سرديات

السردية الحديثة – نشأتها وآفاقها

شهد الفكر الإنساني، والحركة الأدبية العالمية تحولات كبيرة مع نشأة الفن القصصي منذ القرن الخامس عشر الميلادي، وازداد هذا التحول أهمية، فشكّل انعطافة فكرية وثقافية وأدبية مؤثرة مع نهاية القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، حيث ميلاد الرواية والقصة القصيرة.

إذ أسهمت الرواية والفن القصصي على نحو عام إسهاماً كبيراً في تغيير العقلية الأوروبية، وبناء الإنسان، وتغيير ضمير العالم المتمدِّن، إذ إنّ ثورة الخيال هي التي غيّرت أوروبا – حسب قول (كولن ولسن) – وليست الثورة الصناعية ولا الثورة الفرنسية، إذ لم يحدث أي شيء في أوروبا يمتاز بالثورية التامة إلى حوالي سنة 1740. وقد مثّلت الرواية بعداً جديداً في الحرية الإنسانية.


وقد رافقت هذا التحوّل في المجال الأدبي، تحولات أبرز في مجال نقد الرواية، بدءاً بالنقد الروائي الكلاسيكي متزامناً مع ظهور مدرسة النقد الجديد، ومروراً بميلاد السردية على يد توردورف وجينيت تحت تأثير لسانيات سوسير وجهود الشكلانيين الروس والبنيوية، وانتهاء بالسرديات المعاصرة التي تأثرت بمبادئ ما بعد الحداثة، والمناهج ما بعد البنيوية، وفي مقدمتها السيميولوجيا والنقد الثقافي والتفكيكية ونظريات التلقي.

فأصبحت القراءة النقدية الحديثة حواراً بين المتلقي والنص، ويتم هذا الحوار عبر وجود فراغات نصية، تستدعي مشاركة القارئ من أجل ملئها والتواصل بفاعلية معها، ويعد رصد الخطابات المضمرة، وإلقاء الضوء عليها، سمة أساسية من سمات هذا التواصل والتفاعل، وعن طريق الاشتغال على هذه الأبعاد الغائبة، وإبرازها، يحقق النص وجوده، ويثبت القارئ في الوقت نفسه جدارته وتكون قراءته قراءة منتجة.


لا تكمن أهمية السرديات ومدياتها النقدية في الاشتغال على الأدب ولا سيما الرواية وفن القصة، والمسرحية، حسب، بل ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحياة الإنسان المعاصر وهمومه ومشاكله وتطلعاته، وذلك تزامناً مع التطورات الكبيرة التي شهدها الوعي الإنساني تجاه ذاته وقضاياه وأبعاده الوجودية والاجتماعية.

ويرى الدارسون أنّ السرد ليس مجرد شكل أو طراز أدبي، بل هو مقولة معرفية أساسية، إذ لا يقدم الواقع نفسه للذهن الإنساني إلاّ على شكل قصص، وأنّ الزمن يبقى عصياً على الفهم ومستغلقاً من دون اللجوء إليه وإلى الكتابة التاريخية، كما يذهب إلى ذلك بول ريكور. فالرواية – حسب قول الفيلسوف الفرنسي المعاصر ريجيس دوبريه – أكثر إخلاصاً للواقع وقرباً منه لأنّ الواقع مرتبك ومحيّر.

ويذهب المفكر والناقد (إدوارد سعيد) في كتابه (الثقافة والإمبريالية) إلى أنّ الرواية كانت عظيمة الأهمية في صياغة وجهات النظر، والإشكالات، والتجارب الإمبريالية، وغدت القصص – في الوقت نفسه – الوسيلة التي تستخدمها الشعوب المستعمَرة لتأكيد هويتها الخاصة، ووجود تاريخها الخاص؛ والأمم هي ذاتها سرديات ومرويات.

وإنّ القوة على ممارسة السرد، أو على منع سرديات أخرى من أن تتكون وتبزغ، لكبيرة الأهمية فيما يتعلق بالثقافة والثقافة الإمبريالية. وإنّ هذا التداخل بين السرد والحياة ليس أمراً طارئاً على الأدب والنقد الأدبي، إذ نجد تبادلاً مشتركاً للتأثير والتأثر بين الأدب والنقد الأدبي مع الحقول المعرفية الفكرية والفلسفية منذ عهد الإغريق،

كما يشهد بذلك كتاب (فن الشعر) لأرسطو، الذي استنبط أسس وقواعد الأدب من مسرحيات سوفوكليس على نحو كبير، وأخذ التبادل المعرفي بين المجالين منحى جديداً مع ظهور مدرسة التحليل النفسي على يد فرويد، الذي عكف على قراءة سوفوكليس، واستنبط من مسرحيته (أوديب ملكاً) عقدة أوديب.

ثم شهد هذا الأخذ والتبني من مجال الفلسفة والسرد إلى مجال النقد الشعري والسردي، تطورات موحية جديدة، على هدي تداخل الفنون والأجناس الأدبية، وشفافية الحدود بين الفلسفة وعلوم الاجتماع والنقد الأدبي، ما يعني أن النقد الأدبي ولا سيما النقد السردي كان منفتحاً منذ زمن طويل تجاه حقول معرفية مختلفة، وميادين علمية متعددة، فإن لم يفعل ذلك ولم يتغذ النقد الأدبي، ومعه النقد السردي من معطيات الإنجازات المعرفية المتعددة، والابتكارات العلمية المستمرة، فإنّه يجف ويبذل، كما يشير إلى ذلك النقاد والفلاسفة المعاصرون.


إنّ السردية أو علم السرد Narratology هو دراسة القصص واستنباط الأسس التي يقوم عليها وما يتعلق بذلك من نظم تحكم إنتاجه وتلقيه. ويعد علم السرد أحد تفريعات البنيوية الشكلانية كما تبلورت في دراسات كلود ليفي – ستراوس، ثم تنامى هذا الحقل في أعمال دارسين بنيويين آخرين، منهم البلغاري تزفيتان تودورف Tzvetan Todorv، الذي يعده البعض أول من استعمل مصطلح (السردية Narrtology).

ويشير الباحثون في هذا الصدد إلى أنّ علم السرد بدأ بالتشكل “بصفته علماً له قواعد وأصول في عام 1966، العام الذي أصدرت فيه الصحافة الفرنسية (تواصل) عدداً خاصاً بعنوان التحليل البنائي للسرد، أما مصطلح علم السرد فقد نحت بعد ذلك بثلاثة أعوام، من قبل أحد المساهمين في العدد الخاص: تزفتان تودوروف 1969″(1).


ومع صدور كتاب (خطاب الحكاية – 1972) لـ (جيرار جينيت) وجدنا أنفسنا أمام تقديم علمي لنظرية متكاملة للسرد. فهو ينطلق من قراءة التصورات السابقة كلها، ومن خلال نقده إياها يقدم مشروعاً منسجماً مع ما سبق، وتكامل المشروع مع جهود الفرنسي ألغراد جوليان غريماس، والأمريكي جيرالد برنس(2).

تسعى السردية إلى كبح جماح النزعة التفسيرية في قراءة النصوص، كما كان يحدث كثيراً في النقد الأدبي. فبدلاً من تفسير النصوص؛ يسعى علم السرد إلى استخراج القوانين التي تمنح النص ما يجده المفسر من دلالات (3). فأصبحت السردية علماً معترفاً به بوصفها مبحثاً متخصصاً في دراسة المظاهر السردية للنصوص السردية، ففيه تثبيت لمفهوم السرد، وتنظيم لحدوده(4).

والسردية أساساً تبحث في السرد بوصفه جنساً أدبياً، كما تبحث كذلك في استنباط القواعد الداخلية للأجناس السردية، واستخراج النظم التي تحكمها وتوجّه أبنيتها، وتحدّد خصائصها وسماتها، فهي المبحث النقدي الذي يعنى بمظاهر الخطاب السردي، أسلوباً وبناءً ودلالة، وهو يصف المتغيرات والثوابت والتركيبات الأنموذجية للسرد، كما يوضح كيفية ارتباط هذه السمات للنصوص السردية داخل إطار النماذج النظرية(5).


