سرديات

شمولية السرد الذاتي

 

كانت بطاقة التعريف هي الوسيط الوحيد الذي يعرّف به الشخص في المجتمعات ما بعد الفلاحية. وكان رجال الأمن عندما يمسكون بأحدهم يسألونه عن بطاقة التعريف. ومن ليست عنده هذه البطاقة يحتجز ريثما يتم التعرف عليه.

بهذه البطاقة يتميز الناس عن بعضهم بعضا. مع الثورة الرقمية وإمكانية التوفر على حاسوب، أو جهاز ذكي، صارت السيرة الشخصية (CV) الوسيط الجديد الذي يتميز به الأفراد، وبواسطته ينخرطون في العمل. إنها بمثابة البطاقة الوطنية، أو بطاقة الزيارة التي لم يكن يتوفر عليها إلا من له إمكانات طبعها لتوزيعها لمن يودون التواصل معه.

ساهمت الثورة الرقمية في دمقرطة المعلومات، وفي الوقت نفسه غذت الشعور بالذات، وذلك بسماحها لأي كان بأن يحتل له موقعا على شاشة وسيط، ليخط عليها ذاته في كل أحوالها الإيجابية والسلبية، وفي تواصلها مع الآخرين، أو في إلحاق الأذى بهم. صارت الذات تقدم نفسها بالنص والصورة والصوت والحركة، بشكل لم يتحقق في أي زمان.

لم يكن هذا واقعا قبل عقدين من الزمان. كان المرء يتستر على صور العائلة، ولا يريها إلا لأعز الناس لديه. كما أن كتاباته الحميمية، ومذكراته لا يسمح لأي كان بأن يطلع عليها. كل ما كان يتصل بذاتية الفرد كان أشبه بالمقدس، ولا يمكن الاطلاع عليه إلا كالوصية، أي بعد الموت. كما أن الكتابة عن الذات، من خلال السيرة الذاتية لم يكن متاحا إلا لقلة من الكتاب الذين احتلوا مكانة خاصة في المجال الثقافي والأدبي.

صارت الذات الآن، تعري نفسها، وتقدمها بالمكشوف، وفي كل حالاتها. كما أن كتابة السير الذاتية باتت مفتوحة أمام الجميع، يشترك فيها الكتاب وغيرهم من السياسيين ورجالات الاقتصاد والمال والفنانين. ومن لم تكن عنده إمكانية الكتابة يستكتب من ينوب عنه في تقديم ذاته للآخرين، إما في نص سردي، أو من خلال «الحديث الذاتي» الذي يقدم في شكل محاورة، فما الذي جعل الذات الفردية تعمل على تقديم نفسها بالصورة التي تفضحها الوسائط الجديدة؟

كتابة السير الذاتية باتت مفتوحة أمام الجميع، يشترك فيها الكتاب وغيرهم من السياسيين ورجالات الاقتصاد والمال والفنانين.

إلى جانب الإمكانيات التي وفرتها الوسائط الجديدة، عبر تمكين الجميع من تقديم ذاته على النحو الذي يريد، نجد لطبيعة العصر الذي تغيرت فيه العلاقات والقيم، دورا كبيرا في ذلك. فمنذ نهاية الحرب الثانية في الغرب، وبداية الألفية الجديدة في الوطن العربي، وبسبب تراكم الحروب والصراعات، والاحتجاجات، بهدف تغيير الأوضاع من لدن فئات من المجتمع، ورغبة في الحفاظ عليها من لدن المتحكمين في المصائر، وانتقال المجتمع السياسي، من لعب دور حيوي في إصلاح أحوال الأمم، إلى التفكير في الحصول على السلطة بأي طريقة، هيمن فقدان الثقة في جل المؤسسات، وفي أصحاب الوزارات البيضاء والسوداء، وبات الفرد والمجتمع معا عرضة لماسكي السلطة، والمتحكمين في الرقاب.

من نتائج ذلك بات البحث عن الذات، والتفكير في الحل الفردي سائدا لدى الجميع. وكل يفكر، ويعمل من أجل إثبات ذاته، وفرضها على الآخرين. أمام سيادة الاكتئاب والعزلة وتدهور العلاقات الاجتماعية والأسرية المختلفة، بات التفكير في البدائل يفرض نفسه بإلحاح. بات الطب البديل والشعبي، والإيمان بالخرافات يُقدم على الطب الذي تحول إلى تجارة مربحة. كما أن انعدام الثقة في الزعيم السياسي، والواعظ الديني، بات يفرض البحث عن الكوتش، وعن النادي، كما أن اعتماد الطرق الخاصة في التربية الذاتية وتطوير الذات، أمسى يثير الاهتمام، ويدفع في اتجاه التكوين الذاتي، بدل المدرسة والجامعة التي لم تبق لهما أي وظيفة ثقافية أو اجتماعية.

كل هذه العوامل وغيرها ساهمت بدرجات متفاوتة في فرض التوجه إلى الذات، والعمل على تقديمها، ولا سيما بعد تنامي الدعوات، من كل حدب وصوب، إلى الاعتراف بكل أنواع صور الأفراد التي كانت سرية، أو مرفوضة في كل المجتمعات في زمن سابق، وصارت الآن تجد لها «شرعيتها»، ولم تبق محاطة بما كانت توسم به من شذوذ وهامشية.

لا عجب في هذا السياق أن نجد الكتابة عن الذات تنتشر على نطاق واسع، وتظهر إلى جانبها أنواع سردية متعددة تتمحور حول الذات. لم تبق الكتابة هي الوسيط المهيمن للتعبير عنها، صار كل واحد يرى نفسه مؤهلا للحديث عن ذاته، ويعمل على فرضها على الآخرين. ومن تعوزه الكتابة استعمل الصوت والصورة، ولا عبرة بالطريقة، أو المصداقية، أو الأهلية، وقد دفع هذا إلى التفكير في تجاوز ما كان يسمى في الدراسات الأدبية بـ»السيرة الذاتية» إلى «التخييل الذاتي»، باعتباره نوعا بديلا عن التقليد الذي كان سائدا.

تتطور الأنواع بتطور المجتمع، ووسائطه، كما أن الإنسان يتحدث عن نفسه في كل زمان ومكان. ولما كان هذا الحديث يتحقق من خلال السرد، نسمي الجنس الجامع لكل ما يتصل بالتعبير عن الذات: «السرد الذاتي». لهذا السرد تاريخ يتحقق من خلال أنواع تظهر وتختفي تبعا للعصور. السرد الذاتي يفتح إمكانات جديدة للبحث ولاستكشاف التعبير عن الذات، بغض النظر عن الزمان، أو الوسيط، أو النوع.

 

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

تعليق واحد

  1. عندما أصبح كل من هب ودب يتحدث عن نفسه ، معتبرا ذلك سيرة ذاتية ، فقدت السيرة الذاتية قيمتها الأدبية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى