعا يكفي أن أقول إن بعض كتب التراث التي عدت إليها يصل حجمها إلى مئة وستين جزءا مثل “بحار الأنوار” لمحمد باقر المجلسي في التفسير والفقه والأصول.
وعندما أقول إن المشروع استغرق مني حوالي ربع قرن فهذا لا يعني أني وقفت عند كتبه بل تجاوزتها بالعودة إلى كل هذا التراث الواسع الذي يجمعنا، لأن الإشكاليات التي صاغها الجابري كانت تتعلق بهذه المستويات الثلاثة الأساسية أي كما أسلفت القول: الفكر الفلسفي اليوناني والفكر العربي الإسلامي والفكر الغربي الحديث.
فالجابري ساعدني على تحقيق نقلتين في حياتي الفكرية: الأولى أنه نقلني من الايدولوجيا إلى الإبستومولوجيا، أي من الكلام في الأفكار بإيديولوجية معينة إلى علم معرفة المعرفة. وثانيا ورغم أني خريج اللغة العربية.
وبالتالي فإن فكري التراثي كان متجها إلى الأدب أكثر منه إلى الفكر الأصولي والفكر الفقهي وحتى الفلسفي، فإنه أجبرني على أن أعيد بناء ثقافتي التراثية. وقد قرأت من أجل ذلك ما يزيد عن ألف كتاب في التراث العربي وحده وما زلت غارقا فيه إلى اليوم.
وقد حاولت أن أقرأ كل ما كان في متناولي من الفلسفة العربية الإسلامية ثم انتقت من الفلسفة إلى علم الكلام وهو حقل في الإسلام أوسع بكثير من حقل الفلسفة، ثم وجدتني بعد ذلك انتقل إلى الفكر الأصولي وفي جزئي الأخير من مشروعي في “نقد نقد العقل العربي” أتناول السنة.
وقد وجدت في تلك الموسوعة وفي ذلك الأقيانوس الكبير “البحر اللجي” الذي هو الحديث وأسانيده -والتي تبلغ حوالي أربعين ألف حديث ابتداء من مسند أحمد بن حنبل وانتهاء بكنز العمال للمتقي الهندي– حقلا جديدا من المعرفة التراثية المجهولة. وقراءة كل هذه المدونات استغرق مني عمرا طويلا ساعدني في الآن ذاته على تشغيل عقلي النقدي على الرغم من كوني ومن البداية ناقدا أدبيا.
لقد جاءت “المرحلة الجابرية” في مشروعي الفكري المناهض لمشروع الجابري والتي سميتها “نقد نقد العقل العربي” والتي وصلت حتى ألان أربعة أجزاء هي “نظرية العقل العربي” و”إشكاليات العقل العربي” و”وحدة العقل العرب ” و”العقل المستقيل في الإسلام” لتؤسس مرحلة جديدة من حياتي الفكرية.
والآن يطبع الجزء الأخير من هذا المشروع النقدي في حوالي 650 صفحة تحت عنوان “الانقلاب السني من إسلام القران إلى إسلام الحديث” وهو خاتمة مشواري مع الجابري ولكن هذا الجزء الأخير الذي يصدر قريبا لم أضعه تحت عنوان “نقد نقد العقل العربي ” مع أنه يختم رحلتي مع الجابري.
ولكن لماذا لم تعنون الجزء الأخير لمشروعك في نقد الجابري بـ”نقد نقد العقل العربي” كما فعلت بالأجزاء الأربعة السابقة؟
– لأمر جوهري في نقدي لمشروع الجابري يتعلق بالبحث في الأسباب الحقيقة التي أدت إلى استقالة العقل الإسلامي. فنظرية الجابري تتمحور حول أن العقل العربي الإسلامي أقيل بغزوة خارجية حيث تسلل له العدو من الخارج في قناع صديق تماما كما في قصة حرب طروادة حيث تمكن أعداء هذه المدينة من اقتحامها عن طريق حصان مصنوع من الخارج.
فنظرية الجابري تقول إن العقل العربي الإسلامي لم يتخلف ولم يغرب ويأفل ولم يستقل إلا نتيجة غزوة خارجية جاءته من رياح “الهرمسية” و”الغنوصية” و”الأفلطونية المشرقية“. ونظريتي المضادة تقول إن هذا غير صحيح وإنه لا يمكن للعقل أي عقل أن يغزى من خارجه وأن يجبر على الإقالة من خارجه.
إذا لم تكن له القابلية الذاتية، فالعقل عندما يستقيل فإنما يستقيل نتيجة الآليات الداخلية أولا. فالجابري لم يتوقف إلا على المظاهر الخارجية معتبرا أنها هي التي أجبرت العقل العربي الإسلامي على الاستقالة ولا سيما في طبعتيه المشرقية والشيعية مشيرا إلى أن العرفان الشيعي أحد مظاهر استقالة العقل الإسلامي، وهذا الأمر الذي فسرته في الجزء الرابع من مشروعي (استقالة العقل الإسلامي).
وبالتالي، وبالنظر لما حللته بأنه لم يكن هناك غزو خارجي فإن الجزء الخامس والأخير جاء ليتناول هذا الانقلاب الكبير من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، وقلت سأبحث في الآليات الداخلية لاستقالة العقل في الإسلام.
وهنا لم أجد عند الجابري شيئا يقوله لأنه ما دام حمل كل المسؤولية للخارج فإنه لم يبق لديه ما يقوله عن الداخل وبالتالي لم أجد شيئا أناقشه فيه في هذه المجال فكتبت معظم فصول الكتاب ولم أذكر الجابري إلا في حوالي أربعة مناسبات لأن إشكاليته في الاستقالة بالعوامل الخارجية للعقل في الإسلام توقفت عند هذا الحد.
لهذا كان هذا المجلد الأخير تتويجا لرحلتي النقدية مع الجابري دون أن يكون تحت عنوان “نقد نقد العقل العربي”؛ لأنه في نظري تجاوزٌ لنظرية الجابري وهو يصدر للأسف والجابري قد رحل عنا، وربما حسنا فعلت عندما أخرجت هذا الجزء من مشروع “نقد نقد العقل العربي” وجعلته كتابا قائما بذاته.
ولكن ما هي اللحظة الفكرية المفصلية والتي أعلنت فيها تخليك نهائيا عن “الجابرية” وإعلانك الصريح “خيبة أملك فيها” والتي وصلت إلى حد التوتر الشخصي بينكما؟
تكوين العقل العربي للجابري كتاب لا يثقف فقط بل يغير، ومن يقرأه لا يعود بعد أن يقرأه كما كان قبل أن يقرأه |
– لا لم تكن علاقتي الشخصية متوترة مع الجابري. دعني أروي لك بعض تفاصيل علاقتي الشخصية به فقد التقينا أول مرة على مقاعد الدراسة في جامعة دمشق عام 1959 وكانت بيننا زمالة وصداقة وصلت إلى حد استضافته في بيتي هنا في باريس يومها تحدثنا كثيرا. وأتذكر أنه ضحك وقال لي “هل تعلم أني كنت أحسدك بعض الشيء لأني كنت خجولا مع النساء وأنت كنت جريئا”، فضحكت وقضينا أوقات ممتعة مع بعضنا.
ولما عملت في مجلة دراسات عربية نشرت له العديد من المقالات، ثم لما أصدر كتابه “تكوين العقل العربي” والذي هو الجزء الأول من مشروعه “نقد العقل العربي” قرأت منه فصولا ونشرتها قبل إصداره وقلت لصاحب الدار الراحل “بشير الداعوق” إننا “لسنا أمام مفكر عربي، هذا مفكر من مستوى أوروبي”.
وأتذكر أني لما جئت إلى باريس سنة 1984 حملت من بين متاع بيتي كتابا واحدا وهو كتاب “تكوين العقل العربي للجابري”. ولما أصدرت مجلة الوحدة من باريس مع الراحلين “محيي الدين صبحي” و”إلياس مرقص”، كتبت عن هذا الكتاب مقال في المجلة وقلت:
إن هذا الكتاب لا يثقف فقط بل يغير، ومن يقرأه لا يعود بعد أن يقرأه كما كان قبل أن يقرأه. بعدها استقبلت الجابري في المجلة وأجريت معه حوارا مطولا والتقينا بعدها في بيتي في حفلة عشاء وبقينا أصدقاء لفترة غير قليلة من الزمن ولم يكن بيننا أي مشكلة شخصية على الإطلاق.
ولكن ما الذي جعلك تنقلب على الجابري فكريا إذا؟
– بدأ إشكالي الفكري الكبير مع الجابري بعد أن أصبت بخيبة أمل وشعرت أن هناك تمثالا إلهيا قد تحطم. والذي حدث أن الجابري قد كتب في كتاب “تكوين العقل العربي” صفحتين حول “إخوان الصفا” اعتبر فيهما أن إخوان الصفا هم الذين أجرموا والمسؤولون الحقيقيون عن استقالة العقل في الإسلام، بالرغم من أن ذكرياتي عن إخوان الصفا منذ أيام الجامعة لم تكن بهذه الصورة السوداوية التي رسمها الجابري.
وبما أني لم أكن أملك رسائل إخوان الصفا لما كنت في باريس، فقد شاءت الصدفة أن أدْعَ إلى البحرين في حوالي سنة 1986 من أجل إلقاء محاضرة وفيها تحصلت خفية (لأن الكتب الفلسفية كانت ممنوعة في هذا البلد) على نسخة من “رسائل إخوان الصفا”.
وبدأت أبحث عن الشاهد الذي ذكره الجابري في كتابه والذي قالوا فيه إن الإنسان ليس بحاجة إلى منطق من أجل أن يتفاهم مع غيره. ورحت أبحث عن هذه الفكرة في الرسائل فلم أجدها. وعدت إلى باريس ورجعت إلى إحالة الجابري في كتابه فلم أجدها فقلت لعل الرجل أخطأ المصدر.
ولكن الذي أثار دهشتي أني لما قرأت “الرسائل” وجدتهم أول ما يقولون “اعلم يا أخانا في الروح أنك قبل أن تبدأ في قراءة ما نريد أن نكتبه لك في هذه الرسائل عليك أن تبدأ بعلم المنطق لأنه هو مدخلنا إليك وبدون المنطق لا يمكن للبشر أن يتفاهموا.
وتوفيرا لوقتك سنبدأ بشرح المنطق كما صاغه رئيسنا الكبير”. وخصصوا أول ثماني رسائل من “رسائل إخوان الصفا” لشرح كتب المنطق كتابا كتابا. ثم لما انتهوا من شرح “كتاب منطق أرسطو”، قالوا: “لقد تقدم بنا الكلام عن المنطق يا أخانا، ولكن المنطق منطقان: فهناك المنطق المنطقي والفلسفي الذي حدثناك عنه في أول رسائلنا، وهناك المنطق الكلامي والإنسان تميز عن الحيوان بالمنطق”.
ويقولون: “لولا الكلام لما صار الإنسان إنسانا وتميز عن عالم الحيوان، ولكن اعلم يا أخانا في الروح -وهم ذوو نزعة تصوفية- أنه هناك من النفوس ما لا تحتاج إلى منطق لكي تتفاهم فهي تتفاهم بالأنظار والروح ولا تحتاج إلى منطق”.
وهذا الشاهد بالذات هو الذي استند عليه الجابري في قوله إن إخوان الصفا كانوا أعداء المنطق!! وهنا شعرت أني سقطت من شاهق، وتساءلت أيمكن أن يكون الجابري قد زور الشاهد إلى هذا الحد؟ لماذا لم يفتح رسائل إخوان الصفا من أولها ويقرأ مديحهم الهائل للمنطق والعقل وقام باستغلال ما قالوه عن المنطق الكلامي ليقول إن هؤلاء ضد المنطق؟!
لقد شعرت بعد هذه الحادثة أني طعنت في الظهر لما رفعت الجابري إلى مرتبة أستاذي ويعود إلى “إخوان الصفا ” الفضل في هذا التحول والذي أقعدني مريضا لمدة يومين كاملين.
ومن هنا بدأت رحلتي النقدية لمشروع الجابري وقمت بمراجعة كل الشواهد التي أوردها في كتبه، وهنا تضخمت الكارثة لأجد أن العشرات من الشواهد التي اعتمد عليها في صياغة إشكالياته كانت شواهد إما مزورة أو مقطوعة من سياقاتها أو مأخوذة من قواميس ومعاجم كالحال مع المفاهيم الفلسفية التي يقدمها وليس من أمهات الكتب!
فشواهده عن “روسو” و”ديكارت” و”فولتير“… -وهذا الأمر كتبته– أخذها من كتاب صغير لشرح المفردات الفلسفية وأوحى لقارئه وكأنه قرأ “فولتير” وغيره ولم يشر إلى أنه أخذها من هذا المرجع الصغير.
ووقعت على عشرات الأمثلة من هذا القبيل ومن هنا تحطم التمثال لدي وبدأت مشروعي في “نقد نقد العقل العربي”. ولولا الجرح الفكري العميق الذي أحدثه الجابري لدي لما أعدت بناء ثقافتي وتجاوزه إلى قراءة التراث الفلسفي اليوناني حتى لا أصاب بخيبة أمل مرة أخرى وحتى لا أقع ضحية لأي تشويه فكري آخر.
أيعني أنه بعد حادثة “إخوان الصفا” لم تلتق بالجابري ولم يكن بينكما مواجهة حول هذا الأمر؟
– لا لم التق به والجابري لم يشأ في مرة واحدة أن يرد على النقد الذي وجهته له وتجاهل الموضوع تماما. وسمعت أنه كان يقول في مجالسه إني لا يحق لي أن أناقش دكتورا وأني لا أحمل شهادة دكتوراه مع الأسف لذلك كتبت في كلمتي الرثائية له أني خضت معه “ربع قرن من حوار بلا حوار”!.
ولكن ألا تجد بعض من أثر نقدك له في كتاباته الأخيرة؟
– طبعا ولا شك في ذلك وخاصة أن كتاباتي النقدية أثارت ضجة بين طلابه والمعجبين به وطرحت أسئلة عن أسس مشروعية مشروعه، ولكنه كان يقول إنه لا يقرأ النقد الذي يوجه إليه ولا يهتم بالرد على منتقديه، مع أنه خصص النصف الأول من كتابه “التراث والحداثة ” للرد على منتقديه من أمثال “علي حرب” و”فتحي التريكي”، بل إنه دخل في نقاش مهم ومطول معهم. أقول هذا الكلام وأنا أشعر بالحرج لأن الرجل فارق الحياة وأنه كان بإمكانه أن يرد علي وهو على قيد الحياة وكل تجريح له في الوقت الحالي سيخلق لي أزمة ضمير لأنه لا يستطيع أن يرد.
ولكن دعني أقول لك -رغم ذلك- إن الجابري وفي الفترة الأخيرة من رحلته الفكرية بدأ يطرح أسئلة حول الاستقالة الداخلية للعقل في الإسلام ولكنه لم يطرحها بالعمق الكافي ولا بالانتفاضة الكافية وحاول أن يلتف على الموجة الأصولية الجديدة بأن يتكلم بلغة تشبه لغتها وقدم لها تنازلات كثيرة على آمل الالتفاف على خطابها.
هل يمكن أن تقدم لنا مثالا على أحد تنازلات الجابري والتفافه عن “الموجة الأصولية”؟
زور الجابري معنى العلمانية وقال “إنها فصل الدولة عن الكنيسة” والحال أنها “فصل الدين عن الدولة”. والحق أيضا أن العلمانية في الإسلام هي أهم من وجودها في المسيحية “. |
– لقد ألغى الجابري العلمانية واعتبرها مجرد مشروع غربي لا تصلح للإسلام مع أن العلمانية في التاريخ الإسلامي أعمق جذورا مما نتصور وأعمق وجودا حتى مما هي في المسيحية. وقال صاحب “نقد العقل العربي” إن “العلمانية هي فصل الكنيسة عن الدولة وليس في الإسلام كنيسة ليخلص إلى أنه لا حاجة للإسلام بالعلمانية”.
هو في هذه النقطة زور معنى العلمانية وقال “إنها فصل الدولة عن الكنيسة” والحال أنها “فصل الدين عن الدولة”. والحق أيضا أن العلمانية في الإسلام هي أهم من وجودها في المسيحية حيث وردت في الإنجيل جملة اعتبرت هي البذرة الأساسية للعلمانية عندما قال المسيح عليه السلام: “أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر”.
في حين أن لنا في الإسلام حديث أعمق من ذلك لما قدم الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ولم يكن مزارعا فسمع أزيزا فقال ما هذا؟ فقالوا إنهم يؤبرون النخل أي يلقحون الذكر بالأنثى فقال: “لو لم يفعلوا لأثمرت”. واعتبارا لما للرسول عليه الصلاة والسلام من أهمية ومكانة كبيرة امتنع أهل المدينة عن التلقيح فجاء الموسم ولم تثمر النخل فراودوه، فرد عليهم: “انتم أدرى بشؤون دنياكم”.
ومن تلك اللحظة فصل الرسول عليه الصلاة والسلام فصلا جذريا بين الديني والدنيوي وهو أهم بكثير من الفصل الذي أقامه المسيح عليه الصلاة والسلام بين قيصر والله.
فالإسلام دين قبل شيء ولا يتدخل في الدنيوي إلا لما له علاقة بالأخروي. وهذا الحديث مدعوم بعشرات الأحاديث الأخرى والآيات التي تؤكد على بشرية الرسول عليه الصلاة والسلام” “إنما أنا بشر”. فالجابري ألغى البعد العلماني في الإسلام وغيبه،
وبالتالي وقع في الخطأ الكبير عندما قال: لا حاجة للإسلام بالعلمانية لأنه لا وجود لكنيسة في الإسلام مع العلم أن الإسلام الشيعي والذي يمثل حوالي ربع عدد المسلمين فيه مؤسسة شبيهة بالكنيسة لا تقل سطوة وسلطة عن الكنيسة البابوية الكاثوليكية.
