كيف يدمر النظام التعليمي أدمغتنا!
عندما احتاجت المصانع الكبيرة للإنتاج بكثافة بالغة ابتكرت لذلك آلية غايتها الإنتاج بنطاق واسع وبدقة لا متناهية، ولذلك أحدثت الثورة الصناعية طفرة غير مسبوقة في مجال الصناعة، فالمنتجات الغذائية والإلكترونية وغيرها تخضع لما يعرف بلغة المصانع بـ “خط الإنتاج“.
فالفكرة هي إنتاج أكبر كمية ممكنة في أقل وقت ممكن، من اللاشيء إلى الاستهلاك الأخير، وهذه الفكرة أثمرت في مجال الصناعة بشكل كبير، ولكن المشكلة هي أن التعليم بات يخضع لنظام المصانع أو نظام خط الإنتاج.
تقول مدير قسم سلوكيّات الدماغ في المؤسسة الكندية للأبحاث الصحية الدكتورة لارا بويد: لقد تعلّمنا من أبحاثنا عن الدماغ أنه لا يوجد طريقة واحدة تصلح لجميع الأدمغة في عملية التعلّم، بما في ذلك النظرية المنتشرة التي تقول بأن الإنسان يحتاج إلى ١٠٠٠٠ ساعة لإتقان مهارة ما أو تعلم شيء ما.
النظام التعليمي يعتبر الإنسان مجرد منتج لا يختلف عن سائر المنتجات، ولذلك جعلت له خط إنتاج يمتد من الابتدائية إلى الجامعات مرورا بالإعدادية والثانوية.
وتعتقد الدكتورة أن هناك فروقات كيميائية في أدمغة البشر، وبعيدا عن التركيبة الكيميائية للدماغ فإن هناك فروقات كبيرة في طريقة تحليل الدماغ للمعلومات، فما يبرع فيه زيد قد لا يبرع فيه عمرو، ونظرة عمرو تختلف عن نظرة زيد في ذات الأمر.
ولكل امرئ طريقة معينة في التفكير، وهناك تقسيمات مبنية على دراسات واسعة استمرت لعقود مثل نظرية “بوصلة التفكير” أو ما يعرف بتقسيمات هرمان لأنماط التفكير، والتي تقسم البشر إلى أربعة أقسام رئيسية، ويندرج من تحتها فروقات كثيرة تجعل من الاستحالة أن يكون بين زيد وعمرو شبه تام في طريقة تفكيرهم.
ما أريد قوله هو أن النظام التعليمي يعتبر الإنسان مجرد منتج لا يختلف عن سائر المنتجات، ولذلك جعلت له خط إنتاج يمتد من الابتدائية إلى الجامعات مرورا بالإعدادية والثانوية، فإن كانت علبة التونة تحتاج إلى مراحل من الإنتاج لا تختلف عن سائر علب التونة.
فإن زيدا من الناس يحتاج في نظر التعليم الأكاديمي إلى مراحل لا تختلف أبدا عن سائر البشر، وبطريقة أخرى فهذا يشبه صرف دواء موحد لمرضى السكري والسرطان وما خطر على بالكم من الأمراض المختلفة عافانا الله وإياكم.
هذا في الفروقات الكيميائية والتفكيرية، وأعتقد أن هناك أيضا فروقات بيئية، فالإنسان الذي يعيش في أنقرة لا يشبه تمام الإنسان الذي يعيش في القاهرة، بل أن هناك فروقات بين الذين يعيشون في أنقرة وبين من يعيش في إسطنبول مثلا، ورقعة الفروقات تتسع مع اختلاف الثقافات والبيئات.
فكل بيئة لها توجه خاص بها وتفاصيل تتميز بها عن الآخرين بحكم الثقافة المحلّية التي خضع لها الجميع سواء كان في التربية أو في العمل أو الظروف البيئية الخاصة بأهل هذه المنطقة.
ومع اختلاف البيئات هناك اختلاف في الأزمان في اعتقادي، فالإنسان الحالي يختلف في تفكيره عن الإنسان الذي كان يعيش في القرن الماضي، والسؤل الذي يجب أن نطرحه هو: ما الذي يجعل الإنسان الحالي يشبه أخاه الذي كان يعيش في القرن الماضي؟!
كنت أدرس في جامعة يحج إليها الناس من كل فج عميق، فالقاعة التي كنت أدرس فيها حوت طلابا من الصين، وفرنسا، وبريطانيا، والسعودية، والصومال، ومصر، والسودان، والسنغال، وسوريا، وغانا، وغينيا بيساو، وجزر القمر، والمغرب، هذا على سبيل المثال لا الحصر.
