قبل آلاف السنين من ظهور قصص الإخوة غريم أو نسخ «سندريلا» الأوروبية، كانت حكاية يونانية قديمة تُروى في أرض مصر الفرعونية عن فتاة مستعبدة تدعى رودوبيس (Rhodôpis).
هذه القصة التي دونها المؤرخ والجغرافي اليوناني سترابو في القرن الأول قبل الميلاد، تعد اليوم أقدم أصل معروف لأسطورة الفتاة التي غيّر «حذاؤها» مصيرها، لتصبح من عبدة متواضعة إلى زوجة لملك مصر.
- حكاية رودوبيس: أول سندريلا في التاريخ:
تحكي الأسطورة أن رودوبيس كانت فتاة من تراقيا، بيضاء البشرة ورقيقة الملامح، وقعت أسيرة ونُقلت إلى مصر لتعمل جارية في منزل أحد الأثرياء بمدينة نوكراتيس. كان سيدها لين القلب، لكنه غافل عن قسوة العبيد الآخرين الذين سخروا من أصولها الأجنبية ولونها المختلف، وفرضوا عليها أعمالا شاقة وإهانات متكررة.
في أحد الأيام، لاحظ سيدها مهارتها في الرقص فانبهر برشاقتها، وقدم لها زوجا من النعال الذهبية الحمراء عربون تقدير لجمالها وفنها. لكن هذا الهدية الصغيرة ستصبح مفتاحا لقدَر عظيم لم يكن أحد يتخيله.
بينما كانت رودوبيس تغسل الثياب على ضفاف النيل، خلعت أحد نعليها لتجف في الشمس. وفجأة، انقضّ نسرٌ أو صقر – تقول الأسطورة إنه حورس نفسه – وخطف النعل من أمامها وحلّق به عاليا في السماء.
في تلك الأثناء، كان الملك أماسيس جالسا في احتفال مهيب بمدينة ممفيس، حتى سقط النعل الذهبي من السماء في حجره. رأى في ذلك علامة إلهية غامضة، فأمر بإرسال الرسل في أنحاء البلاد بحثا عن صاحبة النعل المفقود، تعبيرا عن إرادة الآلهة.
وعندما عُثر على رودوبيس، حاولت ارتداء النعل، فكان الملاءمة التامة التي أنهت البحث، وأعلنت زواجها من الملك، لتتحول من جارية مجهولة إلى ملكة مصر.
- أصداء القصة في المصادر القديمة:
أول من دوّن قصة رودوبيس هو الجغرافي سترابو (64 أو 63 ق.م – 24 م) في مؤلفه الشهير «جغرافيكا» (الكتاب 17، الفقرة 33). وتعد روايته المصدر الأقدم لما أصبح لاحقا قصة سندريلا المعروفة عالميا.
لاحقا، أعاد أيليان (Aelian) – وهو خطيب روماني عاش في القرن الثالث الميلادي – رواية القصة نفسها في كتابه «التاريخ المتنوع»، مضيفا أن اسم الملك الذي تزوج رودوبيس كان بسامتيخوس (Psammetichus). وتؤكد روايته أن الحكاية كانت شائعة في العالم القديم، تتناقلها الألسن بوصفها مثالا على العدالة الإلهية ورفعة المظلوم.
أما المؤرخ الكبير هيرودوت، فقد سبق سترابو بخمسة قرون في ذكر اسم رودوبيس في «تاريخه»، مشيرا إلى أنها كانت جارية من تراقيا، وصديقة إيسوب راوي الحكايات، وأنها أُخذت إلى مصر في عهد الملك أماسيس (570–536 ق.م)، حيث أُعتقت بعد أن افتداها رجل يوناني من ميتيليني يُدعى شاركسوس، شقيق الشاعرة الغنائية الشهيرة صافو.
هذا الترابط بين الأسطورة والتاريخ جعل الباحثين المعاصرين يتساءلون:
هل كانت رودوبيس شخصية حقيقية أصبحت رمزا للحكايات الشعبية؟ أم أن الأسطورة نفسها انعكاس أدبي لقصة واقعية تحولت عبر القرون إلى نموذج عالمي عن الخلاص بعد الظلم؟
- بين الأسطورة والواقع: القراءة التاريخية:
يرى بعض المؤرخين أن الملك أماسيس الثاني تزوج فعلا من جارية يونانية، وربما كانت تدعى رودوبيس، وهو ما جعل الرواية تكتسب بُعدا واقعيا في الذاكرة اليونانية والمصرية معا.
بينما يرى آخرون أن القصة لم تتجاوز كونها رمزا أسطوريا يعكس تلاقي الثقافتين الإغريقية والمصرية في مرحلة ازدهار مدينة نوكراتيس، التي كانت مركزا تجاريا يونانيا داخل الأراضي المصرية.
هكذا، تشكلت الحكاية عند تقاطع التاريخ والأسطورة، لتغدو جسرا حضاريا بين العالمين الإغريقي والمصري، يجسد فكرة العدالة السماوية التي ترفع المقهور وتُعيد التوازن إلى الكون.
- الإرث الأدبي: من رودوبيس إلى سندريلا:
تُعد حكاية رودوبيس أقدم نموذج عالمي لحكاية سندريلا، حيث يظهر فيها كل العناصر الكلاسيكية:
- البطلة المضطهدة ذات الأصل المتواضع،
- الهدية الرمزية (الحذاء الذهبي)،
- التدخل الإلهي أو القدري (النسر/الصقر)،
- والنهاية السعيدة بزواجها من الأمير أو الملك.
انتقلت هذه العناصر عبر القرون لتظهر في مئات النسخ حول العالم، من الصين إلى أوروبا، حتى وصلت إلى الصيغة الحديثة التي خلدتها ديزني في القرن العشرين.
لكن جذورها الحقيقية – كما يشير الأدب المقارن – كانت على ضفاف النيل، في مصر القديمة، حيث حذاء رودوبيس كان أول نداءٍ للحلم الإنساني بالحرية والعدالة.
- خلاصة:
قصة رودوبيس ليست مجرد حكاية خرافية؛ إنها وثيقة ثقافية تعكس عمق التواصل بين الحضارات القديمة، وتبرهن أن الإبداع الإنساني واحد مهما اختلفت الأزمنة.
لقد خلّدت الأسطورة امرأة يونانية بسيطة دخلت التاريخ من أوسع أبوابه لا كأميرة بالوراثة، بل كرمز خالد لحلم الإنسان في أن يُرفع الظلم وتنتصر العدالة.