- ملخص:
ما هي طبيعة تيار الوعي: هل هو نوع جديد من الأنواع الروائية، أم أنه مجرد تقنية، كأي من تقنيات السرد القصصي؟. هذا هو أحد أهم أسئلة هذه الدراسة. إضافة إلى مناقشة مواضيع من مثل: الشخصية والبطل في السرد الحديث والفروق بينهما، النشوة كشرط إبداعي، تغير قيمة النص الأدبي بتغير تلقيه بين زمنين… إلخ.
خلال كل ذلك تحلل الدراسة شخصيات النص الثلاث الأساسية: حامد وزكريا ومريم، وصولاً إلى ما استنتجه الباحث من نتائج.
- مصطلحات البحث:
1ــ تيار الوعي (Stream of consciousness): أسلوب كتابي يحاول تقديم الكلام، في مرحلة نشوئه الأولى داخل وعي الشخصية.
2ــ المؤلف الضمني (Implied author): شخصية المؤلف التي يستنتجها المتلقي من بين ثنايا النص.
3ــ التماهي (Identification): هو الاتحاد ومعناه أن تتلبس شخصيةً شخصيةٌ غيرها تنطق وتتصرف من خلالها. كما يحدث في حالة تلبس الجني للإنسان.
4ــ التطهير (Catharsis): يتألم المشاهد لألم البطل، ثم يشعر بالراحة بعد انتهاء العرض، لسببين: لاكتشافه أن ما بكى له لم يكن واقعاً، وللتنفيس الذي أخرج معاناته الشخصية وطهر روحه بالبكاء.
5ــ الثيمة (Thema) هي الفكرة الوسواسية المترددة بإلحاح في النص. والمصطلح مستمد من الموسيقى.
- إضاءة لازمة: محتوى الحدث:
تتناول رواية (ما تبقى لكم) قصة فتاة فلسطينية (مريم) تحمل سفاحاً من متعامل مع سلطة الاحتلال الصهيوني (زكريا)، الأمر الذي يجبر أخاها (حامد) على تزويجها منه كزوجة ثانية، قبل أن يغادر متسللاً محتجاً، عير صحراء النقب، إلى الأردن.
بحثاً عن أمه التي لم يرها منذ لحظة النكبة. وفي الصحراء يواجه (المتسلل) الفلسطيني عدوه الصهيوني، في شخص جندي تائه عن وحدته. وفي هذه المواجهة يتقرر مصير الاثنين، حيث يطعن حامد عدوه بالسكين، فيما تفعل مريم في المخيم شيئاً مشابهاً، إذ تطعن زوجها العميل في نفس اللحظة. وتنتهي الرواية عند هذا الحد.
- المقدمة:
إن الأبطال السحريين الذين يختصرون في شخصياتهم أحلام الشعب ــ مثل قاسم في رواية “العاشق”، وحامد في هذه الرواية ــ والشبان المتمردين الذين يهزجون بأغنية الثورة الفاضلة، التي يحلم بها غسان، نيابة عن الشعب.
إن هؤلاء الأبطال يشكلون حركة آلة ضخمة وخفية، لا يمكن إنهاؤها إلا بما يرضي توقعات المتلقين، كما هم في وعي غسان. من هنا تأتي كل تقنيات السرد خادمة لهذه الثيمة الغسانية الملحة.
ورغم أهمية التقنيات السردية عند غسان، إلا أن قيمتها لا تنبع من ذاتها، بل من قدرتها على تقديم المحتوى في شكل معجِب. إن الراوي ــ بهيئته وربابته وألوانه المزركشة وجلسته الخاصة بين المندهشين ــ مهم؛ لكن الأهم هو ما تريد أن تقوله الحكاية، مقول القول، المحتوى الفكري.
من هنا تأتي الكلمة في وعي غسان خادمة للفكرة(1). ولا جرم، فنحن بين يدي لاجئ ثائر، ومفكر صاحب قضية، قبل أن نكون بين يدي قاص يتلاعب بأهازيج الحرف. مع العلم بأن وعي غسان ظل متيقظاً لضرورة أن لا تهيمن واحدة من الاثنتين ــ الفكرة والكلمة ــ على الأخرى.
لا يستمد النص الأدبي قوته من كلماته فحسب، بل كذلك من وعي جمهور المتلقين بالموروث الأدبي الذي ينتمي إليه؛ أو ما يسمى بـ(الأعراف الأدبية) التي تحكم توقعاتهم من نص معنون بعنوان خاص ــ رواية، قصة، قصيدة ــ فالقارئ حين يقرأ رواية لنجيب محفوظ، مثلاً.
فإن وعيه يكون قد استظهر، مسبقاً، ما يمكن أن نسميه (هيئة سيميولوجية)، بشفراتها الحاكمة حول القاهرة في بدايات القرن العشرين: بأناسها الخاصين، وحاراتها الشعبية، وفتوّاتها، والطبقتين الدنيا والمتوسطة، والعوامات والعوالم والراقصات والزوجات الخانعات… إلخ.
وقل مثل ذلك عند قراءة روايات إحسان عبد القدوس: حيث يستظهر وعي المتلقي أحياء مصر الجديدة والمهندسين والزمالك، ونادي الجزيرة، والعلاقات المتحررة بين شبان الطبقة العليا… إلخ.
يمكن القول بأن شيئاً مثل هذا يحدث مع متلقي أدب غسان كنفاني؟. لكن كيف تحدث هذه الآلية؟. أو ما هو المتوقع لدى القارئ من غسان؟. ثم ما هو الذي يتوقعه الناقد، بصفته قارئاً مميزاً، من غسان؟. وما هو الذي يتوقعه غسان ذاته من نصه؟. هي ذي أسئلة هذا البحث.
- أولاً: المؤلف وخيارات الأسلوب:
“لا يتطابق الكلام (parole) مع اللغة (langue) أبداً؛ كذلك الإدراك الأيديولوجي مع المحتمل. ولا يمكن أبداً أن يكون التحرر من قبضة الأيديولوجيا كاملاً ونهائياً: ففي موضع ما تظل منتجات الذهن مرتبطة دائماً بأسلوب عصرها، بل إنه [أسلوب العصر] يتحقق فيها بشكل نموذجي”(2).
هذان المصطلحان السوسيريان ــ اللغة والكلام ــ حاسمان هنا في دراستنا لهذه القصة.
من المكرور الممل قول ما هو مقول منذ زمن بعيد؛ من أن راوي غسان قد استخدم، في هذه الرواية، تقنية تيار الوعي. وحين يواجه المتلقي هذه التقنية الحديثة، في رواية قاص وسياسي كغسان؛ فمن البديهي أن يسأل نفسه: هل خدمت هذه التقنيةُ المحتوى الأيديولوجيَ للقصة؟. هذا ما سنحاول أن نبحث عن إجابته في هذا البحث.
الكلام في النص ينبع من الإدراك الأيديولوجي. ورغم أن الإدراك الأيديولوجي، في أصله، نابع من منظومة القيم التي يؤمن بها المؤلف الضمني، وتحكم خياراته الواعية؛ إلا أن تجلياته في النص تشبه أن تكون انبثاقات لاشعورية.
والكلام في النص هو هذه الانبثاقات اللاشعورية قبل ولوجها في مرحلة الكلام المنظم عن قصد(3)، فيما تحاول اللغة تنظيم هذا المحتوى الكلامي، وتقديمه وفق ضوابطها المؤسسية الصارمة. يمكن القول بأن كلام النص واقف في منطقة العتمة، فيما اللغة واقفة في بؤرة الضوء. من هنا تبدأ مهمة الناقد العسيرة: إخراج الكلام من هذه العتمة.
إن وعي غسان بالشكل واضح ومنصوص عليه، داخل النص المكتوب: فهو يقول منذ المقدمة: فـ”الأبطال الخمسة في هذه الرواية ــ حامد ومريم وزكريا والساعة والصحراء ــ لا يتحركون في خطوط متوازية أو متعاكسة، كما سيبدو للوهلة الأولى؛ ولكن في خطوط متقاطعة، تلتحم أحياناً إلى حد تبدو وكأنها تكون في مجموعها خطين فحسب.
وهذا الالتحام يشمل أيضاً الزمان والمكان، بحيث لا يبدو هناك أي فارق محدد بين الأمكنة المتباعدة أو بين الأزمنة المتباينة، وأحياناً بين الأزمنة والأمكنة في وقت واحد”(4).
إذن فاختيار هذه التقنية كان عن قصد وتدبير، إنه يختار التقنية التي يرى أنها أقدر على تقديم المحتوى النفسي للشخصيات. ففي العمل الفني “يمكننا التأمل والتساؤل، عما إذا كان الشكل يلبي الفكرة؟. إذن يمكننا السيطرة عليه”(5).
أما إذا لم نستطع أن نسيطر على الشكل ــ والكلام لهيجل ــ فإن السبب هو عيب الفكرة ذاتها. لأن “عيب الشكل ينشأ غالباً عن عيب المضمون”(6).
الشخصيات عند غسان حوامل فكرة. صحيح أنه يقبع داخل كل هذه الشخصيات ويوجهها، لكنه في النهاية صانع، يريد أن يخرج مادته بالشكل الأفضل، والأكثر متانة وقدرة على تقديم المنفعة. نحن هنا بين يدي أسلوب متعة شرقي، لا يقدم الإكسسوارات على السيدة.
تحاول تقنية تيار الوعي، في الرواية الحديثة، رصد الأفكار كما هي في وعي الشخصية، قبل أن تتبلور في لغة منظمة، أي أنها تحاول تقديم اللغة البكر، أو الكلام بلغة سوسير؛ كما يهجس به الوعي الداخلي للشخصية.
“فالكاتب ــ من حيث كونه قصاصاً لوقائع موضوعية ــ ينسحب إلى الوراء، انسحاباً يكاد يكون تاماً، ويكاد كل ما يقال يبدو انعكاساً في وعي شخصيات الرواية”(7). كما يقول إيريش أورباخ في تحليله لرواية ڤيرجينيا وولف (إلى المنار).
ومن الطبيعي هنا أن نقول إن اختيار المؤلف، لهذه التقنية، تكمن وراءه قناعة واعية، بأن هذه الطريقة هي الأقدر على سبر غور الشخصية، وتقديم أزمتها، في قالب أكثر إقناعاً للمتلقي. هذا من ناحية أولى.
لكننا نعرف ــ من الناحية الأخرى ــ أن وعي الشخصية في الرواية يختلف عن وعي البطل في الملحمة: ففي الملحمة هناك كمال العلاقات، كمال البطولة. البطل في الملحمة تنصاع له الأشياء. وقد رأينا كيف انصاعت قوانين الطبيعة، وإرادات الآلهة لأوديسيوس آخر الأمر، وأعادته إلى إيثاكا.
أما في الرواية، فالأمر على خلاف ذلك تماماً، لأن كل الأشياء أقوى من البطل: العلاقات، الناس، روح العصر، بل حتى طواحين الهواء، أقوى من دون كيشوت؛ وما ذاك إلا لأن الرواية خالية من البطولة: إنها ملحمة البرجوازية المنتصرة على علاقات العالم القديم، حيث السلعة أهم من الإنسان، وحيث يبحث البطل الإشكالي ــ ممروراً ــ عن قيم أصيلة في عالم منحط، كما يقول جورج لوكاش(8).
تكتمل العلاقات ــ شكلاً ومحتوى ــ في الملحمة، فيما تنحط العلاقات في الرواية، التي تحولت إلى مسرح بشري يعج بالخدم، خدم لكل شيء ما عدا القيم. و”ما إن يدخل الخدم حلبة المسرح، حتى ينحط مقام الملحمة إلى مقام الرواية”(9).
إذن فالسرد الحديث يتناول حياة أبطال لا بطولة لهم، مأزومين كما هو عالمهم، يبحثون عن تحقيق ذواتهم، في زمن لم تعد فيه الأنا سيدة بيتها الخاص، فضلاً عن تحققها في العالم.
لكن للعالم المنحط أدواته كذلك، حيث غياب القيم يولد الاغتراب (Alienation) لدى الأفراد المتميزين. وهذا الاغتراب له نتيجتان: أحداهما سلبية تؤدي إلى العزلة، والأخرى إيجابية تؤدي إلى الإبداع أو الثورة.
والنتيجتان متعاكستان بالتأكيد: فإما أن يكون المغترب منعزلاً سلبياً خائر القوى، وإما أن يكون منتشياً بذاته المتمردة. والأخير هو غسان، المثقف الذي هو بطل رواياته. دعونا نرَ كيف يضع نيتشه النشوة شرطاً للإبداع. يقول:
“لكي يكون هناك فن… لا بد من شرط فسيولوجي: الانتشاء. لا بد أولاً أن تكون انفعاليةُ كلِ الآلة قد كثفتها النشوة. كل أنواع النشوة، مهما يكن مصدرها، لها هذه القدرة، خصوصاً نشوة التهيج الجنسي ــ أقدم أشكال النشوة وأشدها بدائية ــ ثم تليها النشوة التي تسببها كل الرغبات الكبرى.
وكل الانفعالات الشديدة: نشوة العيد، نشوة المبارزة، نشوة الإقدام، نشوة النصر، نشوة تهيج عنيف، نشوة الفظاظة، نشوة الهدم… أخيراً تأتي نشوة الإرادة: نشوة إرادةٍ تم كبحها طويلاً، وهي متأهبة للانفجار.
الأساسي في النشوة هو الإحساس، هو تكثيف القوة، تكثيف الكمال… الإنسان الذي يعرف هذه الحالة يغير ملامح الأشياء، إلى أن تعكس له صورة قوته، إلى أن تصير مجرد انعكاسات لكماله… في الفن يجني الإنسان متعة من رؤية نفسه كاملاً”(10).
إن مثل هذا الغضب المنتشي، في غسان البطل، هو الذي يدفعه إلى صناعة أبطال ملحميين لروايات العالم المنحط. إنه هو دون كيشوت العصر الحديث “رمز النبالة الساعية في خير الإنسانية، ولكن وسائلها العاجزة لا تستطيع تحقيق أمانيها، رمز للمثل الأعلى الإنساني، الذي دائماً يصطدم بالواقع الكالح، فينتهي بالإخفاق”(11).
إن غسان هو ذلك البطل الإشكالي، لا شخصياته. من هنا نراه يراوح، في بنائه لشخصية حامد، بين النموذجين: فهو يريد لبطله أن يحقق قيمه الخاصة ــ قيم غسان ــ فيما يتأبّى الواقع على ذلك تأبّياً تراجيدياً. هي ذي أزمة النص، وأزمة التمرد الشخصي، بل أزمة الثورة الفلسطينية بعامة.
من ناحية أولى، تبدو لنا شخصية حامد مأزومة مغتربة، تبحث عن حل لأزمتها الفردية بالهروب من وجه الفضيحة؛ لكنها ــ من ناحية مقابلة ــ تكتشف في هروبها بأنها تحقق وعي الثورة/ المجتمع. يوجد هنا نوع من التوحد بين الوعيين، والأزمة هنا عامة بقدر ما هي شخصية. هذا ما يريد غسان أن يقوله في أدبه الملتزم.
يتحقق اغتراب حامد منذ البداية، فهو مسافر هارب من عار أخته، التي حملت سفاحاً من العميل زكريا: مسافر، هارب، متسلل، في عتمة الليل… إلخ. وكلها أوصاف لحالة من الاغتراب المفجع، فمنذ الصفحة الثانية نقرأ: “وبعيداً وراءه غابت غزة في ليلها العادي، غابت مدرسته بادئ الأمر، ثم غاب بيته.
وانطوى الشاطئُ الفضيُّ متراجعاً إلى قلب الظلام. وبقيت أضواء الشارع معلقة هنيهة، متعبة وواهنة، ثم انطفأت بدورها واحداً وراء الآخر. فخطا إلى الأمام، تاركاً لخطواته أن تُصدر فحيحاً مخنوقاً، مستشعراً ذلك الإحساس الذي كان يملؤه دائماً حين كان يلقي بنفسه في أحضان الموج: قوياً وضخماً ويتدفق بصلابة لا تصدق، ولكنه مملوءٌ، أيضاً، بالعجز المهيض الكامل”(ص162).
- ثانياً: الشخصية:
ثانياً/1: حامد: واجب الوجود، وخلق الفعل:
لقد تعودنا على كون الرواية ابنة للتاريخ: تحاوره، أو تعيد إنتاجه، أو تحاكيه، أو حتى تنشئ مثالاً موازياً له. لكن غسان في (ما تبقى لكم) يقلب العلاقات، فينشئ روايات ثم يطلب من الواقع أن يشبهها: إنه يطلب من الواقع أن ينصاع لشرط الثوري فيه، حين يعكس المقولات، في سبيل إنشاء عالم مثالي؛ الأنا فيه رمز الإيجاب المطلق، والآخر فيه رمز السلب المطلق.
الأخت فيه رمز الطهارة، والبطل فيه رمز القوة والشرف، والخصم فيه متجرد من كل ذلك. لا يشبه هذا بناء الرواية الحديثة، ولكنه يشبه بناء الملحمة. ولكي نتحقق من هذا أكثر، دعونا نتفحص الصفات التي أسبغها الراوي الثقة(12) على البطل:
فحامد ــ من جهة أولى ــ تُسبغ عليه الصفات الملحمية الآتية:
1ــ فهو يولد تاماً مكتمل البطولة: “صغيراً وشجاعاً، بصورة لا تصدق، و… ينظر بعينيه الحادتين إلى الرجال نظرة الند… كأنه درع صغير من الفولاذ يرصد سن الرمح”(ص186).
2ــ ورغم كونه كالموج “قوياً وضخماً ويتدفق بصلابة لا تُصَدّق” ــ وتلك من صفات الملحمية ــ إلا أنه، مع ذلك وخلاله، لا يزال يشعر بأنه “مملوء أيضاً بالعجز المهيض الكامل”(ص162).
3ــ وهو في شبابه، مغامر شجاع يدق بوابة المجهول ولا يخاف ولا يتردد(انظر:ص169، 173، 178، 194).
4ــ والعالم كله مسرحه، حيث لا تغيب عن عينه نأمةٌ ولا سكنة، و”ليس بوسع أي شيء إلا أن يكون صغيراً وواضحاً وأليفاً في هذا العالم الواسع المفتوح على وسعه”(ص169).
5ــ وهو متوحد بالأرض يستقي منها انتصابه وخطواته ــ الصورة هنا تذكر بهرقل في السينما ــ فيما قدماه منغرستان فيها كجذعي شجرة لا تقتلع(انظر: ص180، 195).
6ــ كما أنه فحل تعشق سفاده الأرض، حين يلفح لهاثها المستثار وجنتيه، وتستسلم لشبابه ولخطواته، تدق في لحمها، بل تصل بجسده المستلقي فوقها إلى لحظة الذروة فترتعش كعذراء(انظر: ص173، 169).
7ــ وعشق الأرض له يدفعها إلى تقمص شخصية المانح (Helper)؛ إذ تعطيه من وحشيتها الطبيعية ما يحوله إلى كائن تام الصنعة، يعمل بأدواته الخاصة(انظر: ص177).
8ــ وهو ندّ لليل يخوض معه مواجهة مباشرة، إذا ما لزم الأمر(انظر: ص190).
9ــ ويملك بنية جسدية تتمتع بالخارق: فكفاه كبيرتان وصلبتان تستطيعان عصر زكريا بمجرد الإطباق حول خصره، فيما جسده متين ومتحفز كجسد قط(انظر: ص167، ص196).
10ــ بل لقد وصل تسامي الصفات إلى معطفه، فأصبح بلون الخيش وضراوته(انظر: ص196).
11ــ وهو كامل في انتمائه إلى مجتمعه، لا يفكر في الزواج قبل أن يجمع شتات العائلة الممزقة في بيت أفضل(انظر: ص198).
12ــ وفي شخصه تُختصر الأمة، فهو قانونها ودولتها. نرى ذلك في قوله عن العميل زكريا: “لو كنت أملك خشبة وشبر أرض، لأعدمته”(ص216).
لكنه ـ من جهة أخرى ـ مجرد فرد معاصر، يعاني أزمة علاقات العالم المنحط. لذا فهو:
1ــ مثل البشر اليوميين، عندما لا يستطيع شيئاً، يكتفي بنقيضه، فيقول للصحراء: “ليس بمقدوري أن أكرهك، ولكن هل سأحبك؟. أنت تبتلعين عشرة رجال من أمثالي في ليلة واحدة. إنني أختار حبك. إنني مجبر على اختيار حبك. ليس ثمة من تبقى لي غيرك”(ص170).
2ــ وما ذاك إلا لأنه “مثلهم كلهم” يخاف من اتساع الصحراء الذي لا نهاية له (ص173)، على العكس من أوديسيوس، الذي رأيناه يخوض معاركه ضد الطبيعة بجرأة وتصميم، يخضع الآلهة لإرادة البطل.
3ــ وهو يسرق الساعة ولا يشتريها. (انظر: ص171). ولا أدري لماذا أراد له غسان ذلك، إلا أن يكون وراء ذلك دافع لاشعوري بالقول بأننا أمام بطل بشري يومي، حتى وهو يتخذ من الملحمي قناعاً. ولكن هل كان ضروريا لغسان أن يجعل بطله ــ الذي يحمل قيم الكاتب ــ سارقاً، في سبيل نفي الملحمية عنه؟. لا يعجبني هذا.
4ــ ووعيه ــ بخلاف البطل الملحمي ــ يصارع وعي المجتمع، ولا يصنعه. ومن ثم فهو يبحث عن نفسه بفك خيوط الصوف التي لفها حوله المجتمع، طوال ستة عشر عاما، حتى حولته إلى مجرد كرة(انظر: ص162).
5ــ وهو كالبشر اليوميين، يفعل الفعل أحياناً تحت وطأة إرادة مترددة، آملاً أن ينقذه الآخرون من خطر اختياراته: فعندما أعلن ــ تحت وطأة الفضيحة ــ أنه سيغادر غداً مساءً، “أراد وهو يهبط السلم أن يستمع إلى أي نداء، أن يلحقه صوت مريم: عد يا حامد، أن تصيح، أن تقول شيئاً”(ص168).
6ــ ثم يتوقف النص قبيل النهاية، تاركاً لنا توقع نهاية البطل، بالطريقة التي يتقبلها الواقع المحكي، خلافاً للنهاية المعهودة والمليئة بالعظمة، التي تسم نهايات الأبطال الملحميين.
ولتبين كيف تقدم الملحمة نهاية البطل الملحمي، يمكننا تأمل كيف اجتمعت الآلهة لتتشاور في شأن مصرع هكتور ــ بطل الطرواديين في الأوديسا ــ وكيف ظل نص الملحمة يصفه، طوال الوقت، بأوصاف من مثل: الجريء، المجيد، مستأنس الجياد، العظيم، ابن بريام المنحدر من كبير الآلهة زيوس… إلخ(13).
تلك هي بعض الصفات المتعارضة في شخصية حامد. لكن هل هذا التعارض دليل ضعف في بناء الشخصية، أم هو شيء آخر؟.
في البداية دعونا نقل: إن غسان يقدم لنا شخصية حامد باعتباره بطلاً تاريخياً، أو بطل رواية تاريخية، أكثر منه بطلاً إشكالياً لرواية حديثة.
وهذا الاستنتاج وحده هو ما يزيل ذلك التناقض الذي بيناه في السطور السابقة؛ إذ لا شك في أن الثوريين مهمومون بتغيير العلاقات التاريخية، مهمومون بإعادة خلق العالم على الشاكلة التي يحلمون بها.
ومن هنا يقف البطل التاريخي في المنطقة الوسطى بين الملحمية والروائية: فهو يستمد من الملحمة ما يرى أنه جدير به، ثم يجبره الواقع على ما هو جدير بالدنيا.
يظهر البطل التاريخي في الرواية، كما يقول لوكاش: “ممثل حركة ذات مغزى، تضم أقساماً من السكان كبيرة. وهو عظيم لأن عاطفته الشخصية، وهدفه الشخصي، يتوافقان مع هذه الحركة التاريخية العظيمة…
وحين نفهم على وجه الدقة الأسباب التي قامت الأزمة [المجتمعية] بها… حينئذ فقط يدخل البطل التاريخي الكبير مسرح الرواية. وإذن فقد يكون؛ بل الحقيقة يجب أن يكون، كاملاً ـ بمعنى نفسي ـ حين يظهر أمامنا: لأنه يظهر لينجز مهمته التاريخية في الأزمة”(14).
من هنا تظهر لنا جدوى استخدام تقنية تيار الوعي في (ما تبقى لكم). باعتبارها مقوماً قوياً من مقومات الحيوية، يتيح الإحساس بالحضور، الذي يولده كون الكتابة منبثقة من منطقة الوعي مباشرة، الأمر الذي يكسبها نوعاً من الفورية تعوضها عما تفتقده.
لدى الكتابة بالأساليب الأخرى. إن غسان يعتقد أن هذه التقنية تتيح بالفعل سهولة التماهي في الشخصية؛ حيث يصبح المتلقي مشاركاً في كل من المعاناة والخلق. إنها عملية سيكيولوجية في جوهرها: فعندما ينغمس حامد في مناجاة، يلج المتلقي في عقل هذه الشخصية ويشاركها معاناتها، فيما يشبه عملية التطهير الأرسطية المشهورة(15).
فحامد وسط الصحراء بعيداً عن غزة، “ينظر مباشرة إلى قرص الشمس معلقاً على سطح الأفق، يذوب كشعلة أرجوانية تغطس في الماء “حيث تطبق السماء فوقه، وتتراجع المدينة حتى تستحيل إلى نقطة سوداء في نهاية الأفق، وحيث يتنفس جسد الصحراء، فيحس بدنه يعلو ويهبط فوق صدرها”(ص161).
يقفز وعي حامد فجأة، ودون مقدمات، إلى مرحلة الكلام الداخلي قبل التنظيم، فتبدأ مصاريع نفسه الداخلية في الانفتاح أمام المتلقي، ليغوص معه، “في الليل، مثل كرة من خيوط الصوف مربوط أولها إلى بيته في غزة”.
ثم ها هو الآن ــ في الصحراء ــ يفك تلك الخيوط، مستحضراً زمناً ماضياً إلى زمن الحاضر، حيث “العيون تأكل ظهره” وصوت المأذون الذي عقد لزكريا على مريم يلقنه: “كرر ورائي: زوجتك أختي مريم، زوجتك أختي مريم، على صداق قدره، على صداق قدره، عشرة جنيهات، عشرة جنيهات، كله مؤجل، كله مؤجل”(ص162).
ثم تردد نفسه الداخلية: “كله مؤجل، طبعاً. فالمعجل هو جنين يخبط في رحمها… وغداً ستقول لابن الحرام الذي ستضعه في فراشها: لو كانت جدتك هنا!. ثم يكبر ويتزوج وينجب ويقول لابنه: لو كانت جدتك الكبيرة هنا!. لو.. لو.. منذ ستة عشر عاماً.
وهو يقول لها: لو كانت أمك هنا، إذا تشاجرا قال لها: لو كانت أمك هنا؛ إذا ضحكا، إذا انتابها الألم، إذا عجزت عن الطبخ، إذا طردوه من عمله، إذا وجد عملاً: لو كانت أمك هنا، لو كانت أمك هنا… طوال شهرين علك وهماً كان يلجأ إليه كلما اجتاحته حُمَّى الغيظ: يحمل سكيناً طويلة ويندفع إلى سريرها.
يكشف عن وجهها، فتفتح محجريها تاركة الجنون يطلّ منهما، يمسكها من شعرها ويقول لها شيئاً، ينظر إليها فقط، فتفهم كل شيء، ثم يطعنها طعنة واحدة في القلب تماماً، ويندفع إلى خارج الدار يبحث عنه: صهره. زوجتك أختي مريم، على صداق قدره عشرة جنيهات، كله مؤجل.
لقد تركته يلوثها، أعطته نفسها في ربع ساعة مسروقة منه، وحين زرع الطفل في رحمها، كان قد أمسك به من عنقه: أنت حر، زوجنيها أو لا تفعل، فلست أنا الذي يخسر”(ص165 ــ 167).
لقد حاول أحد الباحثين، ذات يوم، أن يقول بأن (تيار الوعي) ليس مجرد تقنية أسلوبية فحسب، بل هو “قسر أسلوبي”، يفرض قيام نوع أدبي مختلف بذاته عن الأنواع الروائية الأخرى، كالواقعية والرمزية والتاريخية.
وهذا (القسر الأسلوبي) ليس مجرد خيار مطروح بين خيارات أخرى ــ كما يقول ــ بل هو الخيار الأوحد الذي يقدم نفسه باعتباره “استجابة للفردية والاستقلالية واللااعتيادية التي تلتزمها الرواية في المضمون”(16).
ينتج من هذا الافتراض النظري، أن كل كاتب يرغب في تقديم الوعي، واقتباس الكلام منه مباشرة، ملزم باختيار هذا النوع، كشرط أساسي من شروط النجاح. بل إن هذا (النوع) المختلف من الرواية، يفترض الاقتصار على تصوير الحياة الفردية، بعيداً عما ناقشته الرواية طوال عهود.
من قضايا كبيرة وعامة. فرواية تيار الوعي، كما يراها هذا الباحث: “تتجرد من الزوائد الاجتماعية والتاريخية المفرطة، وتتخلص من التشبث بالأحداث الكبيرة، والأبعاد البارزة، التي تشكل المجتمع ـ ثورة، حرب، وصف مدن، قرى.. إلخ ـ لكنها تقدمها في شكل غير مباشر”(17).
ولكي يؤكد صاحب هذا الاستنتاج صحة ما ذهب إليه مسبقاً ــ وحين واجهته بعد صفحات حقيقة أن (ما تبقى لكم) هي رواية تيار ــ فقد أخذ يلوي عنان الحقيقة، بإنكار كونها تعرض لحدث كبير. ولكي يدلل على مذهبه، فقد أخذ يستعين بالنقل المبتسر عن الآخرين، ما يفيد بأن (ما تبقى لكم) هي رواية العجز والإحباط!(18).
ولو كان هذا الاستنتاج صحيحاً، لأمكن أن نعتبر أن غسان لم يوفق في اختيار هذه التقنية، باعتبار روايته هذه ــ كما نراها ــ مهمومة بالأحداث الكبيرة: إذ لا شك بأن النكبة الفلسطينية، وما تلاها من إرهاصات الثورة، هي أحداث كبرى.
لكن تأملاً يسيراً سوف يوضح بأن الحقيقة هي على العكس، مما يقول هذا الباحث، تماماً: إذ إن رواية (ما تبقى لكم) تكرز بالثورة، منذ أول عبارة فيها إلى آخر كلمة. ولئن كانت الرواية قد ركزت، في بدايتها، على تصوير تفاصيل العجز والإحباط في شخصية البطل.
فلقد جعلت من ذلك مقدمة لدعوتها الصاخبة، واستنتاجاتها النهائية، بضرورة الثورة: حين أعادت بناء الواقع، من خلال النص، تأكيداً على وعي الثورة، بـ”أن كل طريق بعيدة عن الوطن، مرصدة بموت مجاني.
ومن ثم شهدت الأرض كيف أن حامد انحرف في طريقه عما يرده إلى الماضي: إلى أمه. وإذا بهذا الانحراف، الذي يقربه من غايته الصحيحة، يوقفه أمام خصمه، وقد سقط من حسابه مبدأ الربح والخسارة”(19).
وإنني لأظن أن سبب قول من قال بأن رواية تيار الوعي نوع أدبي، لا يهتم بالأحداث الكبرى؛ راجع إلى أن عدداً من الروايات المؤسسة لتقنية التيار (ڤيرجينيا وولف، وليم فوكنر، جيمس جويس) قد تناولت مواضيع (تافهة) ـ كما يقول إيريك أورباخ في تحليله لقصة (إلى المنار) لڤيرجينيا وولف ـ مركزة، في مضمونها، على وعي الذات، بدل وعي المجتمع(20).
لكن من الذي قال بأن كل بداية هي مؤسِسةٌ ومقدسة؟. إن بإمكان مبدع فذ أن يخالف ما سبق إليه الآخرون، ثم ما تعارف عليه النقد تبعاً لذلك؛ لينشئ إبداعاً يجبر النقد على اللهاث وراء فهم أدواته. هكذا كان الأدب العظيم دائماً، وهكذا سيكون في المستقبل.
