مصطلحات التحليل السردي
- 1 ـ السرد – الحكي:
إننا نروم البحث في هذا المفهوم السردي قصد الاضطلاع بإثارته والبحث في تطوره وصيرورته ثم تناوله في ذاته، حتى لا نتأخر في تأسيس المفهوم وإحلاله موقعه ضمن باقي الأجناس من جهة، والعمل على النظر في صيرورته وتحولـه من منطلق طرح المشكلات الحقيقية والإحاطة بها من جهة أخرى ثم إن هذا الجنس (السرد) جنس لـه مقوّماته وملامحه المتميزة.
والسرد مصطلحٌ أدبي فني هو الحكي أو القصّ المباشر من طرف الكاتب أو الشخصية في الإنتاج الفني، يهدف إلى تصوير الظروف التفصيلية للأحداث والأزمات. ويعني كذلك برواية أخبار تمت بصلة للواقع أو لا تمت، أسلوب في الكتابة تعرفه القصص والروايات والسير والمسرحيات.
ويعدّ المفهوم من المفاهيم النقدية المستحدثة في الساحة النقدية العربية، ولذلك وجب فحص مدلولاته وضبطها في مثل هذه البحوث الأكاديمية أمرٌ سابقٌ لأوانه، أبرزها يعود إلى ترجمة مصطلح Rècit بشتى الترجمات هي السرد والحكي.
أمّا المصطلحات القديمة من لفظ (سرد) في اللغة الفرنسية Narration وNarratologie ثم Narrativè فتقابلها في الترجمة النقدية العربية مصطلحات، بينها السرد والقصّ والحكي والأخبار والرواية. فضلاً على شيوع مصطلح (Rècit) في المعرفة الاصطلاحية، إذ هو الحكي والمحكي لدى بعض النقاد. وهو السرد والمسرود لدى آخرين. وإن كنا نستحسن مصطلح “السرد” بالنظر إلى معيار الشيوع في الثقافة العربية.
في هذا المساق، يعدّ جيرار جنيت (G.Genette) الناقد السيميائي الوحيد بين الأوائل الذين قاموا بإدخال بعض المصطلحات السردية، حيث جعل منها مرحلة هامّة من مراحل التحليل وعالجها ضمن ما أسماه بصيغة السرد: Mode du rècit ضمن النموذج التحليلي الذي قدّمه في اللغة الفرنسية، وهو النموذج المهمّ الذي استوعب المقولات السابقة عليه.
فقدّم تأطيراً منظماً لأسس السرد الفني، خلال وقوفه على كلمة “قصة” في اللغات الأوروبية، مستخلصاً ثلاثة معانٍ: أوضحها وأقدمها هو الملفوظ السردي، مكتوباً أم شفهياً، والثاني المضمون السردي والمعنى الثالث: الحدث، وفي ضوء هذا التمييز حدّد ثلاثة مظاهر للسّرد1:
ـ 1ـ الحكاية: وتطلق على المفهوم السردي أي على المدلول.
ـ 2 ـ القصة: وتطلق على النص السردي وهو الدالّ.
ـ 3 ـ القصّ: ويطلق على العملية المنتجة ذاتها، وبالتالي على مجموعة المواقف المتخيلة المنتجة للنصّ السردي.
وقريباً من المصطلحات الثلاثة: (Narration) و(Narratologie) و(Narrativitè) القابعة في المعجم السيميائي المعقلن لدى قريماس، ميّز بعض الباحثين بين الروي Rècite والحكي (diegesis) في السرد، ونعني في هذه الحالة التمييز بين النصّ الكامل للقصّ نصّاً من ناحية، والأحداث التي تروي أحداثاً من ناحية أخرى، ويمكننا عندئذ أن نستعير الكلمة الإغريقية، الحكي (Diegesis) للتعبير عن نظام الشخصيات والأحداث، ونكتفي بتقريب الكلمة الأخرى بكلمة روي (recital) أو نكتفي بالإشارة إلى النص، حين نعني الكلمات والحكي للتعبير عما ستحثنا عن خلقه كقصص”2.
أما مصطلح الحكي (Narration) فهو لفظ يلتبس مع شبكة من المصطلحات والمفاهيم المتداخلة والمتمايزة، والمتقاربة والمتباعدة في آن واحدٍ، أبرزها: السرد والمسرود، والسارد والمسرود لـه والسر دانية والسرد ديات.
فمن خلال التحديد السيميائي لدى قريماس وكورتيس يمكن الوقوف على أهمّ الفروق الدّلالية بين هذه المفاهيم المتداخلة، حيث أشار الباحث إلى مصطلحي “البث (المرسل) والمتلقي (la Destinateur et le Destinataire) في الخطاب الروائي، وفي الملفوظ (L’Enoncè)، وأطلق عليهما جيرار جنيت مصطلحي: السارد والمسرود (Narrateur et Narrataire)3.
لكن الملاحظ في لغة قريماس أنها تحيل على مفاهيم أخرى، وتجسد سلسلة من المفاهيم المعقدة التي تحيلنا بدورها على مفاهيم أخرى ودلالات أكثر تعقيداً في اللغة العربية.
وسواء أكان طودوروف أم جنيت أعرف من غريماس بالسرديات. أو العكس، فإنّ الذي يهمنا في هذا المقام هو الوقوف على الإشكالية المصطلحية بخصوص لفظة (سرد) ونحن واعون بأن ثمة مصطلحات لا تحصى ولا تعدّ وهي مشتقة من المفهوم، وتشترك معه اشتراكاً لفظياً، أبرزها: المؤلف والقارئ والشخصية واللغة والواقع والعامل والفعل والحدث الحكائي وسواها من المصطلحات التي تدخل في العمل السّردي.
فمصطلح الحكي مثلاً (Narration) تواجد في عدّة نصوصٍ نقدية خلال السّنوات الأخيرة في الساحة المغربية، وقد شابهُ كثير من الخلط الذي حصل في الترجمة بينه وبين مصطلح (السرد). لذا فالنقاد المغاربة نجدهم كثيراً ما يعتبرون مفهوم الحكي مرادفاً للكتابة الرّوائية، منظرين إلى السّرد كمكوّن في مكوّناته، فعدّوه “جزءاً” من مظاهر الحكي”4، واعتبره بعض النقاد باسم الحكي وهو مكوّن من مكوّنات بنية السّرد”5.
وقريباً من هذا التطوّر، كتب سعيد يقطين أغلب مقالاته السّردية في إشكالية المصطلح، مقرّاً بأن السرد عنصر من عناصر الحكي، ولذلك فهو يرادف بين المفهومين كأداتين إجرائيتين في تحليل مكوّنات النصوص الرّوائية. ومفرقاً بين ثلاثة مصطلحات هي السّرد (Narration)، والسرديات (Narratologie) والسّردية (Narrativitè)6، ثم مفصلاً تفصيلاً ومركزاً في القال.
ويمكننا في هذا النطاق إعطاء بعض الأمثلة الدّالة فيما تداوله سعيد يقطين لإبراز ما يميّز هذه المصطلحات عن بعضها بعض: من ذلك الوقوف على الاشتراك اللفظي والاختلاف الاصطلاحي حيث أشار إلى العديد من المصطلحات التي تشترك لفظاً، لكنها تختلف دلالة بحسب الإطار النظري الذي توظف في نطاقه، فترجم مصطلحات بينها: السّرد والحكي بـِ: Narration/Rècit والسّردية أو الحكائية (Narrateur) ثم الراوي (Narrativitè) وسواها من المصطلحات المتداولة في كلّ النظريات والدّراسات السّردية الحديثة7. لكنّ مثل هذه المصطلحات التي أشار الباحث تختلف اختلافاً بيِّناً بين مستعمليها إلى حدّ التضارب والتعارض.
وفي مساق الحديث عن الاختلاف اللفظي والاشتراك الاصطلاحي، أشار الباحث إلى جملة من المصطلحات التي تختلف من حيث اللفظ، لكنها تشترك اصطلاحاً، ولو في الإطار الدّلالي العام ويمكن التمثيل لذلك بمصطلحات مثل: وجهة النظر، والمنظور، والرؤية، والبؤرة والتبئير، التي تختلف من حيث اللفظ وتشترك في الاصطلاح. وضمن منحى آخر أشار الباحث إلى مصطلحات تصطرع في الثقافة الأجنبية، وتتصل بمادّة الحكي مثل: Rècit/ Histori/ Fabula/ diegese/ Contenu/ Intrique8.
وهكذا نجد في تحليلات سعيد يقطين من المصطلحات ما هو “جامع” وتتولّد عنه مصطلحات أخرى متضمنة في نسق المصطلح الجامع باعتباره نتاج عملية التصنيف. ولإعطاء مثال على ذلك، ترجم الباحث “الراوي” بـِ: Narrateur9، وهو المفهوم الجامع، أي أن لـه بعداً جنسياً (Cenerique) ثم وظف هذا المفهوم في التحليل السردي ليعوض مفهوم الكاتب، وقريباً من ذلك ترجم العوامل عن (les actants) في السيميوطيقا الحكائية.
وأخذاً بمعيار الشيوع في استعمال بعض المصطلحات، سواء أكانت سليمة أم غير سليمة، ترجم الباحث بعض النماذج مثل السردية Narrativitè عن الجذر العربي (سرد) في العربية. وتارة عن Narration في اللغة الفرنسية10، وقد تبين لـه أنّ هذا المصطلح (سرد) يستعمل في مجالين سردين مختلفين، وكلّ مجال يعطيه دلالة تتجسّم وأطروحته الأساسية.
ثم عاد لاقتراح مقابلين مختلفين، للمصطلح مميّزاً بين: (Narrativitè) أي السردية، وما يرتبط بها من مصطلحات مثل: الصوت السردي، الرؤية السردية، صيغة السرد، البنيات السّردية، ثم الحكائية في مجال “السيميوطيقا” فقال بمصطلحات من مثل: سيميوطيقا الحكي، البرنامج الحكائي، المسار الحكائي ثم البنيات الحكائية.
للتلخيص، فقد سجل سعيد يقطين موقفه من الإشكالية المصطلحية ومصطلح السّرد بوجه أخص قائلاً: “عندما نكون، نحن العرب، في وضع استقبال هذه المصطلحات ونقلها إلى لغتنا واستعمالنا النقدي فإننا لا ننقل فقط كلمات، ولكن علاوة على ذلك، مفاهيم مثقلة بحمولات تاريخية ومعرفية واستعمالية”11.
أما أسباب تفاقم الإشكالية، سواء في ترجمة المصطلح أم تعريفه فيلخصها سعيد يقطين ضمن النقاط الآتية:
1 ـ غياب الاختصاص في الممارسة.
2 ـ التخلف عن موالية المستجدّات في المجال السّردي.
3 ـ جهل بعض النقاد بالمعرفة السّردية.
4 ـ نحت المصطلحات بحسب الميول الشخصية عن النظريات التي يتعامل معها النقاد.
وفي الاقتراحات أشار سعيد يقطين إلى جملة من الحلول أبرزها:
1 ـ الميل إلى الأسهل والأيسر من المصطلح العربي المقترح.
2 ـ لا جرم من طواعية المصطلح العربي وتماشيه مع الصيغة والوزن العربيين.
3 ـ إعطاء الجانب المعرفي ما استحقه من العناية.
4 ـ التخصص.
5 ـ ممارسة العمل الجماعي.
أما الباحث فاضل ثامر، من خلال وقوفه على مصطلح سرد في الفضاء اللسانياتي والسيميائي، فقد ترجم إلى اللغة العربية مجموعة من المصطلحات، مراعياً خصوصية المصطلح النقدي العربي الحديث، الذي يواجه أعقد وأوسع الإشكاليات، من ذلك ترجمته لمصطلح السردية عن: Narratology من اللغة الإنكليزية، مقرّاً بالمقابلات المصطلحية الأخرى التي صاحبته مثل: علم السّرد، السرديات، السّردية، نظرية القصة القصصية، المسردية، القصيات، السردلوجية، الناراتولوجيا12. وهي مقابلات تعتمد معياري الترجمة والتعريب الجزئي والكلي.
وفي ذات المرجع (اللغة الثانية) ترجم المتن الحكائي Sjuzlut والمبنى الحكائي. عن Fabula، وصلتهما بثنائية القصة Story والحبكة Plot13، واقفاً على شتى وجوه الاضطراب والخلخلة وعدم الاستقرار، ومقترحاً مجموعة من الحلول.
ومثل هذا التداخل لدى يقطين وفاضل ثامر، يلفيه الدّارس لدى أغلب المترجمين والنقاد العرب، في الخطاب النقدي الروائي،ويعكس استهتار بعض النقاد بأبسط القواعد العلمية المتبعة في هذا المجال، سواء عملاً بالإطار المرجعي المصطلحات المترجمة أم تجاهلاً للجهد العربي الجماعي. واجتهاداً في وضع المقالات العربية.
ولا أدلّ على ذلك ترجمة محمد خير البقاعي لمصطلح الصفة (Narratif) مرّة بالسّردي، ومرّة بـِ “الحكائي”14 مقرّاً بأزمة المصطلح النقدي، لدى كلّ باحث عربي، وبالفوضى التي تشيع في النقد الروائي العربي، بسبب هذا التداخل المصطلحي.
أما الباحث عبد العالي بوطيب، فقد عالج إشكالية المصطلح في النقد العربي، مثيراً تجاهل بعض الباحثين لقواعد وضع المصطلحات الموضوعية في المجامع العربية بخصوص ذات المصطلح، (سرد) (Narratologie) التي حدّد لـها ثلاثة مقابلات عربية هي: السّرديات، علم السّرد ونراتولوجيا15، من دون احتساب التنويعات المختلفة التي أوردت لفظ (سرد) بحكي وقصّ ورواية. مما أضفى على المصطلح فوضى مصطلحية عارمة.
ومساهمة منه في وضع القارئ العربي بشكل ملموس في إطار التحول السّريع والمتلاحق الذي يعرفه البحث العربي في هذا الجزء المعرفي الحيوي الخاصّ بالسّرديات، سواء على المستوى النظري أو في مجال المصطلحات، نقل عبد العالي بوطيب جملة من المفاهيم والمصطلحات إلى الشكل العربي من ذلك: السردية عن (Narrativitè) والنصّ السّردي (le texte narratif)16، وكلّها تدخل ضمن التّصورات النظرية لدى قريماس وكورتيس.
وأما الباحث حمادي صمود وضمن (مصطلحات النقد الحديث) فقد ترجم كلمة سرد عن اللفظة الفرنسية (Narration) مسوياً بين مصطلحتين هما سرد وحكاية17، ما يؤكّد أنّ الاختلاف في المصطلحات السّردية، مضمونها ناتج من الموقف الإيديولوجي لدى المنظرين الأوائل بخصوص ذات الإشكالية مثل: ج. كريستيفا وقريماس.
ومن خلال معاينتنا لوضع المصطلح الذي أشار إليه في الخطاب السيميائي، ترجم: محمد مناصر العجيمي مصطلح (Narrativitè) بالسّردية18، ثم المرزوقي وجميل شاكر مصطلح (Narration) بالسّرد Narratologie بنظرية القصة ثم Narrativitè بـِ: القصصية19، ثم ترجم قاسم المقداد، مصطلح Narratologie تارة بالتحليل السّردي وأخرى علم السّرد القصصي20، وإبراهيم الخطيب في الحكي مقابلاً لِ:21 Narration وميشال شريم: بالإخبار مقابلاً لِ: Narration22، وسعيد علوش علم السّرد مقابلاً لِ: Narratologie23، وعبد السلام المسدي، بالسّرد والمسردية والسّردية لذات المصطلحات24، ثم أنور المرتجى، بعلم السّرد لِ: Narratologie25، ثم صلاح فضل بعلم السّرديات لِ: Narratologie26.
بين اللفظتين سرد وحكي:
فإن مفهوم السّرد يندرج ضمن المفاهيم المستحدثة في الساحة النقدية العربية، استعمله النقاد ليكون المفهوم الجامع لكلّ التجليات المتصلة بالعمل الروائي أو الحكائي، وتأتي أهميته باعتباره مصطلحاً وجنساً يستدعي أن تكون لـه أنواع، كما يستدعي أن يكون لـه تاريخ، وأي تفكير في أنواعه وتاريخه لا يمكن أن يؤدي دوراً هامّاً في ترسيخ الوعي به واتخاذه موضوعاً للبحث الدّائم.
وفوق كلّ ذلك، أثار عبد الملك مرتاض مفاهيم نقدية من شأنها أن تضيف نقلة جديدة إلى الدّراسة السردية المعاصرة، بين هذه المصطلحات: ترجم مصطلح السّرد عن اللفظ Narration، والسّردية عن Narrativitè، والسّردانية عن Narratotologie27.
والمصطلح الأخير هو إطلاق شخصي يقوم مقام مصطلح (علم السّرد) الذي لا يصطنعه إلا قليلاً حيث أشار أنّ “السر دانية” أو علم (السّرد) هي الأدوات العلمية التي يتسلمهما الباحث من أجل الكشف عن سرّ العمل السّردي”28.
كما يمكن الإشارة إلى إيثار عبد الحميد بواريو ترجمة مصطلح (Anecdote) بحدّوثة، وهي كلمة شائعة في اللهجة المصرية، والقريبة من مصطلح حكاية. Le conte، أما مصطلح قصة فقد استخدمه للدّلالة على لفظ Rècit، ومصطلح سرد narration مشيراً “ويجدر التنويه أننا استخدمنا هذا المصطلح ـ الأخير ـ أيضاً في صيغة ألسنيه “حدوثي” “في العديد من المواضع”29.
- 2 ـ خطاب/ نصّ
إنّ مصطلح خطاب من المصطلحات التي ولجت في الدّراسات النقدية الحديثة، وأصبحت أكثر تداولاً لدى النقاد المعاصرين العرب، نتيجة احتكاكهم بالتيارات النقدية العالمية، ورغبة منهم في تجاوز المفاهيم التقليدية، والسعي إلى آفاق المعرفية العلمية، ومحاولة تجاوز الإشكالية التي طرحها مفهوم (نص) من النصوص النقدية.
فيحيل مفهوم النص ـ كما ورد في المعاجم العربية ـ على معنى الظهور والارتفاع والانتصاب وهو في معجم (لسان العرب)، يحمل دلالة الرفع حيث ورد نص الحديث ينصه نصاً، رفعه وكلّ ما أظهر فقد نُصّ… ويقال نصّ الحديث إلى فلان أي رفعه… والمنصة ما تظهر عليه العروس لترى، وكلّ شيء نصص فقد أظهره، وهناك لفظ النصّ والنصيص أي السير الشديد والحث، وأصل النص أقصى الشيء وغايته30.
ويعني المصطلح في موضعٍ آخر لدى ابن منظور التحديد حتى يستخرج أقصى سير الناقة31، ومنه نصت الدابة السير إذا أظهرت أقصى ما عندها.
وكان الزمخشري ضمن سلسلة طويلة من الأصوليين، الذين كان لـهم الفضل، في لفت الأنظار إلى دلالة المصطلح، فقد قرّر لغة، أنّ المصطلح يعني الارتفاع والانتصاب حيث أنّ الماشطة تنصّ العروس فتقعدها على المنصّة وهي تنصّ عليها أي ترفعها، ونص فلان سيداً كنص، ونصصت الرجل إذا أخفيته من المسألة ورفَعته إلى حدّ ما عنده من العلم حتى استخرجته، وبلغ الشيء نصّه أي منتهاه32.
وكان الشافعي يرى أن النصّ: خطاب يعلم ما أريد به من الحكم سواء كان مستقلاً بنفسه أو علم المراد به يغيره نافياً الاجتهاد في النصّ وقابلاً الاجتهاد من النصّ”33.
وبذلك فإنّ النصّ لدى أغلب الأصوليين، يقترن بالتعيين ونفي الاحتمال، واستبعاد التأويل، وإلغاء أي دلالة حافة يتضمنها المفهوم، وظهوره في الثقافة العربية، ظلّ يواجه فعالية الوصف والاستقراء، والتحليل، فما يتصل بأدلّة الأحكام من قرآنٍ وحديث، لكونهما نصين مقدّمين، ثم امتدّ ليشمل الأدب كضرب من ضروب الإبداع.
أمّا مصطلح (خطاب)، وحيثما ورد في تضاعيف المعاجم العربية، فهو يحيل على الكلام34، وقد استمدّ دلالته المذكورة من السيّاق الذي ورد فيه القرآن الكريم، قال تعالى: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الحِكْمَة وَفصْلَ الخِطَابِ(35. وفي قوله عزّ وجلّ: (فَقَالَ أكْفُلْنِيْهَا وَعَزَنِّي فِي الخِطَابِ(36.
ويورد الزمخشري تفسيراً في فصل الخطاب بأنه الكلام المبين الدّال على المقصود بلا التباس”37، وهو موسوم بالبيان والتبيان، وتجنب الإبهام والغموض واللّبس، فخلق بين المصطلحين (كلام وخطاب) تلازماً يوجب الكثير من الاستقصاء والفحص الدّقيقين.
أمّا ابن جني، فقد عرّف الكلام، بأنّه لفظ مستقلّ بنفسه، مفيدٌ لمعناه، معتبراً أكمل داخل سياق الكلام هي الأخرى وحدات مستقلة على اختلال تراكيبها. وهو مذهب الشريف الجرجاني من الحديث عن المعنى المركّب.
والآمدي الذي خصّ الكلام بمعنى الخطاب ثم التهانوي الذي دلل على الأصول الشفاهية للمصطلح، محاولاً إخراج لفظ الخطاب من كلّ ما يعتمد على الحركة والإيحاء والإشارة كوسائل للإفهام، كما أخرج أيضاً المهمل من الكلام، وكلّ كلام لا يقصد به في الأصل إفهام السّامع.
وعليه، فإنّ تحديد تعريف دقيق لدى الأصولية لمصطلح (الخطاب)، وفي الثقافة العربية، يقتضي بعض التريث، ذلك لأنه مصطلح شامل يتّسع لكثير من الدّلالات، فضلاً على اتساع المفهوم ليشمل كلام الله، ويشمل دلالات أخرى حافة. وهكذا اتضح أنّ هذه المادّة (نصص)، ذات معانٍ متعدّدة أهمها أربعة: هي الرفع والحركة، والإظهار وبلوغ الغاية.
وفي المعاجم العربية الحديثة يعدّ مصطلح (نصّ) أكثر المفاهيم تناولاً، فقد أورد صاحب معجم (الرائد) عشرة معانٍ لفعل (نصّ) هي نصّ على الشيء، حدّه، ونصّ القول أو الفعل: رفعه وأسنده إلى صاحبه، ونصّ الشيء: رفعه وأظهره، ونصّ العروس: أقعدها على المنصّة، ونصّ المتاع: جعل بعضه فوق بعض، ونصّه: استنصّ عن الشيء حتى استخرج ما عنده، ونصّ الناقة: استحثّها لتسرع، ونصّ عنقه: نصبه، رفعه ونصّ الشيء:حرّكه ونصّ الشيء: ظهر38.
وهناك تعريفات تختلف في دلالتها وتتفق حسب اجتهادات أصحابها وتوجّهاتهم من جهة، وحسب تطورات المصطلح من جهة أخرى، من ذلك النص يحوي دلالتين في “المعجم الأدبي” الأولى: كلام لا يحتمل إلا معنىً واحداً مكتوب أو مطبوع39، والنصّ هو الأصل والجوهر، وهو مختلف عن الكلام، لأنه فرع وهامش مفهوم بالخطأ.
وفي الثقافة الغربية فإن الحفر من الأصول اللغوية الاصطلاحية لِ: الخطاب والنصّ، ليس مردّه إلى النظم المرجعية التي استمدّت منها المفاهيم وجودها، وحسب، وإنما اختلاف نقد المعرفة التي كانت محضناً مباشراً لكلّ مصطلح، وموجّهاً لدلالته في الثقافة المذكورة.
من هذا المطلق، تحيلنا بعض المعاجم إلى مفهوم الخطاب الذي يحتوي أحياناً النص ويضعه في نطاق أوسع، فلا يعزله عن شروط تلفظه وتداوله في مجالٍ حيوي نشيط40. وهو في معجم اللسانيات (لجان ديبوا) Jean du bois، يعني الكلام (Parole) كمصطلح مرادف للملفوظ (ènoncè)41.
أما مصطلح نص في اللسانيات، فهو مقابل للدّلالة اللغوية Texte، يدلّ على النصوص والمتون العائدة لمؤلّف ما، كما يحيل على النسج، بينما دلالته الاصطلاحية تحيل على سلسلة من الكلمات تؤلّف تعبيراً حقيقياً في اللغة.
وقد أورد الباحثان قريماس وكورتيس ضمن ـ المعجم السيميائي المعقلن ـ مصطلحي الخطاب والنصّ مترادفين، ووفق معنى أحادي موحد. للدّلالة على أحكام سيميائية غير لسانية، وذهبت النظرية السيميائية إلى عدّ الخطاب جهازاً ذو مستويات الواحد فوق الآخر42، وفي ضوء هذا التحديد السيميائي أمكن تلخيص جملة من الملاحظات أهمها.
1 ـ أن النص استخدم في اللسانيات للدّلالة على كلّ مكتوب أو ملفوظ مهما كان حجمه.
2 ـ إن النص وحدة لغوية وليست نحوية مثله مثل العبارة أو الجملة.
3 ـ دلالة الخطاب والنص واحدة.
أمّا في المعاجم اللغوية الفرنسية الموسوعية، فإنّ كلمة Discours ذات أصل لاتيني (Discursis) والنصّ (Texte)، يطلق على المتن، جمع نصوص، متن، متون43. وفي غير ذلك إن النص رد فعل اللغة نتيجة عمل أي (نسيج)44، يطلق النص (Texte) على الكتاب المقدّس أو كتاب القدّاس، وهو في اللاتينية (Textus)، وتعني النسيج (Tissu) أو (Trame)، كما تعني منذ العصر الإمبراطوري ترابط حكاية أو نصّ45، فيتحوّل بذلك النصّ إلى منظومة عناصر من اللغة أو العلاقات، تشكّل (مدوّنة) أو نتاجاً شفهياً.
أما جورج مونان، في مساق حديثه عن دلالة النصّ التي تقترن بضرب من تركيب الألفاظ أو الكلمات، فقد أشار إلى دلالة المصطلح، التي تحيل على سلسلة متتابعة من العلامات اللفظية أو الإشارات الكتابية التي تنتظم في سياق يبرز تجانسها فذهب إلى اعتبار النص معادلاً للمتن كما هو معادلٌ للملفوظ “لا يعني إلاّ وثيقة مكتوبة وحدها بل كلّ المتون التي يستعملها اللغوي أو الألسني”46.
وفي الثقافة الفلسفية وضمن أدبيات النقاد الغرب، فإنّ مصطلح خطاب برز في كتاب ديكارت خطاب في المنهج، للدّلالة على الخطاب الفلسفي في العصور الوسطى، وهي المرحلة التي سبقت عصر النهضة، وسرعان ما أصبح الخطاب في العصر الحديث يشكّل موضوعاً في الفكر الفلسفي الغربي والسيميائيات الحديثة.
من ذلك، عناية ميشال فوكو (M. Faucault) بهذا الجانب، معتبراً المصطلح أنموذجاً فلسفياً يلج مجال المعرفة العقلية التي تُعدّ الموجّه الأول للثقافة الغربية في مختلف مظاهرها الأساسية, ومقراً بأنّ الخطاب لا بدّ أن يكون منظومة لغوية أو فكرية، وهو يتحدّد من القواعد التي تميّز مجموعة من المنظومات التي تنتظم داخل الممارسة النظامية، منظومة تسمح بتكوين مواضع البحث وتوزيعها، وتحدّد أنماط القول ولعبة الاحتمالات النظرية.
وأما هذا الكمّ الهائل من التحديات، فإنّ تعريفات أخرى عكست وجهة النظر الخاصّة بالمعرفة والمرجعيات الفكرية التي انطلق منها كلّ باحث، ولا أدلّ على ذلك التعريف القائل بأنّ “النصّ هو ما تنقرئ فيه الكتابة، وتنكتب في القراءة”47.
ويرى بول ريكور (Paul Ricoeur) أنّ النصّ، خطابٌ تمّ تثبيته بواسطة الكتابة48، أي أنّ النصّ ما نكتبه وما ندوّنه، وهي نظرة تلتقي مع وجهة نظر رولان بارط حين أقرّ مصطلح النسيج49، بمعنى أنّ النصّ يضع نفسه باستمرار، وهو نسيج كما تنسج العنكبوت نسجها في شبكة متلاحمة منضدة.
وهكذا، فإذا كانت بعض الدّراسات النقدية، تحدّد مصطلح “خطاب” بأنه “مقولة من مقولات علم المنطق، تعني التعبير عن فكر مستدرج بواسطة قضايا مترابطة”50 وكانت بعض المعاجم المختصة سيميائياً، تعدّه مرادفاً للنص (Texte) وهما لفظتان تدلان على أحكام غير لساناتية”51 فإن الدّارس لرحلة المصطلح (خطاب) عبر مراحل تطوّره، يقف على محطات أساسية في مظهراته لدى الباحثين السيميائيين العرب، بدءاً من مرحلة التخلص من الترجمة الحرفية (النقل) إلى التعريب إلى الاشتقاق إلى الابتكار والإحياء.
من ذلك، فقد خطا الباحث عبد السلام المسدي، خطوات هامّة، في تحديد علاقة حفريات المعرفة بخصوص مصطلح خطاب، فعالج مجموعة من المصطلحات المتقاربة والمتنائية في آنٍ واحد، فذكر مصطلح الملفوظ (?noncè) أو الجملة أو النص مهما كان نوعه وشكله كمرادفات لمصطلح خطاب”52.
وأما مصطلح الملفوظ، في اعتقاده، فهو “جملة ما يتلفظ به الإنسان ويكون محدّداً ببداية ونهاية كأن يكون محصوراً بين سكوتين في الخطاب الشفوي أو بين علامات ابتداء وانتهاء في الخطاب المكتوب، والملفوظ، وبذلك يكون جملة أو فقرة أو نصّاً”53.
ثم أضاف، إذا كان الخطاب كياناً عضوياً يحدّده انسجام نوعي، وعلاقة تناسب قائمة بين أجزائه فإن اللغة مفهوم كلّي واللسان مفهوم نمطي والكلام مفهوم إنجازي54، والمدونة هي اللغة الموضوعة والخطاب اللساني المستنبط منها هو اللغة المحمولة، فتلك بنية قائمة، وهذه بنية مشتقة55، وهو بذلك أراد الاقتراب في جملة هذه المصطلحات ـ من المقولة التي تعدّ اللغة جنساً واللسان نوعاً والكلام شخصاً.
وبين المصطلحين خطاب ونصّ، ذهب الباحث إلى الاعتقاد بأن النص يتعدّى مفهومه حدود الجملة أو الفقرة، لـه نظامه الخاصّ، قد يتطابق مع مجموعة الجمل أو يتعدّى ذلك إلى كتاب بأكمله.
أما محمد مفتاح، فقد صاغ مصطلح خطاب وارتضاه عنواناً لإحدى دراساته (تحليل الخطاب الشعري ـ استراتيجية التناص)، وبين المصطلحين خطاب ونص، ذهب إلى اعتبار النصّ، هو الأعرق والأقدم، روجت لـه الدّراسات القديمة، وعرف تعريفات عديدة تعكس توجهات معرفية ونظرية ومنهاجية مختلفة بنيوية واجتماعية وأدبية ونفسانية ودلالية56، مضيفاً “أنّ النص مدونة كلامية، وحدث تواصلي تفاعلي مغلق وتوالدي”57، ووظف هذا المصطلح ضمن عنوان دراسته (دينامية النص).
وحين تلمس أكبر المؤلفات احتضاناً للمصطلحين (خطاب ونص) يشار إلى مؤلفه (التشابه والاختلاف)، حيث اعتبر فيه “أنّ هذين المفهومين إشكالٌ نال حظّاً وافراً، أو قليلاً من المهتمين بنظرية الأدب ونظرية القراءة بمختلف تجلياتها، نظريات تحليل الخطاب، ونظريات التلقي”58.
وتجلى وجه آخر لـهذين المصطلحين، من خلال قراءته في بعض المعاجم اللسانياتية والسيميائية، التي أردفت بين مصطلحات مثل (النص والقول والخطاب والتلفظ) كمصطلحات متقاربة ومتغايرة59.
وبخصوص التفرقة بين المصطلحين، لخص محمد مفتاح الموقف فيما يأتي:
1 ـ أن النص “عبارة عن وحدات لغوية طبيعية منضدة متسقة، وأن الخطاب عبارة عن وحدات لغوية طبيعية منضدة متسقة منسجمة”60.
2 ـ وقولـه “ونحن نجعل الخطاب أعمّ من النصّ، فالتخاطب أعمّ من التناص”61.