وكنا ندرس الأدب، والبلاغة، والنحو، والصرف، وسائر علوم اللغة العربية، وأستسمح صديقي الشاعر السوداني عبد ماجد أن أسرد لكم مطلع قصيدته التي يقول فيها:
ليكون شعري نابعا من ذاته *** أتقبل المعنى على علاته
ليكون لون الماء أعمق زرقة *** لا بد تجرحه دلاء سقاته
هب أن قولا فرّ من تاريخه *** في الأبجدية وانتمى لصفاته
لاخضرت الكلمات حتى لم نجد *** ما كان في “القاموس” من هفواته
ما لم يقل أحد هو الشعر الذي *** “أسعى” إليه وتهت عن “ميقاته”
لم أكن أنوي بأن أكتب أكثر من المطلع ولكني أُعْذَر، فليس من السهل أن تكتب مطلعا كهذا ولا ينزلق القلم بك، أردت أن أقول بأن صاحب هذه الكلمات كان يدرس مع طلّاب من الصين، ولا أعني بذلك انتقاصا من الصين وأهلها.
فقط أريد أن أوضح لكم الفجوة التي بين الصين والسودان.. الفجوة التي بين شاعر رضع العربية رضعا، وبين من لم يقابل أبدا دابة أكلت حشاش أرض عربية.
الفجوة التي بين من كان يستفسر معنى المطايا في شرح الأستاذ، وبين من امتطى صهواتها شعرا ونثرا. ولا أورد هذا المثال ذما للثقافة الصينية أو مدحا للعربية، أنا فقط أريد أن أصور لكم الوقت الذي ضاع من الشاعر السوداني.
وهو ينتظر الأستاذ كي يشرح لزميله الغيني معنى البراق، وعن الوقت الذي ضاع من الغيني بينما كان يشرح الأستاذ للطالب السوري علاقة المتنبي بحلب، هل تتصورن مقدار الظلم الحاصل؟!
لا يمكن خوض العصفور مسابقة سباحة مع السمك، ولا يمكن للسمك خوض مسابقة طيران مع العصفور، ونحن نفعل شيئا كهذا عندما نجمع حفنة من الأطفال على منهج ووقت واختبار موحد.
هذه الأمثلة التي عايشتها، ولا يجب أن تكون الفجوة بين الطلاب كبيرة كهذه كي نعتبر التعليم الأكاديمي فاشلا، ولا يجب أن تكون الفجوة بهذا الشكل.
فهناك فجوات مختلفة، وما أوردته في مثالي هو فقط الفروقات البيئية والثقافية، وشخصيا كنت دائما على موعد مع الملل في كل محاضرة، لأن طريقة التعليم في كليتي كانت تتطلب قراءة تهجئة للنص قبل الخوض في الشرح، تماما مثلما يفعل طلاب الابتدائية في حصة المطالعة، لعل هذا كان مثمرا في عقول بعض الطلاب، ولكني أؤكد لكم أنه كان قاتلا لعقول البعض الآخر.
لنفترض مثلا أن معلم الرياضيات يشرح للفصل الذي يتكون من أربعين طالبا قاعدة من قواعد الرياضيات المعقدة، فإن شرحها في عشر دقائق كان ذلك كافيا لطالب أو اثنين أو لتقل إن شئت نصف الفصل، وإن شرحها في عشرين دقيقة كان ذلك كافيا لشخص او اثنين،
وضاع من الأول عشر دقائق من وقته الثمين، وهكذا إن زاد الوقت أو نقص، هذا في الوقت، ماذا عن طريقة الشرح، فطالب يحب المثال ولا يفهم إلا به، وآخر تكفيه سرد المعلومة، وآخر لا هذا ولا ذاك، فهو يحب أن يقرأ أولا النص ويستوعب العبارة.
ينتج من ذلك يا أعزائي ملل وإضاعة وقت، وظلم كبير، فلا يمكن أن يخوض العصفور مسابقة سباحة مع السمك، ولا يمكن للسمك أن يخوض مسابقة طيران مع العصفور، ونحن نفعل شيئا كهذا عندما نجمع حفنة من الأطفال الأذكياء على منهج وأستاذ ووقت واختبار موحد.
ولأنني أشفق عليكم شفقة الأخ المؤمن لأخيه المؤمن، لا تدع أحدا مهما سما نفسه دكتورا يتعامل معك كما يُتعامل مع علب التونة، أرجوكم لا تسلموا أولادكم للمصانع.
إعــداد : عبد الوهاب محمد