وقد أدّى التطور الحاصل على أوجه الخطاب السردي، إلى تبلور اتجاهين سرديين أساسين؛ أوّلهما: السيميائيات السردية أو سيميولوجيا السرد، وثانيهما: السرديات أو السردية اللسانية(6). أمّا المتون أو النصوص التي يشتغل بها الاتجاهان فهي حافلة بالاختلافات القائمة بينهما، وفيما يخص السرديات السيميائية – بوجه عام – فهي تشتغل إمّا بالحكايات البسيطة أو الأساطير، وإمّا بالقصص القصيرة، ثم توسعت دائرة اهتماماتها بالحقول المعرفية البشرية المختلفة المتعددة.

لهذا قد يسمّى هذا الاتجاه بـ(السردية التوسيعية) التي تطلّعت إلى إنتاج هياكل عامة، توجّه عمل مكونات البنية السردية، من أجل توليد نماذج شبه متماثلة، على غرار التوليد اللغوي في اللسانيات(7). أما السردية اللسانية فينصبّ اهتمامها أكثر على الروايات ذات الخصوصية الفنية(8).

كما نجد ذلك في بحوث تودورف، وجينيت، التي تستوعب مظاهر الخطاب السردي كلّه، وتسعى إلى إخضاع الخطاب لقواعد محددة بغية إقامة أنظمة دقيقة تضبط اتجاهات الأفعال السردية، وقد يسمّى هذا الاتجاه بـ(السردية الحصرية) (9).

ويدلّ وجود هذه التفصيلات في مستوى المتن ومستوى الخطاب السردي، أن النصوص القصصية والروائية “لا تحدد فقط بمضمونها، ولكن أيضاً بالشكل أو بالطريقة التي يقدّم بها ذلك المضمون”(10). تأسيساً على ذلك، ومن أجل تطوير مجالات السردية، يسعى بعض السرديين أمثال (شاتمان Chatman) 1978 وجيرالد برنس Gerald Prince (1982) إلى الجمع بين هذين الاتجاهين الذين يعرفان باتجاه (الماذا) واتجاه (الكيف) أو ماذا يسرد وكيف يسرد(11).


يادكار لطيف الشهرزوريجامعة صلاح الدين / أربيل.


(1) علم السرد – مدخل إلى نظرية السرد، يان مانفيد، ت: أمالي أبو رحمة: 51 .

(2) م.ن: 51 .

(3) دليل الناقد الأدبي: 103 – 105.

(4) ينظر القاموس الموسوعي الجديد الجديد لعلوم اللسان، أوزوالد ديكرو وجان ماري سشايفر، ت: د.منذر عيّاشي: 29. وينظر السرديات، كريستيان إنجل وجان إيرمان، ضمن كتاب نظرية السرد من وجهة النظر إلى التبئير، ت: ناجي مصطفى: 97.

(5) مدخل إلى علم السرد: 25.

(6) ينظر القاموس الموسوعي الجديد: 29. وينظر السرديات، كريستيان إنجل وجان إيرمان، ضمن كتاب نظرية السرد من وجهة النظر إلى التبئير: 97. وقال الراوي- البنيات الحكائية في السيرة الشعبية، سعيد يقطين: 13-14، وموسوعة السرد العربي، د. عبدالله إبراهيم: 7 – 8.

(7) ينظر موسوعة السرد العربي: 8.

(8) ينظر الكلام والخبر، مقدمة للسرد العربي، سعيد يقطين: 29 – 30.

(9) ينظر موسوعة السرد العربي: 8.

(10) ينظر بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، د.حميد لحمداني:45 – 46

(11) ينظر دليل الناقد الأدبي: 105، والسرديات ضمن كتاب نظرية السرد: 97.


صحيفة المثقف

يادكار لطيف الشهرزوري

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى