الدارونية وتأثيراتها السلبية على العلوم والفنون
الناظر في تأثيرات الايدلوجيات المادية المعاصرة والنظرية الدارونية كأساس علمي لها يجد الأثر السلبي والتراجع المعرفي نتيجة تتبع المناهج العلمية الحديثة.
هذا المنهج الذي يشكل خطورة على المعرفة الإنسانية بجميع أشكالها ولعلنا في هذا المقال نكثف الصورة حول التأثير الداروني على علم الفن والجمال الذين يعتبران ميزة حضارية للأمم والشعوب وتتشكل من خلالها رؤي ونظريات في فهم الوجود وحركة موجوداته.
فما أن تخلصت العقلية الأوروبية من التجسيد الوثني الاغريقي وتأثيراته على الكنيسة في مجال الفن حتى انتهى بهم الأمر إلى النظرية الدارونية أصل الأنواع، التي تعتبر من أهم النظريات التي تأسست عليها المعارف والعلوم الأوروبية المعاصرة ومن ضمنها الفن[1].
“وخلاصة هذه النظرية أن الأحياء الأرضية قد نشأت من أصل واحد, ضمن الأحياء المائية ثم نشأت الأحياء البرمائية, ومن هذه الأحياء نشأت الأحياء البرية… ومن الحيوانات البرية نشأ الإنسان الذي لا يفصله عن القرد سوى حلقة واحدة “هكذا تقررت “حيوانية” الإنسان.
وبالتالي نُفي الجانب الروحي “يقول التاريخ الأوروبي: إن نظرية داروين كانت نقطة تحول في نظرية العلوم, وإنها أثّرت في اتجاه التفكير البشري, بحيث يمكن تتبع آثارها في كل ما أنتجه العلماء في العهد الأخير”[2]
وقد تأثر بها فرويد[3], وأول ما يبدو من هذا التأثر هو نظرته للإنسان على أنه مخلوق أرضي, عالمه كله محصور في هذا النطاق الضيق القريب.
وتأثر به من زاوية أخرى حيث تابعه في قوله: “أن غرائز الإنسان هي الامتداد الطبيعي لغرائز الحيوانات السابقة له في سلم الصعود “فكانت نظرية داروين حكماً بحيوانية الإنسان من خلال علم الأحياء ثم كانت نظرية “فرويد” حكما بحيوانيته مرة أخرى في ميدان علم النفس.
وهذا ما اعتمد عليه أصحاب الجمال التجريدي, فقد حاول أحد دعاة هذه المدرسة “أن يقيس شدة الإحساس ذات الطابع الذاتي الكيفي عن طريق قياس منبهاتها الموضوعية بكمية، فوضع منهجاً وقاس به لذة الشعور بالجمال وهي لذة داخلية شخصية بحته”.
وقد استغل بعضهم هذا الاتجاه التجريبي في مجال الدراسات الجمالية لوضع أسس مادية، أو قياس كمية لظاهرات الجمالية بصفة عامة ومن المحاولات قيام بعض المنشغلين بالفن بالمسائل العامة بترتيب مسابقات لجمال الأجسام ووضع شروط استقرائية للتحكيم في هذه المباريات” وتحول الجمال إلى مادة تقاس وتحسب هذا هو الجمال في الإنسان وزن وطول ومقاسات وربح وماده وعقود, وسلعة تباع وتشترى.
أما في الإسلام فيعتبر التوحيد هو هدف وغاية الفلسفة الإسلامية للفن، وهي علاقة جمالية يرتكز عليها الإحساس الجمالي من خلال الاتزان والتوافق والتناغم بين الخالق والمخلوق،
ويؤكد ذلك أن هذه العلاقة الجمالية فكرية واقعية معا، فكرية مجردة في التوحيد وواقعية متمثلة بالعبودية لله من خلال العبد.
ويعبر عبد الفتاح رواس عن مفهوم الجمال الإسلامي من خلال التوحيد “بأنه إحساس صاعد نحو الأعلى، فعندما يرى الإنسان الجمال في الإنسان أو النبات أو صوت المياه يذكر الله وهذا بمثابة حركة ارتقاء وصعود، وعناصر الجمال في الكون ونظم العلاقات فيما بينها هي نظم تشير إلى مبدع هذا الجمال.
وليس هنالك جمال مقطوع الصلة بخالقة، ففي إطار المفهوم الإسلامي للجمال كل جمال ينشأ عن الخالق الواحد مبدع الجمال، وكل جمال في الفنون والصنائع ينشأ عن الإنسان. “بل تصل الحفاوة في القرآن الكريم في الصور الفنية للطبيعة بأن تكون دالة على صفاته واستخدامها في مجال التنزيه المطلق
[1] وخذ مثالاً على ذلك “سارتر” الذي تطور في فكره من خلال الأدب والسياسة والفن إلى أن صارت الوجودية تتكامل مع الماركسية, وتخلل تلك المرحلة حوار بين سارتر والماركسية, إلى أن أصبح سارتر وجودياً من نوع خاص.
أنظر: الصباغ, رمضان, فلسفة الفن عند سارتر وتأثير الماركسية عليها, د.ت .
[2] قطب، محمد. منهج الفن الإسلامي، بيروت: دار الشروق، الطبعة السادسة,1403ھ/1983م.
[3] هو طبيب نمساوي من أصل يهودي، اختص بدراسة الطب العصبي. يعتبر مؤسس علم التحليل النفسي. واسمه الحقيقي سيغيسموند شلومو فرويد (1939)، و هو طبيب الأعصاب النمساوي الذي أسس مدرسة التحليل النفسي وعلم النفس الحديث.
فرويد هو الذي اشتهر بنظريات العقل واللاواعي، وآلية الدفاع عن القمع وخلق الممارسة السريرية في التحليل النفسي لعلاج الأمراض النفسية عن طريق الحوار بين المريض والمحلل النفسي.
في حين أنه تم تجاوز الكثير من أفكار فرويد، أو قد تم تعديلها من قبل المحافظين الجدد و”الفرويديين” في نهاية القرن العشرين ومع التقدم في مجال علم النفس بدأت تظهر العديد من العيوب في كثير من نظرياته، وأفكاره لا تزال تؤثر في بعض العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية. أنظر: فرويد, سيغموند. الحياة الجنسية، ترجمة جورج طرابيش، بيروت: دار الطليعة، الطبعة الثانية, 1999.
د/ محمد بن عبد الحميد القطاونة: دكتوراه الفكر والفلسفة الإسلامية جامعة ملايا/ كوالالمبور / ماليزيا
أكاديمي وعضو هيئة تدريس عمل في عدد من الجامعات العربية والدولية في تخصص الفكر والفلسفة الإسلامية ويدرس باللغة الإنجليزية والعربية، ولديه العديد من البحوث في أوعية نشر دولية ويعمل كعضو تحكيم في عدد من المجلات) سكوبس.
كاتب في المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ولديه العديد من المحاضرات الفكرية والفلسفية على المستوى الدولي في حوار الحضارات، والمناهج الفكرية المعاصرة، ومناهج الفكر الحديث.