صحيح أنه ليست هناك كنيسة بالمعنى الحرفي للكلمة ولكن هناك في الإسلام سلطات دينية هائلة ممثلة في الأزهر ومؤسسات الفتوى المتواجدة في كل مكان، فالسلطة الدينية في الإسلام لا تكاد تختلف في المتانة والقوة عن السلطة الكنسية.
والعلمانية هي تحرير الدولة من هذه السلطة أي منع السلطة الدينية من أن تتدخل في شؤون الدولة، ومنع السلطة السياسية أن تتدخل في شؤون الدين.
هذه نقطة خلافية كبيرة بيني وبين الجابري وأعتقد أنها المفتاح لكي نفهم الكثير من تردد ومساومات الجابري ومحاولاته في أن يكون يلبس أحيانا جبة الأصولي ويتكلم بلغة الأصوليين، فالمحاولات الالتفافية التي قام بها لم تمنع الأصوليين من إصدار العديد من الفتاوى في تكفيره.
ولكن في اللحظة التاريخية الراهنة، وبناء على منطق التدرج الذي يمكن أن يطبق على العالم العربي في الوضع الراهن ألا تعتقد أن مشروع الجابري يمكن أن يكون مشروع نهضة مرحلية في العالم العربي؟
– لا، لا يمكن ذلك لسبب مهم وهو أنه لا يمكن تحقيق النهضة بمشروع واحد مهما كانت أهميته. وأنا أقول إن الجابري أوصلنا إلى قمة ولكن هذه القمة لا يمكن أن تكشف لنا عن المشهد كاملا غير مجزئ. وفي اعتقادي أنه يجب البحث عن قمم جديدة ومن هذا المنطلق بالذات فأنا لا أنكر على الجابري ما قدمه ولكن لا يمكننا الوقوف عنده.
فعندما ننظر إلى الحضارة الغربية نجد أن الحداثة الغربية لم تتوقف عند أي من أعلامها الكبار مثل “فولتير” و”منتسكيو” و”ديكارت“، بل عملت دائما على تجاوزهم لذلك لا يمكن أن يكون الجابري سوى نقلة من النقلات المعرفية التي يجب تجاوزها إلى ما هو ابعد.
أما إذا وقفنا عند الجابري فإننا نكون قد أوقفنا التاريخ عن صيرورته والوقوف عند مشاريع معينة يؤدي إلى الانغلاق والاستبداد. والتجربة الماركسية لدينا أكبر دليل على ما نقول: فتحويل أي مشروع إلى إيديولوجيا هو مضاد لمنطق التاريخ في التطور والتشكل والتحول.
وأعتقد من هذه الناحية أن الجابري نفسه، ومن خلال مشروعه، عمل على رفض الايدولوجيا من أجل قراءة إبستمولوجية للواقع، فمشروع النهضة العربية من هذه الناحية مشروع جماعي أو لا يكون.
ألا تعتقد أن الجدل بينك وبين الجابري هو في نهاية المطاف جدل إيديولوجي بين مشروعين مختلفين للعالم العربي: مشروع “قومي” ينتقد المركزية الأوربية كما فعل الجابري، ومشروع آخر تمثله أنت يتماهى في الثقافة الإنسانية ولا يرى ضيرا في القول بالمركزية الأوربية وتفوقها ويجعلنا أحد روافدها؟
– دعني أرد على هذا الاتهام لي بالرد على مقولة نقد الجابري للمركزية الأوروبية. أقول لك إن الأوربيين هم أول من نقد مفهوم المركزية الأوروبية ذاته وليس للجابري أي مزية في ذلك، ونحن جئنا في آخر السلم لنفضحها.
ففي أوروبا هناك، ومنذ مائة سنة، مفكرون وكتب نقدت مفهوم المركزية هذه، والجابري لم يأت في هذا بجديد ولم يأخذ في هذا إلا ما أوصله لنا الفكر الاستشراقي الغربي.
إذا كانت للجابري من مزية فهي أنه فتح المجال للعمل البحثي في البحث عن مفهوم العقل في التراث الإسلامي وساهم بحفرياته النقدية في تقصي أصول هذا العقل ومساره التاريخي ومآلاته ولكن يبقى مجهوده كمجهودي وكأي مجهود آخر مجرد مساهمة.
وأي قوة فكر إنما هي قدرة هذا الفكر على تجاوز نفسه حتى لا يتحول إلى وثنية جديدة، لأننا في العالم العربي اليوم مهددون بالعودة نحو عصور وسطى جديدة بفعل المد الأصولي ومشروع الجابري وحده غير قادر على مواجهتها.
المصدر : مركز الجزيرة للدراسات