وبذلك يكون الباحث قد أثرى القاموس النقدي المعاصر بجملة من المصطلحات الجديدة، موظفاً مصطلحات أخرى لم تحفل بها الدّراسات النقدية العربية والتي هي معظمها مصطلحات أنجلوساكسونية.
وفي الجهة الأخرى، ولما كان انتماء المصطلح إلى حقل معرفي محدد، منتجاً للمعرفة، خاضعاً لأطرها العامة الموجهة، خاض الباحث صلاح فضل في خصوصياته النقدية، نقلاً عن المنظرين اللسانياتيين والسيميائيين أوجد عدّة تحديدات أهمها: 62
1 ـ نقلاً عن فردينارد دي سوسير، عدّ النصّ إنجازاً فعلياً للغة من طرف متكلّم واحد، وعلى هذا الأساس فإن المفهوم ـ في اعتقاده ـ ينطوي على أنّ الرسالة المكتوبة متركبة مثل العلامة أو الإشارة اللغة، يضم مجموعة من الدّوال بحدودها المادّية من حروف متسلسلة من كلمات وجمل وفقرات وفصول.
2 ـ ونقلاً عن رولان بارط، اعتبر النص نظاماً لا ينتمي إلى النظام اللغوي ولكنه على علاقة وشيجة معه، علاقة تماس وتشابه في الآن ذاته.
3 ـ وعن جاك دريدا (J. Dèrida) اقترح محوراً جديداً للنصّ معتمداً على تاريخ الفلسفة بإلغاء التعارض بين المستمرّ والمنقطع، فالنصّ “نسيج لقيمات”.
هكذا ومن خلال هذه القراءة لدى رولان بارط وسواه من السيميولوجيين استشف الباحث جملة من السمات هي:
1 ـ سمة تقاطع نص مع نص آخر.
2 ـ قوة التحول.
3 ـ اختلافات الدّلالات، واللانهائية ثم التحول.
4 ـ التعدّد الدلالي.
5 ـ لبوس النص لمؤلّفه.
6 ـ سمة الانفتاحية.
7 ـ لذة النصّ.
وفي مساق حديثه عن مصطلح نص (Texte)، وجد الباحث نفسه إزاء جملة من المقاربات التي قدّمتها البحوث البنيوية والسيميولوجية الحديثة، بينها “أن النص هو عملية إنتاجية، يتوفر على سمتين63:
الأولى: علاقته باللغة التي يتموقع فيها.
الثانية: تمثيله لعملية استبدال من نصوص أخرى.
ومن جراء هذه الملاحظات وأخرى مجتمعة، سوّى الباحث بين المصطلحين خطاب ونصّ، معتقداً أنه ثمة سمة أساسية أخرى للنص الأدبي شغلت الباحثين البنيويين والمهتمين بالأدب من التفكيكيين، وهي علاقة النص بالكتابة (?criture) وارتباطهما معاً بمصطلح خطاب (Discours)64. بحيث يعدّ الخطاب من هذا المنظور حالة وسيطة تقوم ما بين اللغة والكلام، وهذه السمة ذات أهمية خاصّة في عمليات الفهم والتأويل، أي في عمليات إنتاج النصوص وإعادة إنتاجها مرّة أخرى.
وسعياً وراء التسوية بين المصطلحين، تذهب الباحثة فريال جبور غزول في حديثها عن سيميوطيقا الشعر لدى م. ريفاتير، إلى اعتبار المصطلحين سلسلة من وحدات إعلامية متعاقبة65.
وقد ظهر التمييز بين الخطاب والنص، وبين الخطاب والكلام وسواهما من المصطلحات لدى نقاد آخرين، هكذا، وترجمة لمقولات “إيميل بنفنيست” استفاد سعيد يقطين من بعض التحديدات المفاهيمية، معضداً استراتيجيته ببعض الأسس التي تنتمي إلى أحضان الدّراسات اللسانياتية والنقدية الغربية بمختلف اتجاهاتها، محاولاً التمييز بين نظامين هما “الحكي والخطاب” فالتلفظ القصصي يحتفظ به في اللغة المكتوبة بينما الخطاب كتابياً وشفوياً، ومن ثمة ميّز بين التلفظ (Enoncè) والخطاب (Discours).
وفي نفس الاتجاه، ميّز الباحث أحمد يوسف بين مصطلحات هي: الخطاب والكلام وسواهما معتبراً66 الخطاب. “ملفوظ شكل وحدة جوهرية خاضعة للتأمل، وما هو إلا تسلسل من الجمل المتتابعة التي تصوغ ماهيته، وهو مرادف للكلام، بيد أن الملفوظ وحده لا يحدّد الخطاب إلا إذا أضيفت إليه وضعية الاتصال67.
Discours = Situation de communication + ?noncè.
وفي مجال التمييز دائماً، ترجم الباحث سعيد علوش مصطلح الملفوظ (?noncè) بمصطلح القول وعقد ترادفاً بين النص والخطاب68، شأنه شأن محمد بنيس69، وسواهما من النقاد.
أما مصطلح خطاب، فتكرر ذكره بقوة لدى باحثين مثل: حنون مبارك70، وتوفيق الزبيدي71، ومحمد عصفور72، ورشيد بن مالك73، وبشير إبرير74، على الرغم من أنّ، هذا الأخير قرن بين مصطلحات متناقضة جاء بها الدّارسون فدون الخطاب بأنه ملفوظ (?noncè) والتلفّظ (Enonciation) والنص Texte، وسوى محمد بنيس، بين المصطلحين خطاب ونصّ75.
وفي مجال الاستثناء، فإنّ أكثر الباحثين تناولاً للمصطلح في تقلبّاته وتشعبّاته هما: عبد الملك مرتاض وعبد الله إبراهيم:
فالأول: (عبد الملك مرتاض)؛ في مساق بحثه في أصول هذا المصطلح سجّل جملة من الملاحظات المفاهيمية نوردها في الشكل الآتي:76
1 ـ إنّ مصطلح “خطاب” مصطلح عريق من النصوص العربية القديمة، تبناه الألسنيون المعاصرون.
2 ـ إنّ “الخطابات” متعدّدة ومتلونة، فهناك الخطاب السّياسي والدّيني، والتاريخي والأدبي.
3 ـ إطلاق لفظ “خطاب” في الدّراسات الشعرية “ينسحب على “كلّ حسن الكلام الذي يقع به التخاطب (أي بين متخاطبين، سواء أكان شفوياً أو معنوياً”77.
ومن النماذج الأخرى التي اقتفاها الباحث في ذات المسألة، اشتقاق معن جديد منه، حين ترجم المصلح (Discursivition) و(Discurcicisation) بـ: “الخطبية” و”النصنصة” لأن هذا الأخير هو “مجموعة من الإجراءات التي ترمي إلى تشكيل مفهوم خطابي”78.
أما في مجال حديثه عن الازدواجية المصطلحية (خطاب) و(نصّ)، فقد أضاف الباحث جملة من الملاحظات:
1 ـ أنّ الخطاب “خصوصية النصّ ضمن الجنس الأدبي”.
2 ـ أنّ النص أصدق دلالة من الخطاب، ذلك أنه “يطلق على وحدة من الكلام الأدبي مثل نص القصيدة، على حين أن الخطاب شمل مجموعة من الكتابات الشعرية”79. وفي ضوء ذلك نتخلص سمتين أساسيتين هما:
1 ـ حرصه على التفرقة بين المصطلحين (خطاب) و(نصّ) وذلك في اصطناعه لفظ (خطاب) عنواناً لبعض دراساته مثل (بنية الخطاب الشعري).
2 ـ ميله إلى عدم التسوية بين المصطلحين، مردّه إلى أنّ في هذا المذهب، سلوك مفضٍ إلى المغالطة80.
أما في مجال البحث في لفظة (نص Texte) لغوياً، ذهب عبد الملك مرتاض إلى القول بأنّ “النصّ في أصل الاشتقاق والوضع في معظم اللغات الأوروبية الحديثة يعني باتفاقها النسج… في الفرنسية (Texte)، والإسبانية (Texto)، والإنكليزية (Text)، والروسية (TEKta)، أخذ أصلاً من اللغة اللاتينية (Textus) ويعني اللغة المتينة، وكذلك النسيج”81.
وعليه حاول التسوية بين النص والنسيج من جهة كما حاول تجاوز تحديدات (قريماس) في ذات المسألة، على الرغم من أنّ مثل هذه التفرقة بين الخطاب والنسيج لم تسد مؤلفه (بنية الخطاب الشعري)”82.
أما خارج هذا الإطار المفاهيمي لكلمة (نصّ) من خلال تعامله مع مصطلح (خطاب) فقد اقترح مفاهيم جديدة مثل (الكلام الأدبي، اللغة الأدبية، لغة الكتابة الفنية ثم اللفظة الفنية) ترجمة للفظ الأخير (le langage)83، وفي موضع آخر اصطلح لفظ (اللانقاج)84. وذاك عين التأزم لأنه اقترح من قبل تسوية بين النص والنسيج، وفرّق بين الخطاب والنص بالقول: “الخطاب نسيج من الألفاظ”85.
صورة أخيرة لدى عبد الملك مرتاض، هي قوله بِلفظ (اللغة الفنية) مقابلاً للفظ الأخير (le langage)86، وهو يتعارض مع ما وضعه لمصطلح (Discours) من ذي قبل. وهكذا تتواتر أشكال مصطلح خطاب وشتى الصور لدى الباحث، وتتعدد معها التقلبات المصطلحية.
أما الثاني (عبد الله إبراهيم)، ـ وضمن مفكرة النقد والبحث ـ فقد خصّ المصطلحين خطاب ونصّ بكتابات مستفيضة، أهمها: المصطلح وظاهرة الانزياح الدّلالي ـ المحضن العربي الثقافي وإشكالية الازدواج الدّلالي في الخطاب والنّص، مبرزاً مجموعة من الملاحظات نوردها فيما يأتي:
1 ـ البحث في الأصول العربية حيث فيه ملتبس المفهوم لمصطلح الكلام، والخطاب مصطلح يقابل (Discourse).
2 ـ النص (Texte) في الثقافة الغربية يدلّ على أية فقرة ملفوظة أو مكتوبة، وهو يحيد على كلّ بناء نظري مجرّد، ودلالته ودلالة الخطاب واحدة.
3 ـ الخطاب في الفلسفة العربية، ميدان تختلف فيه على نحو دائم ثنائية الكلمة والشيء.
4 ـ النص من الأصول: يحيل على معنى الظهور والارتفاع. لا يحيل على أي ضرب من التعبير الأدبي (الإنشائي) المخصوص من الكلام، مقترن بالتعيين ونفي الاحتمال.
5 ـ الخطاب والنص رديفان مساهمان في تكوين المعرفة.
أخيراً، وفضلاً على هذه المراهنات في خصوصيات المصطلحين، فإن الأمر الشاذ في الاستعمال، هو ما عثر فيه على ترجمتين (للخطاب) الأولى، لفريد الزاهي حين اعتبر اللوجوس Logos مصطلحاً متعدّد المدلولات، تارة يعني الخطاب وأخرى الفعل وأخرى الكلام87، والثانية لدى عبد الله إبراهيم، حين عرّف اللوغوس بأنه كلمة يونانية تعني الكلام أو المنطق أو العقل88.
في الأخير يمكن رصد ثلاثة تيارات كبرى تحرّك في رحابها النقاد عرب وعجم أجمعين وهي:
1 ـ التيار العربي الأصيل: ويختص بالمجال الثقافي العربي والإسلامي، ومن ممثليه البلاغيين والأصوليين.
2 ـ التيار الغربي، ومن ممثليه، كريستسفا وبارط وم. فوكو وجاك دريدا في فرنسا.
وتيارات أخرى ضمن هذا التيار الذي من ممثليه الظاهراتيين أي فلاسفة الظواهر. أما آراء النقاد السيميائيين العرب فصبّت ضمن هذه الأطاريح والتيارات، مع تطويع المفاهيم وابتكارها بحسب الاجتهادات الفردية.
3 ـ 1 ـ في الشعرية: (Poètique)
الشعرية مصطلح من المصطلحات التي أثارها الشكلانيون الروس وبعثوا بها في النقد الجديد، عرفه العرب من قبل تحت أسماء مختلفة مثل: الشاعرية وشعر شاعر والقول الشعري والقول غير الشعري والأقاويل الشعرية، ثمّ شاع استحداث اللفظة في الدّراسات الحديثة89.
وقد اهتمّ النقاد العرب القدامى والبلاغيون بالكلمة الشعرية واشترطوا فيها أن تكون مستعذبة حلوة غير ساقطة ولا حوشية موضوعة فيما عرف أن تستعمل فيه، ومن ثمة نجد ضرباً من التفرقة بين أنواع الخطاب وأنواع معجمها إلى درجة أن ذهبوا إلى عدّ كلّ متكلّم شاعرٍ إلى حدّ ما. وعدّو كل إنسانٍ يتكلّم بلغة شاعرة في كلّ وقت.
وفي المعنى ذاته، أنّ اللغة ـ وإن كانت أداة خلق وإبداع مهمتها الإيصال ـ هي قبل كلّ شيء تعبيرٌ شعري يخلق جمالية في نفس القارئ، فعنصر الشعر موجودٌ إذاً في كلّ شكلٍ من أشكال اللغة، كما أنّ “شاعرية اللغة تتضح في تسمية الأشياء”90.
وأمّا الشعرية اليونانية فهي تمثل كلّ العمل الإبداعي (شعر وخطابة ونصوص) وكانت تقابلها التمثيلية والمحاكاة (المسرح مثلاً) وتسمّى (Mimèsis).
ومن هنا جاء الإحياء الذي يقدّمه رومان جاكوبسون (R. Jakobson) وج. جنيت (G. Genette) فحاولوا إعادة تحديد الدّراسات الأدبية التي اعتبرت منذ القرن 19 غارقة في علم النفس، ومهتمّة أساساً بالإحالات التاريخية والجمالية لِ. هـ. تين (H. Taine)، وس. بيف (S. Piff)، ولانسون (Lanson)، وبواسطة الدّلائل الأدبية للحصول على نقد تحليلي حقيقي وليس جمعاً غالباً ما تكون عميقة ومفسّرة للعمل الأدبي91.
ثم إن رومان جاكوبسون هو الذي أوجد هذا المفهوم ووظفه ضمن مفاهيم وظائف اللغة الست، حينما عرض بعض قضايا الشعرية قائلاً: ما الذي يجعل من رسالة لغوية عملاً أدبياً92، مستفيداً في ذلك من نظرية كلود شانون صاحب نظرية المعلومات. وبغية استكشاف هذا الإجراء المنهجي أضاف الباحث أنّ “الشعرية حقل معرفي يقارب النصوص اللغوية، الأمر الذي يجعلها أكثر تناصية من منهجية اللسانيات، أو يجعل هذه الأخيرة أكثر نجاعة في تعاملها مع الشعرية93.
وإذا كان الباحث قد عالج نمطاً من الممارسات الدالّة، أي اللغة الشعرية، معتبراً هذه التسمية مشتملة على “الشعر” و”النثر” معاً94. فإن جان كوهين (J. Kohen) ـ من خلال تفرقته بين اللّسانيات والشعرية ـ ذهب إلى اعتبار المصطلح أي “الشعرية” “مجالاً يعالج شكلاً من أشكال اللغة، أما اللسانيات فتعنى بالقضايا اللغوية بشكلٍ عامّ”95.
أما مصطلح “الشعرية” في بعض المعاجم الأجنبية الفرنسية فقد ورد باسم “البويتيكا” (Poètique) التي تعدّ المنظومة الشعرية لكاتب ما أو لشاعر ما، لعهد ما أو لبلد ما، كما تعتبر أيضاً الانتقاد الذي يسلّط الضوء على عمل الكتابة الشعرية (أي آلية الكتابة الشعرية96. وهو في المعجم الألسني لجان ديبوا (J. Du bois) المختص ورد باسم (البوتيك) الشعرية لدى رومان جاكوبسون، وهي وظيفة من خلالها يكتسب الخطاب الأدبي مسحة جمالية وفنية، وفرعٌ من اللسانيات97.
فيما يذهب بعض الدّارسين إلى اعتبار مصطلح (Poètique) في صيغته الأجنبية لفظ تبوأ منزلة ريادية ضمن تيارات الحداثة النقدية لا سيما انطلاقاً من المدرسة الفرنسية الحديثة في المعارف الأدبية.
ومعلوم كذلك، أنّ الكلمة الدالة على الشعر في اللغة الفرنسية هي (بوازي) تعود عبر اللغة اللاتينية إلى اللغة اليونانية، والأصل التأصيلي في ذلك هو بوازيس، (Poèsis ou poèsis) ويعني على وجه التحديد عملية الخلق أي ما يعبّر عنه في مجاز لفظي بالوضع أو الإنشاء، وقد ظهر المصطلح الأول لأول مرّة في حدود سنة 1511م وكان يدلّ على فنّ الخيال الأدبي98.
أما المصطلح في صيغته الوصفية (النعت) بواتيك (Poètique) فقد تمّ اشتقاقه من اللفظ اليوناني بوايتيكوس (Poetic us, Poiêtikos) عبر الصيغة اللاتينية، يعود ظهوره في الفرنسية إلى عام 1402، ولم يتناوله الفرنسيون إلاّ في حدود سنة 1637 في صيغته الأنثوية99.
واستناداً إلى ما سبق، فإنّ المصطلح متعدّد الدّلالة، مفهومه غير قارّ، يصعب على الباحث تحديده، ثم إن مجالاته متباينة، وبحسب زاوية الاشتغال لكل ناقد، وفيما يلي نماذج في هذا التشاكل الدلالي والتعدّد المفاهيمي.
فعند الشكلانيين الروس، يعد رومان جاكوبسون “البويتيقا” علم الأدبية مصطلحاً مقابلاً للمصطلح لدى (ف. دي. سوسير) السيميولوجيا (Sèmiologie) ويعتبرها جزءاً من علم اللسانيات، ومذهب دافع عنه رولان بارط (R. Barthes) حين ميّز بين موضوع اللسانيات وموضوع “البويتيقا” وهو القائل بالأدبية أي الوظيفة الشعرية أو موضوع الأدب: ليس هو الأدب، وإنما الأدبية (La (littèraritè) أي ما يجعل من عملٍ ما عملاً أدبياً.
ثم إنّ جاكوبسون يقول بالفهم الشكلاني لوظائف النصّ، ولحركته الدّاخلية، أي رفضه القول بالمكون السياسي والإيديولوجي للعمل الأدبي، والدّعوة إلى استقلالية فضائه بخلاف الماركسية القائلة بأنّ الفن ممارسة إنسانية اجتماعية، فلا بدّ من المطابقة بين السياسي والأدبي.
ولما كان المفهوم أقرب في هذا التنظيم من الفكر الفرنسي، فإنّ مصطلح “الشعرية” (Poètique) لدى تودوروف يهدف إلى العديد من المعاني بينها:
1 ـ إنه كلّ نظرية داخلية للأدب، أي اقتراح لبناء المقولات التي تسمح بالقبض على الوحدة والتنوّع.
2 ـ هو مجموع الإمكانات الأدبية أي الوسائل “التيماتيكية” (thèmatique) والتركيبية والأسلوبية التي يتبناها كاتب ما.
3 ـ أو هو إحالة على كلّ الترميزات المعيارية الإجبارية لمدرسة ما 100.
استناداً إلى هذا التصوّر، فإنّ ت. تودوروف، قرأ في “الشعرية” بحثاً في القوانين الدّاخلية للخطابات الأدبية، مستخلصاً القوانين أو المقولات التي تؤسسها وليست النصوص في ذلك إلا أدوات خاصّة قصد الوصول إلى الأدوات العامّة التي تكون مضمرة في بنية الخطاب الأدبي.
الأهمّ في كلّ هذا، أنّ بارط وتودوروف وكريستيفا يتفقون في الأخذ بمصطلح (Poètique) في صيغتيه الوصفية والاسمية في اللغة الفرنسية.
وحين البحث في الخلفيات المعرفية لـهذا الأفهوم العيني (الشعرية)، وفي تشابك دلالته في النقد العربي المعاصر، جاز القول، أنّ مسيرة هذا المصطلح قد تشابكت في تقلبّاتها بين دلالة تاريخية وأخرى اشتقاقية وثالثة توليدية مستحدثة، وأن رغبة الالتصاق بالمعنى التأصيلي قد تنزع بالناقد العربي إلى تداول اللفظ معرّباً أي القول بِ (البويطيقا) وهو منزع سيزا قاسم (حول بويطيقا العمل المفتوح) قراءة في اختناقات العشق والصباح لإدوارد خراط ومحمد اسويرتي (بويطيقا البنية الروائية الجنونية)101.
وجاز اعتبار مصطلح “الشعرية” مجالاً رحباً تتدافع فيه الدّراسات والبحوث، أبرزها؛ استعراض الباحث ثامر الغزي، لعلاقات الشعرية بعناصر أخرى ممثلة على النحو الآتي102.
1 ـ الشعرية/الأدبية؛ وفيها اعتبر لأدبية (Littèraritè) موضوعاً للشعرية.
2 ـ الشعرية/ الأسلوبية.
3 ـ الشعرية/التأويلية.
4 ـ الشعرية/اللسانيات.
ومن خلال استعراضه هذه العلاقات والمفاهيم، آب الباحث إلى صنيع بعض النقاد من مثل: كمال أبو ديب، الذي أكد في المفهوم توفر خاصيتين أساسيتين هما: 103
ـ الخصيصة العلائقية.
ـ الخصيصة الكلية.
فالأولى تُجسّد في النصّ شبكة من العلاقات، والثانية، تعدّ الشعرية بنية كليّة ولا تعدّها على أساس ظاهرة منفردة.
وغير بعيد عن مثل هذه التمثلات النقدية المصطلحية، استعرض حسن ناظم مجموعة من المصطلحات العربية المتداولة مقابلاً للفظ الفرنسي (Poètique) حيث عرض مصطلحات بينها: الشعرية والإنشائية والبويطيقا، والبويتيك ونظرية الشعر وفن الشعر وفن النظم، والفن الإبداعي والإبداع، وعلم الأدب، ناسباً كلّ مصطلحٍ إلى صاحبه104.
ثم يضاف، أن جلّ النقاد العرب المعاصرين يذهبون إلى تعريب المصطلح قولاً لِ: بويطيقا وهمّهم في ذلك أنّ اللفظة لا تعني الوقوف عند حدود الشعر وإنما هي شاملة للظاهرة الأدبية ككلّ.
وقريباً من هذه التمثلات فإنّ عبد الملك مرتاض، وإن كان في كلّ مرّة يرفض القول بمصطلحات معرّبة مثل: البويتيكا والسيميوطيقا105، دون تقديم مبرر شاف لـهذا الرفض، فإنه أمْيَل إلى مثل هذا الصوغ في بعض كتاباته، وهو مذهب نحاه كذلك عبد الله الغذامي في قوله بمصطلح البويطيقا106.
وبخلاف هذه الصياغات فإنّ الشائع لدى جلّ النقاد هو لفظة (الشعرية) ولا أدلّ على ذلك: منحى صلاح فضل خلال حديثه عن وظائف جاكوبسون107، وكاظم جهاد ضمن ترجمته لأعمال تودوروف108.
على الرغم من أنّ صلاح فضل، تفرد بهذه الصياغة مشيراً إلى لفظ الشعرية مقابلاً للفظ (Poètècitè) وليس (Poètique)، كمصطلح ترتب على طبيعة التحوّلات في نظرية اللغة من ناحية، وعلى تظافر الأفكار الجمالية المنبثقة الخاصّة بالمذاهب الأدبية والمناهج البحثية من جهة أخرى109.
ثم إنّ مصطلح (الشعرية) أصيل وأثيل في التراث العربي، وكذا في لغة بعض المعاجم المختصّة في الترجمة، في حين أنّ البوتيك تعني علم النظم (عروض) والشعرية (حين الوصف) قوامها كلّ كلام شعري ونظمي وفق وظيفة شعرية كما شيع لدى رومان جاكوبسون.
وضمن مساق آخر، فإن القول بالشعرية “عرف يتوازى مع استخدامات نقاد آخرين يصوغون من المادّة (ش ع ر)، مذهب عبد الملك مرتاض في قوله بأدبية الشعر والبويتيك أو الإنشائية أو الشعرية مقابلاً للمصطلح الأجنبي (Poètique)، والمصطلح ـ يقابل ما أطلق عليه الغربيون (الماء الشعري)110، يحصل عندئذ أن قيد الباحث في هذا المصطلح الكلامَ بالوزن والقافية للدّلالة على السمة الإبداعية.
بيد أنّ الاضطراب يبدأ في صياغة عبد الملك مرتاض حين نلفيه يقول مصطلح الشعرية مقابلاً لفظ (Poètècitè) كمفهوم يختصّ بجمالية الشعر ثم الشعرانية مقابلاً للمصطلح (Poètique) الذي ينصرف إلى نظرية الشعرية111. فينقض ما جاء به في كتابه، أي دراسة سيميائية تفكيكية جملة وتفصيلاً.
ويزداد اللبس المصطلحي لدى الباحث حينما نلفيه يستقر ـ على صيغة الجمع قولاً بمصطلح الشعريات ومقابلاً لِلفظ: (Poètique)112. فيشاكل بين مصطلحات مختلفة هي: (الشعرية، الشعرانية، والشعريات)، وفي اعتقادنا أنّ البون شاسع بين (la Poèticitè) و(Poètique)، لأن مصطلح الشعرية دال في ذاته على الجمع، فالقصيدة شعرية والقصائد شعرية. وصياغة الباحث في ذلك جمع على جمع لا جدوى منه وإن كان جائزاً من الوجهة النحوية.
وبنفس الصياغة من المادّة (ش. ع. ر)، والاسم النعتي بصيغة التأنيث، أورد محمد مفتاح مصطلحي “الشعرية” كمصطلح يروج في الدّراسات القديمة، فقرأ دلالات للكلمة غير منهاجها الفيلولوجي، انطلاقاً من آراء القدامى والمحدثين، ثم في الدّراسات الألسنية الحديثة، وترجم مصطلح (Poètique) عن “جان كوهين” وعن “ماري بلينة” في اللغة الفرنسية113.
ومن ضمن العناصر التي أوردها الباحث، وخاضت فيها الدّراسات القديمة وبعض التيارات الألسنية (المجاز) سواء عند القدماء أم لدى الشعراء مثل (بودليير) و(ملارميه)، وبعض الشعراء المتصوفة114.
ثم قرأ الباحث المفهوم (في النقد الأوروبي الحديث)، واعتبره امتداداً أو إحياءاً لتراثهم النقدي والبلاغي واللغوي، مستشهداً بقراءة رومان جاكوبسون ضمن تحديده لوظائف اللغة، وخالصاً إلى تعريف جامعٍ مانعٍ للشعر هو أنه “يقوم على خرق العادة المعرفية والتعبيرية115، ومتصل بقواعد ومبادئ جمالية، وطاقة متفجّرة في الكلام، فيه القدرة على الانزياح (L’ècart) ثم التفرد عن اللاشعر.
ويتواتر المصطلح بنفس الصياغة (الشعرية) لدى نقاد آخرين، بينهم: قاسم المقداد116، وسعد الدين كليب117، وأحمد مطلوب118، ولدى باحثين آخرين بينهم عثماني ميلود في قوله بالشعرية أو علم الأدب119، ومحمد برادة القائل بأنّ المصطلح “انعطاف لتقنية لفظية تتمثل في التعبير وفقاً لقواعد أكثر جمالاً120.
وقريباً من ذلك، أورد محمد بنيس جملة من المصطلحات المتقاربة والمتغايرة أهمها: شعرية (La poètique)، وشعري (Le poètique)، وشاعري (Poèticien)، وشاعرية (Poèticitè)121، مفرقاً بين المصطلحين شعرية وشاعرية، وترجم أحمد المديني المصطلح بالشعرية، نقلاً عن تودوروف122، وكاظم جهاد123، وشكري المبخوت124 عن الباحث نفسه.
ومن خلال قراءة استكشافية لأعمال جان (كوهين)، أقبل بعض النقاد المغاربة على نفس الترجمة، أي شعرية أبرزهم محمد الوالي ومحمد العمري125، قاصدين بالمفهوم معايير نظم الشعر ونظم الشعر وحده. وعلى ذات العرف الاصطلاحي، تواترت الصياغات لدى سعيد علوش، في عمله المترجم الرائد شعرية الترجمات المغربية للأدبيات الفرنسية”126.
وعلى خلاف هذه الأشكال المصطلحية المصوغة، أثار الباحث إبراهيم السامرائي وجهاً آخر من الاختلال والاختلاف في المصطلح، فأخذ بمصطلح “الشعرية” مقابلاً للفظ (Poèticitè) والشعرانية مقابلاً للمصطلح (Poètique)127، وذلك في خصومته النقدية مع عبد الملك مرتاض. وهي ملاحظة لا يتفق بشأنها نقاد آخرون مثل عبد السلام المسدي القائل بالشاعرية مقابلاً للفظ (Poèticitè)، ولم يقل غالبيتهم بالشعرانية مقابلاً لِ: (Poètique) أمر يجعلنا ندخل في خصومة على خصومة وكلام على كلام نحن في غنى عنهما.
وبنفس المجهودات حاول الباحث عبد الله الغذامي تبيئة المفاهيم والمصطلحات الغربية في الثقافة العربية بتحويلها وتغييرها وتطويرها لتتلائم مع الصياغة العربية، فترجم مصطلح (Poètics) بالشاعرية أو لا شعرية أو الإنشائية أو البيوطيقا128. أما مصطلح الشاعرية ـ في اعتقاده فهو مصطلح يعني به “انتهاك القوانين العادية ما ينتج عنه تحويل اللغة من كونها انعكاساً للعالم أو موقفاً منه، إلاّ أنها نفسها عالماً آخر وربما بديلاً عن هذا العالم”129.
ومثل هذا المسعى، يتحدّد أيضاً لدى محمد بنيس، في قوله بالشعرية مقابلاً للمصطلح (Poètique)، وكل كلام شعري بصيغة النعت (Poètique)، ويتحدّد مصطلح الشاعرية في المصطلح (Poètique)130.
وفي مقابل هذه المصطلحات المصوغة من نفس المادة (ش. ع. ر)، فإن جهوداً أخرى اهتمت بالجذر اللغوي، فأوردت مصطلح ـ إنشاء ومنه مصطلح إنشائية. مذهب عبد السلام المسدي، الذي اقترح مصطلح الإنشائية بديلاً عن “البويطيقا ـ لما في المصطلح من خلق وإنشاء، وهو “يهدف إلى ضبط مقولات الأدب من حيث هو ظاهرة يتنوع إشكالها وتستند إلى مبادئ موحّدة، فلا يكون الأثر الأدبي بالنسبة إلى الإنشائية سوى ممارسة تستجيب لمقولات الأدب وتتميّز نوعياً بما يغذي النظرية الإنشائية نفسها131.
وفي مثل هذا المذهب، اتجه بعض النقاد بينهم، الباحث توفيق الزبيدي إلى القول بمصطلح: الإنشائية والبوتيك132. ثم محمد مندور حين قال بمصطلح (الخلق) لمعنى الإبداع والإنشاء133 ونور الدين السد، في مصطلحات مثل: الإنشائية، صناعة الأدب والشعرية134.
ودائماً بخصوص مفهوم “النشأة” صاغ نقاد آخرون مقالات متعدّدة: فكتب عبد الفتاح المصري بحثاً بعنوان “الإنشائية في النقد الأدبي” ثم توفيق بكار (المنهج الإنشائي في تحليل القصص: تودوروف) وسواها من الترجمات التي راجت في أعمال تودوروف135، وعرفتها أعمال باحثين مثل: حمادي صمود ورشيد الغزي وكاظم جهاد وسواهم.
وضمن هذا الالتباس في وضع هذا الحشد من المصطلحات المتقاربة والمتغايرة في آن واحد، فإن نقاداً آخرين سعوا إلى وضع مصطلحات أخرى، مثل: فاضل ثامر حين قال بِ: نظرية الأدب، قضايا الفن الإبداعي، علم الأدب، صناعة الأدب)136، ومحمد عصفور في القول بلفظ: استيتقا اللغة، والمقصود مفهوم البويطيقا الذي يتضمن ذلك الفن المهمل، فن اللعب بالكلمات (Jeux de mots).
وبالرغم من هذا السيل الجارف من المصطلحات النقدية والمترادفات المصطلحية المترجمة والمنقولة والمعرّبة، وهذا الفيض من المداليل، فإنّه ليس بوسع أيّ باحث إنكار هذه المجهودات الجبارة التي بُذِلَت وتُبذل في مدارس لساناتية مشرقية ومغاربية. كما أنه لا يمكن أن تبقى هذه الاجتهادات رهينة التجريب والنشوئية، بل لا جرم من التأسيس الفعلي للمصطلح السيميائي واللسانياتي وما ذلك على نقادنا بعزيز.