ولو لم تقفز ڤيرجينيا وولف على ما كان قد سبقها من الرواية البلزاكية، والنقد المتأثر بها ــ مما اعتبر مؤسِساً في زمنه ــ إذن لما كان لها أن تصبح ڤيرجينيا وولف التي نعرفها.
لكل ما سبق، فإنني أذهب إلى أن تيار الوعي هو أسلوب، أو تقنية، أو خيار في القول، يحاول ــ ضمن النوع الروائي ــ أن يقول ما يرى المؤلف أن الأساليب الأخرى عاجزة عن قوله؛ وليس نوعاً روائياً مستقلاً، متباعداً عن الرواية الواقعية، التي يرى الكثير من النقاد أن (ما تبقى لكم) هي من جنسها، مائة بالمائة، كما هو حال (رجال في الشمس)، وباقي روايات غسان(21).
ثانياً/2: زكريا: محتمل الوجود، ومنتهى السلبية:
لقد رأينا كيف أسبغ وعي الأيديولوجيا على البطل مجمل الصفات الإيجابية، في كل أحواله، إشكالياً كان أم ملحمياً. فكيف كان على هذا الوعي أن يصور شخصية العميل؟.
كنا قد رأينا، في بعض نماذج القص الفلسطيني، صوراً خاصة للعميل، كما في متشائل إميل حبيبي، على سبيل المثال؛ ثم ها نحن نرى نموذجاً مختلفاً له في (ما تبقى لكم). والفرق واضح في بناء الشخصيتين، وضوحه في اختلاف طبيعة كل من المؤلفين: غسان وإميل.
فلئن حاولت (المتشائل) تصوير العميل بالصورة التي يراها فيه السياسي البراغماتي، مركزة على جوانب الضعف الإنساني فيه؛ لقد جاءت (ما تبقى لكم) لتبني شخصية هذا العميل وفق الصورة التي على الثوري أن يراه فيها: قبحاً تاماً، ومنتهى السلبية.
لم يكن العميل، سعيد أبو النحس المتشائل، واقفاً عند حد محدود، فهو إنسان طبيعي في وعي النص. ورغم أن السلب هو لب شخصيته، كما يراه وعي الثورة؛ إلا أن إميل يذهب إلى غير ذلك بالمرة.
فينحت له اسمه (المتشائل) من لفظتين مختلفتين ــ التشاؤم والتفاؤل ــ تأكيداً على ضرورة حضور المفردتين عند حضوره. الأمر الذي يحمل المتلقي على الوقوف بين حدين مختلفين، فلا يدين العميل باعتباره متشائماً، ولا يمتدحه باعتباره متفائلاً(22).
وإذ لم يكن باستطاعة غسان، الثوري والقائد المناضل، أن يتصور وجود فلسطيني يقول بهذا، فقد كان عليه بالفعل أن يتعرض لسخرية إميل، السياسي البراغماتي، في دفاعه عن الجندي الصهيوني (دوڤ)(23)، الذي كان ذات يوم رضيعاً فلسطينياً اسمه (خلدون) ــ في رواية (عائد إلى حيفا) ــ فقده والداه لحظة النزوح الكبير، فكبر في أحضان العدو، ودخل الجيش الإسرائيلي ليحارب أخاه (خالد) الفدائي!.
فزكريا في (ما تبقى لكم) مثال للقبح والسلبية والانتهازية والجبن، وشخصيته مبنية منذ البدء وفق منطق سلبي شديد السواد:
1ــ فهو نتن. وهذه الصفة التي يطلقها حامد عليه، تلاحقه في أكثر من موطن(انظر: ص173، 175، 186، 217).
2ــ وهو يرتعد لمجرد رؤية الفدائي سالم بجواره(انظر: ص200).
3ــ بل يصل به الجبن إلى حد الاعتراف العلني بالعمالة أمام الناس، إنقاذاً لحياته: إذ يركع أمام ضابط الاحتلال صارخاً: “أنا أدلكم على سالم”(ص176).
4ــ من هنا فقد كان على أيديولوجيا النص أن تحوله إلى مجرد كلب ينبح(انظر: ص166).
5ــ ثم تمنحه من الصفات الخلقية ما يؤهله لأن يظل مزدرى: فهو ضئيل بشع كالقرد، بل هو مجرد لطخة مصادفة، وسط شعب من المناضلين(انظر: ص167).
6ــ لذلك فهو صغير و”كلهم يقولون ذلك”(ص199).
7ــ وتافه “كفقاعة هواء عائمة، حيث لا يراها أحد، وحيث لا تستطيع أن تختار طريقها”(ص199 ــ 200).
8ــ ويمضي عمره راكعاً، مكباً، يكاد جبينه يمس الأرض، بانتظار أن تركله قدم ثقيلة فينتصب واقفاً ـ كما فعل حين وشى بسالم ـ والذل يتآكله في جسده كالجرب(انظر: ص200).9ــ من هنا فقد كان على نهايته أن تكون بائسة كحياته، وأن تقتله مريم، في سعيها نحو التطهر(انظر: ص230).
هكذا يبني غسان شخصياته، الإيجابية منها والسلبية على حد سواء: حد الواقعية التي “يتعذر فيها الفصل أحياناً، بين الواقع الحضاري والواقع الفني”، بطريقة لاوثائقية، تعيد ترتيب عناصر الواقع الحضاري، “بحيث تجيء خلقاً جديداً”، هو الواقع اللاحرفي الذي يراه فنان ملتزم(24). ولعل هذا هو أحد أسباب غضب السياسي إميل حبيبي وسخريته منه(25).
ثانياً/3: مريم: الوجود لغيره، والمنزلة بين المنزلتين:
يبني غسان شخصية مريم بكثير من المهنية، فهي مأزومة بالمحيط وثائرة عليه في آن واحد. إنها مثال المرأة في المجتمع الشرقي. وحين تبحث عن حل لأزمتها، لا تجده إلا من خلال التماهي في شخصية الأخ الأصغر حامد.
إن المجتمع في نظرها هو حامد. وهي إذ تجعل علاقات هذا المجتمع طاغية، فإنها في ذلك تنطلق من طبيعتها كأنثى شرقية، لا ترى نفسها إلا في مرآة السائد. وحين يصطدم هذا السائد برغبتها، تنكسر رغبتها وينتصر السائد. تنمحي الشخصية هنا لصالح المجتمع/ الثورة.
كان على مريم أن تكون هكذا. فهي في نظر حامد شيء، فيما هي في نظر نفسها شيء مختلف تماماً. فلأي المنظورين كان على غسان أن ينتصر؟.
1ــ إنها، في منظور حامد، الطهارة الأصلية، ماء المطر قبل أن ينزل إلى الأرض. لقد زاوج حامد بين أخته مريم والطهارة ــ يجب ألا ننسى هنا أن الطهارة في وعي غسان هي فلسطين ــ ورغم ذلك، ولأسباب قاهرة، تتلوث هذه الطهارة بزكريا(انظر: ص167). إن مريم هي أخته وحبيبته، والمعادل الموضوعي لـ(الأم/الوطن)، قبل أن (تضيع/تتلوث).
2ــ كما أنها ــ من الجهة الأخرى ــ تمثل أزمة حامد، بعد أن ضاعت بالنكبة، أو تلوثت بفقدان الشرف. يقول النص من داخل وعي حامد: “أنت يا وردة المنشية بأكملها، الطموحة المتعلمة، ذات الأصل والفصل، أي حياة تعيسة جعلتك تقبلين زكريا ــ بأعوامه كلها، وزوجته وأولاده ــ زوجاً؟. يا حبيبتي الصغيرة، يا حبيبتي”(ص195).
نقول هذا بعد أن تأملنا كيف استعاد كل من (حامد/ البطل) و(مريم/ الوطن) وعيهما المستلب، بقتل الخصمين ــ زكريا والجندي الصهيوني ــ في نهاية الرواية.
لكن أزمة أخرى تتبدى لنا هنا، يقول سؤالها: لماذا وحّد غسان بين شرفي الأخت والوطن، فهل كان لاشعوره يوافق على اختزال الوطن في شرف الأخت؟!.
يقول تيري إيجلتون: “إن العمل الأدبي لا يرتبط بالأيديولوجيا عن طريق ما يقوله، بل عن طريق مالا يقوله: فنحن لا نشعر بوجود الأيديولوجيا، في النص الأدبي، إلا من خلال جوانبه الصامتة الدالة، أي نشعر بها في فجوات النص وأبعاده الغائبة.
وهذه الجوانب الصامتة هي التي يجب أن يتوقف عندها الناقد، ليجعلها تتكلم. فالنص قد يُحرّم ــ أيديولوجياً ــ قول أشياء معينة، ويجد المؤلف نفسه مضطراً إلى الكشف عن ثغراته وصوامته، أي الكشف عما هو غير قابل لأن يُقال”(26).
ماذا لو مارست الأخت حرية جسدها مع مناضل، بدلاً من عميل؟. هل كان وعي غسان سيقبل بهذا، بدلاً من أن يدفع (راويه الثقة) إلى تصور نفسه حاملاً سكيناً طويلة، مندفعاً إلى سرير أخته، لـ”يطعنها طعنة واحدة في القلب تماماً، ويندفع إلى خارج الدار يبحث عنه”(ص166)؟.
هذا ما يسكت عنه النص، وهذا أحد أسئلته المهيضة.
تلك هي مريم من منظور حامد. أما مريم من منظور نفسها، فهي امرأة أولاً وأخيراً، شاء حامد ذلك أم أباه. فهي:
1ــ امرأة ولها جسد خصب وله متطلبات، مثل أرض غاب عنها المحراث طوال خمسة وثلاثين عاماً، كما يقول النص من داخل وعيها: “ما الذي كنت تعتقده يا حامد المسكين؟. أن يظل المحراث محرماً على هذه الأرض الخصبة؟.
أن أصرف حياتي أمام سروالك المعلق، أستوحي فيه رجلاً اسمه فتحي، كان يحضّر بصمت وكبرياء مهراً يليق بابنة أبي حامد؟. لقد ضاعت يافا أيها التعيس، ضاعت، ضاعت، وضاع فتحي، وضاع كل شيء”(ص194 ــ 195).
2ــ وهي التي في يأسها تركت أخاها حامد يرحل، دون أن تحاول منعه بكلمة، مؤثرة سؤال جسدها على سؤال المجتمع، كما يقول النص من وعيها: “وقد تركناه يغادرنا كلنا دون كلمة واحدة”(ص171).
لكن هذين المنظورين ــ منظور حامد ومنظور مريم ــ سرعان ما يتحدان مرة أخرى، لتحقيق وعي الأيديولوجيا، فلا ترى مريم خلاصها إلا في قتل زكريا، بالضبط كما يفعل أخوها في مكان آخر مع الجندي الصهيوني.
إن كلاهما عدو في الحقيقة. ولا يتحقق الخلاص من العدو إلا بالمواجهة. ينتصر حامد على نفسه وأزمته وضياعه بقتل العدو، وتنتصر مريم لشرفها المهدور بقتل العميل. وكلاهما ــ العدو والعميل ــ وجهان لعملة واحدة.
هكذا ينتصر منطق الثورة أخيراً، بعد كل هذا العناء.
والسؤال الآن هو: هل كان على الجسد الأنثوي أن يتخلى عن متطلباته ــ بعكس الذكور ــ في سبيل إرضاء الوعي العام؟. ذلك ما يهجس به النص. وذلك هو ما تفرضه الأيديولوجيا. وليس هذا نقداً لمنطق الأيديولوجيا، في زمن متأخر، بل هو محاولة لاكتشاف منطق الثوري في زمن الثورة.
ذلك الزمن الذي حاول أن يكرز بالجميل من الفكر، في ثوب الجميل من الفن. ولأنه زمن مضى وانقضى وذهبت مكتسباته، فقد أصبحنا نرى اليوم صنفاً مسلياً من (مخلوقات شبه حداثية) تحاول أن تصمه باللاواقعية والشعاراتية!. فليت شعري، هل يصنع الثورة إلا مفكرون مقتدرون كغسان، يرفعون شعاراتهم ويموتون في سبيلها!.
ثالثاً: النشوة كشرط للإبداع:
وأخيراً ــ وإذا ما قررنا تقبل مقولة نيتشه السابقة في شرطية النشوة للإبداع ــ دعونا نتأمل كيف تستبد نشوة الغضب، بالمناضل الفنان، فيصور لحظة الصراع بين الفلسطيني وخصمه، في نهاية الرواية ــ من خلال وعي الشخصيتين حامد ومريم معاً ــ بطريقة متزامنة، كما هي في النص الذي لا نجد بداً من إثباته تاماً:
“ولمعت أمامي بنصلها الطويل المتوقد، فوق الطاولة. فردني الجدار إليها، كأنني لعبة مطاط. واحتوتها قبضتاي معاً، وانسدل ذراعاي فوق كفّيّ المطبقتين على مقبضها حتى أسفل بطني: متشنجتين قاسيتين. واندفعنا مرة واحدة ونحن ننظر في عيني بعضنا مباشرة.
كان النصل مندفعاً من بين كفيّ المحكمتي الإغلاق، وأحسست به حين ارتطمنا يغوص فيه. وأنّ أنيناً طويلاً، وحاول أن يرتد، إلا أن النصل جذبه من جديد، فأنزل كفيه ووضعهما فوق كفيّ المتشنجتين، فوق المقبض، وأغمض عينيه. عندها تركت المقبض وارتددت إلى الوراء.
كان النصل يغوص في عانته، فوق فخذيه مباشرة. وحاول أن ينتزعه، إلا أن كفيه ــ اللتين أخذتا تزرقان وترجفان ــ عجزتا عن الإمساك بالمقبض، فانحنى، واستند بذراعيه إلى الطاولة، فيما أخذ الدم يبلل سرواله، وينتشر قانياً لامعاً فوق ساقيه.
وفي اللحظة التالية، فتح عينيه بوهن ونظر إليّ، فاستندت وأمسكته من كتفيه، ودفعته نحو الحائط، فالتصق جسده هناك، محنياً بعض الشيء، وقد سقط ذراعاه إلى جنبيه، فيما ألصق جبينه على الحائط، محاولاً أن يبعد المقبض عن الوصول إلى الجدار. ولكنني ثبّتُ كتفيه بكفيّ، ووضعت ركبتيّ على ظهره، ودفعته نحو الحائط بكل ما فيّ من قوة.
وسمعت صوت النصل يغوص في لحمه بطيئاً، ولكن ثابتاً، مرتفقاً بصوت خشب المقبض وهو يحك الجدار بضراوة. فشخر كأنه يصحو من نومه، وتناهى إليّ صوت نزيز الدم يتدافع حول النصل، ثم انتفض وتساقط وتكوم بين قدمي الطاولة.
وأضاء شعاع الشمس المتسرب من النافذة خطاً رفيعاً من الدم، كان يزحف برأس مدبب، وسط بلاط المطبخ الناصع البياض. ودوى صوت الصمت فجأة، حين أخذت الكلاب خارج النافذة تنبح نباحاً مسعوراً لا ينقطع، ولم تصمت إلا حين جاءت خطواته، مثلما كانت دائماً، خارج ذلك النعش المعلق فوق الجدار: تدق في جبيني إصرارها القاسي الذي لا يرحم. تدق فوقه مكوماً هناك قطعة من الموت. تدق، تدق، تدق”(ص230 ــ 233).
تتبدى النشوة هنا مبدعاً من لحم ودم، تقول بغضب كل ما يهجس به لاجئ فلسطيني، اقتُلع من بيته في يافا، أو من مزرعته في قرية لا اسم لها، ليلقى عارياً جائعاً فاقد الكرامة والاسم والهوية، في خيمة بائسة من خيام الأمم المتحدة.
تتوهج نشوة الغضب في وعي الشخصيتين سوياً، في زمن واحد، في مكانين مختلفين، وتخلق الفعل من العدم. مريم الممرورة بالفقد طوال الرواية ــ فقد الإرادة، فقد الشرف، فقد الأخ ــ يتخلق على يديها الفعل الحتمي، حيث تحتوي قبضتاها (لا ذاتها) السكين، وينسدل ذراعاها (لا إرادتها) على القبضتين، ليزيدا من قوتهما في القبض على السكين/ الحل.
وبعد أن تنفذ الطعنة في قلب العميل فقط، تبدأ الفتاة باكتشاف إرادتها بالتدريج، منتقلة من كونها تابعة لقبضتيها، إلى مشاركة في الفعل: (واندفعنا مرة واحدة ونحن ننظر في عيني بعضنا مباشرة)؛ وصولاً إلى خلق الفعل: (وفي اللحظة التالية، فتح عينيه بوهن ونظر إليّ، فاستندت وأمسكته من كتفيه، ودفعته نحو الحائط، فالتصق جسده هناك).
علينا أن نلاحظ كيف يتطور الفعل هنا بقوة النشوة. إن أسلوب الكاتب هنا يشي بغضب لا محدود، طال كبته قبل أن يكتشف متنفسه وينفجر. فإذا كان الأسلوب هو الرجل، كما يقولون؛ أفلا نرى هنا غسان ذاته؟. إن النشوة في هذا المقطع لا تخلق أسلوبها فحسب، بل ألفاظها كذلك:
1ــ ففي العبارة: (ولمعت أمامي بنصلها الطويل المتوقد) نرى السكين ــ في وعي ذاتها ــ تلمع، فيما نصلها ليس مجرد طويل فحسب، بل (متوقد) كذلك.
2ــ ثم يُمنح الجدار وعي إنسان يتفوق على وعي الشخصية، فيرد مريم إلى السكين، كما نرى في عبارة: (فردني الجدار إليها، كأنني لعبة مطاط).
3ــ كما تستقل الذراعان بوعي ذاتي متميز عن وعي الشخصية، كأن الغضب المتشنج القاسي هو الذي يفعل لا الشخصية، كما نرى في قول مريم: (وانسدل ذراعاي فوق كفّيّ، المطبقتين على مقبضها حتى أسفل بطني: متشنجتين قاسيتين).
4ــ كل ذلك لكي تكتشف الشخصية ذاتها، وتستعيد إرادة الفعل، عن قصد ومعرفة وسبق إصرار، لتمنح الصراع الإنساني مداه الأوسع، كما تقول العبارة من وعي مريم: (واندفعنا مرة واحدة ونحن ننظر في عيني بعضنا مباشرة).
وعلى صعيد مقابل، يمكن قراءة المقطع، باعتباره خارجاً من وعي حامد، في لحظة صراعه مع عدوه الصهيوني في الصحراء. لقد خرج من غزة باحثاً عن قيمه، في هذا العالم المنحط، فلم يجدها إلا من خلال الصراع مع سالب كينونته. إنه يطعن عدوه في نفس الموضع الذي تطعن فيه أخته الآن عدوها العميل.
يتشابه المسرحان في هذه اللحظة النصية:
1ــ يوجد لدينا في الصحراء فتىً مشحون بنشوة الغضب، تقف مقابله أخته في المخيم، مشحونة مثله. فوق رأسها ساعة معلقة على الجدار تدق، وإلى جانبه في الرمل ساعة ألقاها من يده وهي تدق.
2ــ يوجد لدينا في الصحراء سكين “نصلها الفولاذي يتوهج في الضوء”، ينطلق صريرها “المحذر كأنه عويل أخير”(ص228)، تقف مقابلها سكين أخرى في بيت مريم، تلمع بنصلها الطويل المتوقد وتندفع بذاتها، كما رأينا في المقطع.
3ــ يوجد لدينا في الصحراء، أمام حامد، عدو هو المقابل النقيض لتحقق الذات؛ يقف بالتوازي مع عدو مماثل من نفس معسكر الخصم، هو المقابل النقيض للشرف.
4ــ من هنا كان لا بد من طعن مشترك، بسكينين متشابهتين، في نفس اللحظة. ندرك ذلك من تغيير غسان لشكل حروف الطباعة، في العبارة الأخيرة من الرواية: (تدق في جبيني إصرارها القاسي الذي لا يرحم).
“إن الفلسطيني عرّف هويته وميّزها، من خلال صراعه مع الحركة الصهيونية… ما يميّز الهوية الفلسطينية هو التشريد وعدم الأمان؛ إضافة إلى خبرات النكبة، التي تنتقل من جيل إلى آخر.
ولذلك فإن عملية بناء الكيان الفلسطيني ارتبطت بالكفاح المسلح: بمقاومة الاحتلال يصبح أحدهم فلسطينياً. وبالتالي، فإن أي فلسطيني يولد وفيه شعور بأن له الحق في المقاومة”(27).
تدق ساعتان في مكانين مختلفين فوق جثتين ــ هما في الحقيقة جثة واحدة لنفس الشخص ــ ليجترح الفلسطيني حياته من موتهما. هكذا يتحرر الفلسطيني من وهم السلب، ليدخل منطقة فعل الإرادة، ويصنع الثورة.
رابعاً: التلقي بين زمنين:
هكذا كنا نتلقى النص في زمن الفعل الثوري، وهكذا كنا نراه. فما الذي حدث اليوم حتى ينبري بعض المشتغلين بالشأن الثقافي إلى القول بأنهم اكتشفوا ــ مؤخراً ــ أن أدب غسان مثقل بالشعار الأيديولوجي؟.
وإنه لحق أن التلقي يختلف من زمن إلى آخر. ولنضرب مثالاً على ذلك بقصة (صمت البحر) للفرنسي ڤيركور، التي تتناول حياة أسرة فرنسية، أُجبرت على إيواء ضابط نازي، في سنوات الاحتلال الأولى لفرنسا، قبل أن تنشط المقاومة السرية.
ولقد رأينا كيف بدأت هذه الأسرة تتعايش، مع واقعها الجديد، بصمت كبرياء يقاطع محاولات الضابط النازي للتقرب منها. لكن الهزيمة هزمت الأسرة بعد حين، وبدأت ترى أن بإمكان الفتاة أن تقع في حب ضابط الاحتلال، بعد أن اكتشفت فيه مع العشرة إنساناً متحضراً، يحب الموسيقى ويحترم السيدات… إلخ(28).
لقد نالت هذه القصة، آنذاك، بين القراء شهرة عظيمة. لكن مع بدء عمليات المقاومة تغير الموقف ـ كما يقول سارتر ـ وحيل بين الألمان والفرنسيين بحاجز خفي من النار: “فلم نعد نرغب في معرفة إذا ما كان الألمان.
جناة أم ضحايا للنازية، ولم يعد يُكتفى حيالهم بالاحتفاظ بصمت الكبرياء. على أنهم لم يكونوا ليحتملوا هذا الصمت: ففي نقطة التحول هذه، أثناء الحرب، كان لا مناص من أن يكون المرء معهم أو ضدهم.
وبدت قصة ڤيركور وكأنها نسيج ساذج، يتغنى بألحان الحب، وسط الضرب بالقنابل والمذابح والقرى المحترقة. ففقدت القصة بذلك جمهورها: فقد كان جمهورها يتمثل فيمن عاصر عام1941، ممن استخذتهم الهزيمة”(29).
وإذا كان كثير من المتلقين الفرنسيين قد تراجعوا عن قراءة (صمت البحر)، في زمن صعود الثورة، فإن شيئاً معاكساً قد حدث لدى بعض المخلوقات الفلسطينية. فلئن كانت الثورة الفلسطينية قد خلقت متلقيها في زمن الصعود.
لقد آن ــ كما يبدو ــ لزمن الهبوط أن ينتج جمهوراً مخالفاً يشبه جمهور رواية ڤيركور، ممن استخذى بهم وعيهم المهزوم، وأغراهم بالتراجع عما كانوا قد أحبوه ذات يوم، لا لشيء إلا لأنه عظيم بعكسهم، وداع إلى المقاومة، في زمن غير مناسب كما يظنون.
- النتائج:
1ــ إن تيار الوعي هو تقنية سرد، أو خيار أسلوبي متاح ــ بين خيارات متعددة ــ في الرواية الحديثة، وليس نوعاً روائياً قائماً بذاته، يفرض قسريات أسلوبية على كل نص سردي يعرض لأزمة الفرد في مجتمع المدينة الحديثة، ولواعج نفسه الداخلية.
2ــ البطل في هذا النص هو شخصية تراوح بين الملحمية والإشكالية، أي أنه أقرب إلى البطل التاريخي الذي تنشئه ظروف الأزمة المجتمعية.
3ــ هذا النص مأزوم بشخصياته في لحظة التأليف، ومأزوم بمحتواه في لحظة التلقي الحالية. ولو قدر لهذا النص أن يُقرأ في زمن غير زمن الهزيمة هذا، إذن لأمكن اعتباره نصاً عظيماً، كما هي كل النصوص الناشئة في حضن زمن مجيد.
ولقد حدث هذا ذات مرة، وتم تلقي النص بهذه الصفة الإيجابية. أما اليوم، فأشك أن يلقى نفس الاستجابة التي لقيها في لحظة التأليف، التي كانت مجيدة بحق. فالمتلقي العربي اليوم يهرب من زمن مجيد لم يحقق أحلامه، إلى زمن مغبر مقتر حالي يريد أدوات على مثاله.
من هنا نرى نصوصاً بائسة، ونقداً بائساً، يسعى لمحاربة كل لحظات النور الماضية، بادعاء تمثل تقنيات تحقق ما لم تستطع علاقات التاريخ تحقيقه، حتى صرنا نسمع مخلوقات تصرخ بأن وطنها هو لغتها!.
كأن العدو الصهيوني ــ بالمقابل ــ يمكن له أن يرضى بحفنة من الروايات الصهيونية والأشعار العبرية، بديلاً عن أرض الميعاد وقدس الأقداس!.
4ــ ولأن غسان، بطهارته وإبداعه، يعرف هذا الهراء ويأباه، فإن الكلمة عنده واقفة بين حدين: حد الجمال، وحد الفكرة. فطقوس القول ــ رغم أهميتها عنده ــ ليست هي كل شيء؛ بل هي النار المقدسة التي تشعل الفكرة وتطهرها. من هنا توظف خياراتُه الواعيةُ تقنياتِ القص الحديث، لتصوير وعي الشخصيات وهو يتخلق وينمو ويفعل.
5ــ إن مجمل سمات الشخصية، في هذا النص، تقول بأننا أمام:
5/أ: بطل يراوح بين الملحمية والإشكالية، ليرتاد مجال التاريخ اليومي بنجاح.
5/ب: وبطل مضاد تنبع أزمته من وعيه بأنه مرفوض من المجتمع/ الثورة، وتتلخص أزمته في محاولة المحافظة على حياته بأي ثمن.
5/ج: وشخصية ثالثة واقعة في الوسط بينهما، تتحقق ــ في البدء ــ من خلال التماهي في واحد منهما، ثم تكتشف ذاتها في فعل الصراع.
5/د: أما كل من الساعة والصحراء فإن في اعتبارهما شخصيتين تجاوزاً كبيراً، إذ لا ينطقان إلا من خلال وعي الشخصيات: فالصحراء تتكلم من منظور حامد الأيديولوجي، فيما تبدو لنا الساعة مجرد مراقب يظهر لنا وعيه من خلال شعور الآخرين به.
كأنها مراقب سلبي يشير إلى قسوة الزمن وعوامل التاريخ. أي أن وعي كل من الساعة والصحراء هو وعي خارجي مهمته الوصف لا الفعل.
- الإحالات:
1ــ انظر: فيصل دراج. دلالات العلاقة الروائية. ط1. دار كنعان للدراسات والنشر. دمشق. 1992. ص178
2ــ يوزف ﭙيتر شتيرن. حول الأدب والأيديولوجيا. ترجمة باهر الجواهري. فصول. مجلد5. عدد3. ص17
3ــ انظر: روبرت همفري. تيار الوعي في الرواية الحديثة. ترجمة وتعليق وتقديم محمود الربيعي. القاهرة. مكتبة الشباب. دون تاريخ. ص44
4ــ غسان كنفاني. الآثار الكاملة. ط3. المجلد الأول. مؤسسة الأبحاث العربية. بيروت. 1986. ص159
5ــ هيجل. محاضرات في تاريخ الفلسفة. ترجمة خليل أحمد خليل. ط1. بيروت. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. 1986. ص86
6ــ انظر: تيري إيجلتون. الماركسية والنقد الأدبي. ترجمة جابر عصفور. مجلة فصول. مجلد5. عدد3. ص27
7ــ إيريش أورباخ. محاكاة: الواقع كما يتصوره أدب الغرب. ترجمة محمد جديد والأب روفائيل خوري. منشورات وزارة الثقافة السورية. سلسلة دراسات فكرية. دمشق. 1998. ص571
8ــ انظر: محمد عزام. تحليل الخطاب الأدبي على ضوء المناهج النقدية الحداثية: دراسة في نقد النقد. منشورات اتحاد الكتاب العرب. دمشق. 2003. ص206
9ــ رولان ﭙارت. أسطوريات: أساطير الحياة اليومية. ترجمة قاسم المقداد. ط1. مركز الإنماء الحضاري. حلب. 1996. ص148
10ــ فريدريك نيتشه. أفول الأصنام. ترجمة حسان بورقية ومحمد الناجي. ط1. أفريقيا الشرق. الدار البيضاء. 1969. ص84 ــ 85
11ــ عبد الرحمن بدوي في مقدمة ترجمته لرواية دون كيشوت. ط1. ج1. دار المدى. سلسلة أعمال خالدة. المجمع الثقافي. أبو ظبي. 1998. ص21
12ــ الراوي الثقة هو الذي يتصرف بالتطابق مع مفاهيم المؤلف. انظر: وين بوث. بلاغة الفن القصصي. ترجمة أحمد خليل عرادات وعلي أحمد الغامدي. جامعة الملك سعود. الرياض. 1994. ص185
13ــ انظر على سبيل المثال الصفحات الآتية من الإلياذة: 504، 505، 506 ترجمة أمين سلامة. ط2. دار الفكر العربي. القاهرة. 1981.
14ــ جورج لوكاش. الرواية التاريخية. ترجمة: صالح جواد الكاظم. طبعة خاصة. القاهرة. المجلس الأعلى للثقافة. 2005. ص39 ــ 40
15ــ لمعرفة ما هو التطهير الأرسطي انظر: جلين ويلسون. سيكولوجية فنون الأداء. ترجمة شاكر عبد الحميد. مراجعة محمد عناني. عالم المعرفة. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. الكويت. 2000. ص28 ــ 29
16ــ انظر: تيار الوعي في الرواية العربية الحديثة. ط1. دار الجيل ودار الهدى. بيروت والقاهرة. 1992. ص13 ــ 20
17ــ انظر: محمود غنايم. نفس المصدر. ص21
18ــ انظر: محمود غنايم. نفس المصدر. ص259
19ــ إحسان عباس. في تقديمه للمجلد الأول (الروايات) من الآثار الكاملة لغسان. مصدر سابق. ص26
20ــ انظر: إيريك أورباخ. مصدر سابق. ص566
21ــ انظر: ما ينقله إحسان عباس عن فضل النقيب. مصدر سابق. ص11
22ــ انظر: خضر محجز. إميل حبيبي: الوهم والحقيقة. ط1. دار قدمس. بيروت ودمشق. 2006. ص304 ــ 305
23ــ انظر: إلياس خوري. الأخطاء والأضداد. مجلة الطريق (بيروت). العدد3. السنة55. 1966. ص152 ــ 153
24ــ انظر: إحسان عباس. مصدر سابق. ص12
25ــ انظر: إلياس خوري. مصدر سابق. ص152 ــ 153
26ــ انظر: عبد العزيز حمودة. الخروج من التيه: دراسة في سلطة النص. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. سلسلة عالم المعرفة. الكويت. 2000. ص242
27ــ عاصم خليل. على ضوء الواقع الفلسطيني: قراءة حديثة لنظرية السلطة الدستورية. مجلة رؤية (غزة). السنة3. العدد28. مارس2004. ص36
28ــ انظر: ڤيركور. صمت البحر. ترجمة وحيد النقاش. ط1. روايات الهلال. القاهرة. 1968
29ــ جان ﭙول سارتر. ما الأدب. ترجمة وتقديم وتعليق: الدكتور محمد غنيمي هلال. القاهرة. نهضة مصر. دون تاريخ. ص71 ــ 72