نقد

الرواية والتراث السردي

 

  • تأطير
” تحاكي الرواية بسخرية كل الأنواع الأخرى ( وبالضبط لأنها أنواع ) ، وهي بذلك تكشف عن أشكالها ولغتها التعاقدية . إنها تقصي بعضها ، وتدمج بعضها الآخر في بنيتها الخاصة، معيدة تأويلها ، ومانحة إياها رنة أخرى …”
  • ميخائيل باختين
كثيرة هي النصوص السردية العربية الحديثة التي تشكلت على قاعدة إحدى العلاقات التي تقيمها مع التراث السردي العربي القديم . ويمكننا ضبط مختلف أوجه هذه العلاقات الكائنة والممكنة من خلال الشكلين التاليين :

1 . الانطلاق من نوع سردي قديم كشكل ، واعتماده منطلقا لإنجاز مادة روائية ، وتتدخل بعض قواعد النوع القديم في الخطاب ، فتبرز من خلال أشكال السرد أو أنماطه أو لغاته أو طرائقه . ويمكن التدليل على ذلك بحضور أنواع ذات أسلوب قديم كالمقامة والرسالة والرحلة وكتابة المشاهدات وحكي الوقائع ،،، وما شابه هذا ، كما نجد في رحلة ابن فطومة ورسالة الصبابة والوجد وتغريبة بني حتحوت والوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل وحدث أبو هريرة قال …

وحضور النوع القديم في الرواية ، كما يمكن أن يتجسد على صعيد كلي ، يمكن أن يأخذ شكل بنيات سردية صغرى ، على صعيد جزئي . وعديدة هي النصوص الروائية العربية التي تحضر فيها هذه البنيات النوعية على شكل مناصات تاريخية أو دينية أو سردية … متضمنة في الرواية، ونلاحظ كون هذا الشكل هو المهيمن.

2 2 . الانطلاق من نص سردي قديم محدد الكاتب و الهوية ، وعبر الحوار أوالتفاعل النصي معه ، يتم تقديم نص سردي جديد (الرواية)، وإنتاج دلالة جديدة لها صلة بالزمن الجديد الذي ظهر فيه .

على هذا الشكل الأساسي الثاني ينصب اهتمامي في هذا الكتاب ، وسأحاول معالجته من خلال البحث عن كيفية ” تعالق ” أو ” تعلق ” نص جديد ( الرواية ) بنص سردي قديم ، وذلك عبر الركيز على النماذج التالية :

ـ الزيني بركلت : بدائع الزهور.

ـ ليالي ألف ليلة : ألف ليلة وليلة .

ـ نوار اللوز : سيرة بني هلال .

ـ ليون الإفريقي: وصف إفريقيا .

عديدة هي العلاقات التي تأخذها النصوص بعضها ببعض . وما زال النقد العربي يركز على واحدة منها ، مختزلا فيها كل أنواع العلاقات ، وأقصد بذلك “التناص ” . في كتابي ” انفتاح النص الروائي ” قدمت خطاطة عامة يمكن أن تشكل في حال توظيف واستخدام مختلف مكوناتها وعناصرها تصورا شاملا ، يلعب دورا هاماا في تطوير ” نظرية النص ” عموما ، و” نظرية التفاعل النصي ” بوجه خاص .

في الكتاب السالف الذكر لم أشتغل إلا بثلاثة أنواع فقط ، من التفاعل النصي هي : المناصة ، التناص ، الميتانص ، باعتبار تحققها الداخلي ( داخل النص ) ، أو بالنظر إليها بصفتها بنيات نصية يستوعبها النص ، ويتفاعل معها داخليا ، وباعتبار السياق النصي الذي ظهرت فيه ، والذي تتفاعل معه خارجيا ، وذلك من خلال تحليل التفاعلات النصية الداخلية نفسها على مستوى خارجي من جهة ثانية .

يأتي هذا البحث امتدادا وتوسيعا للمبحث الموسوم ب ” التفاعل النصي ” في الكتاب المذكور أعلاه . وهنا اسعى إلى معالجة مستوى آخر من مستويات التفاعل النصي . وهو ماأسميه ب ” التعلق النصي ” باعتباره مقابلا لـ ( Hypertextualité ) .

إن هذا النوع يتميز عن غيره من أنواع التفاعل النصي ، بسبب العلاقة التي تقوم بين نصين متكاملين : أولهما سابق (Hypotexte ) ، والثاني لاحق ( Hypertexte) ، وأن النص اللاحق ” يكتب ” النص السابق بطريقة جديدة . ولما كان النص القديم السابق متصلا بالتراث ، والنص الجديد اللاحق يدخل في نطاق الرواية جعلنا وكدنا البحث في علاقة الرواية بالتراث من هذه الزاوية ، وتساءلنا عن كيفية قراءة الروائي للتراث السردي القديم من خلال فعل الكتابة . وعالجنا هذه العلاقة من خلال ” التعلق النصي ” ضمن إشكال عام هو : علاقة العربي الآن بتراثه القديم ، وهذا ما حاولنا تجسيده من خلال العنوان الأساس : الرواية والتراث السردي .

الرواية نوع أدبي جديد في الإبداع الأدبي والثقافي العربيين . والرواية العربية باعتبارها نصا ، شأنها في ذلك شأن أي نص كيفما كان جنسه او نوعه ، تتفاعل مع مختلف النصوص كيفما كانت طبيعتها ، انطلاقا من تفاعلها مع واقعها . وحين نركز في هذه الدراسة على تفاعل الرواية العربية ، من خلال بعض النماذج مع التراث ، فذلك يكمن في خصوصية المسألة التراثية في فكرنا الحديث والمعاصر . ونقصد من وراء التفكير في علاقة الرواية بالتراث أن نتساءل عن طبيعة هذه العلاقة ونوعيتها ، لتتاح لنا إمكانية الانتقال إلى ظاهرة أعم ، وهي علاقة العربية بتراثه بناء على التصور المنطلق منه في معالجة الرواية وصلتها بالتراث. وذلك ما حاولنا تجسيده في العنوان الفرعي ” من أجل وعي جدي بالتراث ” ليكون ذلك مدخلا لبحثنا واشتغالنا بالترث السردي العربي في أعمال لاحقة .

إننا في هذا العمل نسعى إلى معالجة التعلق النصي داخل نطاق التفاعل النصي بين الرواية والتراث السردي العربي القديم ضمن إشكالية مزدوجة نبسها للتوضيح على النحو التالي ، على أن تكون مدار البحث في هذه الدراسة :

1 . علاقة الرواية بالسرد القديم : التعلق النصي .

2 . علاقة الرواية بالنص التراثي : ” نصية ” الرواية .

3 . علاقة التفكير العربي بالتراث : التفاعل النصي .

4 . علاقة العربي بتراثه : نظرية النص .

من التعلق النصي على التفاعل النصي ، ومن نصية الرواية إلى نظرية النص نكون ننتقل من الخاص ( الرواية ) إلى العام ( النص ) ، أو من الأدبي إلى الفكري كما يطرحان على صعيد التفكير والممارسة في النشاط المعرفي العربي الحديث في علاقتهما بقضية حساسة هي : مسألة التراث .

هذا طموحنا ، وهومتشعب ينتقل من الأدبي الخاص ( تنظيرا وتحليلا ) إلى الثقافي العام ( بحثا عن وعي جديد بالمسألة التراثية ) ، ورغبة في الانخراط في الأسئلة الفكرية العربية المعاصرة من منظور نقد ي ومفتوح على آفاق أرحب للسؤال والبحث والحوار …

الرباط في : 16/6/1990

 

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى