الدراسات الأدبيةسردياتسينما ومسرحنقد

رولان بارت – ملاحظات على مسرح عصرِه

لطالما أحببت المسرح، لكنني لا أذهب إليه اليوم”
رولان بارت

إلى جانب المؤلّفات، تمتلك النصوص أو الدراسات الموازية التي يضعها الكتّاب والمفكّرون والنقّاد الكثير من الأهمية في فهم عوالمهم وتصورّاتهم. وقد لا تسعفهم عوامل كثيرة كي يُصدروا هذه النصوص أو المقالات في كتاب يجمعها، بما في ذلك مِن فائدة تتمثّل في إضاءة بعض من الإشكالات المرتبطة بمشاريعهم النظرية أو الإبداعية. الناقد والمنظّر الفرنسي رولان بارت (1915 ـ 1980) أحد هؤلاء، وهو الذي قضى نحبه في حادث سير حين كان في أوج مسيرته الفكرية، وبقيت الكثير من مقالاته موزّعة بين المنابر التي كتب فيها تنتظر من يجمعها.

في مؤلفات بارت، قلّما نجد مقاربات لأسئلة موازية تتعلّق بمجالات التعبير الإبداعي: السينما والتشكيل والمسرح. الغريب أنه في مرحلة الخمسينيات من القرن الماضي، كان بارت على علاقة مباشرة بأربعة من رموز الحركة المسرحية. وحين بدأ في الكتابة، كان يتابع مرحلة زخم تعيشها الحياة المسرحية بظهور مدارس واتجاهات كان لها تأثير مباشر على المسرح ومستقبله. خلال سنوات الخمسينيات هذه، كتب أكثر من ثمانين مقالاً حول المسرح نُشرت في العديد من المجلّات تظلّ أهمها مجلّة “المسرح الشعبي”، وكان ذلك في وقت كان يكتب فيه أحدَ أبرز أعماله “الدرجة الصفر في الكتابة” (1953). غير أنّه توقّف فجأة عن الذهاب إلى قاعات العروض وانسحب من الكتابة حول المسرح، وإن كان كتابه “الغرفة المضاءة” (1980) قد حمل أثراً لانشغالات فكرية عميقة بالمسرح الفرنسي.

“اقترح بارت كتابة فريدة يمتزج فيها المنظّر بالمتفرّج”

في 2002، قام الكاتب الفرنسي جون لو ريفيير بتجميع وتقديم هذه الدراسات والمقالات المتفرّقة لـ رولان بارت عن المسرح في كتاب حمل عنواناً بسيطاً هو “كتابات عن المسرح” عن دار النشر الفرنسية “سوي”. هكذا قدّم ريفيير 62 مقالاً ودراسة في كتاب يبدو أن بارت تمنّى لو أشرف على إنجازه.

بالعودة إلى العلاقة التي جمعت بارت بالمسرح، من الجيّد أن نشير إلى أنها انبنت على رؤى متعدّدة. إنها علاقة مركّبة بامتياز، حيث نجد أن بارت يأخذ أكثر من دور؛ كمتفرّج وشاهد وناقد ومنشّط ثقافي. بفضل ذلك ربما، استطاع صاحب “ميثولوجيات” أن يمسك بعناصر الألق في المسرح الحديث، خصوصاً تلك الفتوحات التي أطلقها المخرج والكاتب المسرحي الألماني برتولد بريشت، ليربطها بأمجاد المسرح في بداياته أي في الحضارة اليونانية القديمة، إضافة إلى انفتاح كتاباته على الجوانب التاريخية والاجتماعية والسياسية والتي لا يمكن أن تنفصل عن العمل المسرحي، وإن ظلّت أطروحاته النظرية أهم ما قدّم؛ فانطلاقاً من تخصّصه في السيميولوجيا، لامس بارت طاقة المسرح وقدرته على التأثير الجمالي، وانهمك في مساءلة الأثر الحميمي والوجودي للعمل الفنّي على المتلقّي.

من أطرف نصوص الكتاب ما نقرؤه حين يتذكّر صاحب “المغامرة السيميولوجية” علاقته الأولى بالمسرح، في سنوات عقده الثاني، وخصوصاً احتكاكه بمسرح الكارتيل الذي يشكل تجمّعاً لأربعة مخرجين (ديلان، جوفيه، باتي، وبيتوييف). ومن البداية، يبدو لافتاً اتجاه بارت إلى رؤية المسرح كتعبير متكامل، أو بعبارة سيميولوجية مادّة كثيفة بالعلامات، ما جعله أحد الفنون الأكثر إغواءً لباحث في السيميولوجيا.

من مفارقات بارت في علاقته بالفن الرابع أنه رفض مسرح التنكُّر، بالرغم من أن السيميولوجيّين اللاحقين – وبعضهم من تلامذته – قد وجدوا في هذا الشكل خصوبة دلالية عالية، إذ كان بارت ميّالاً إلى أن يرى الممثّل يقدّم أدواره بحسّ ساخن وبمقولات واضحة. ولعل هذه الملاحظة، هي ما جعلته في لحظة مهمّة يتوقّف عن الاهتمام بالمسرح. رغم أنه سنة 1936، يتذكّر تجربته مع رفاقه في السوربون وقيامهم بخوض تجربة مسرحية كلاسيكية، إلّا أنَّ عودته القوية إلى المسرح جاءت مع مجلّة “المسرح الشعبي” (1953 – 1964)، مع روبير فوازان وبرنار دور وغوي دومور وجون دوفينيون وومورفان لوبيسك. ويبدو أن المنظور البريشتي للمسرح كان يبدو له مثل ثورة حقيقية، ما دعاه لاستئناف اهتمامه بالفن الرابع.

مع مجلة “المسرح الشعبي”، اتجه بارت إلى المسرح وفق اشتغال نظري بموازاة قراءات للعروض المسرحية المقدّمة حينها في قاعات فرنسا. غير أن صاحب “هسيس اللغة” ظل أسيراً بالكامل لما وسمه حرفياً بـ”الكمال البريشتي”، وهو ما جعله يعترف بأنّ هذا المعطى لم يمكّنه من الانتباه أو الاقتراب من التجارب الحديثة الأخرى. وجد في مسرح بريشت – بما اقترحه من رؤية خاصة في الإخراج وأيضاً بخلفيته السياسية وعمقه الثقافي – معادلةً جهنمية، وقد أفرد بارت دراسة قيّمة لمسرح بريشت أشار فيها إلى أنّ المسرح الذي يقدّمه يستحقّ تسمية “مسرح العلامات”.

“انسحب الناقد الفرنسي بشكل مفاجئ من الكتابة عن المسرح”.

من المقالات النادرة التي ضمّها الكتاب مقال بعنوان “مسرح بودلير”، وفيه يشير إلى مفارقة أن نتخيّل مسرحاً دون أن نكتبه؛ حيث يشير بارت إلى أربعة مشاريع كتابة مسرحيات لم ينجزها صاحب “أزهار الشر”، وهو ما جعله يؤشّر على فعل المسرحة، في لحظة ما باعتباره مسرحاً ناقص النص أو بعبارة أخرى امتداداً للعلامات. والحال، أن بارت يعتبر أنه لا يمكن أن يكون هناك مسرح دون “مسرحة” فعلية. في هذا السياق يعرّج السيميولوجي الفرنسي على تجربة وليم شكسبير وأشلي ديوكس وبريشت، حيث قوّة النص الدرامي، في حين يعتبر كتابة بودلير تخطيطات سيناريستية حكائية.

هكذا، استطاع رولان بارت أن يقدّم خلال مقالاته عن المسرح كتابة فريدة يمتزج فيها المنظّر بالمتفرّج، ويتّخذ موقعاً وسطاً بينهما، وما يؤكّد ذلك هو أن رؤيته الدراماتورجية لم تتأثّر بتلك الأسس النظرية التي وضعها بنفسه ضمن مشروعه النظري. كان يصرّ على ملامسة عمق المسرح بحضوره داخل المنظومة المجتمعية والحياة بشكل عام، وليس كمجرّد تركيب للعلامات.

بقلم : عبد الحق ميفراني

عبد الحق ميفراني

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى