السُّخريـة.. استراتيجيّة الخِطـاب وسُلطـة الحِجـاج
مافتئت السخرية تُثير الاهتمام (2)، رغم أن البلاغيين والفلاسفة واللسانيين والأدباء قد تناولوها من زوايا متعددة. إنها بوصفها وجها figure، تنتمي إلى الدراسات البلاغية القديمة. وقد أعاد اللسانيون الاهتمام بها في الوقت الراهن، فانشغلوا بهيئتها ودرسوا بالخصوص الآليات التي تظهرها في مستوى اللفظ، ثم في مستوى التلفظ.؛ رغم إقرار الدراسات بأنها تمس أجزاء من النصوص بل قد تطغى على النص بكامله، فإنها لم تول هذه الظاهرة التي يمكن أن تخترق النص كله الأهمية التي تستحقها.
سبق للاندا هوتشيون التي أسهمت بشكل هام في “النظرة النصية” للسخرية، بمقارنتها بالهجاء satire والمحاكاة الساخرة، parodie أن لاحظت هذا النقص سنة 1981 ونبهت إليه. من جهتنا سنركز على البعد الاستراتيجي للوجه الذي -كما سنرى- يفرض برنامج قراءة (وإذن تأويل) خاص بالنصوص، لا سيما النصوص الأدبية، يتجاوز المنظور النقدي “الميتاخطابي”، ميسرا بذلك استثماره في سياق جدالي و -أو سياسي. غير أن هذا التوسيع لحمولة السخرية لتشمل ما وراء النص، لا يعفي من الرجوع إلى ضبط آليات لسانية لتدعيم محاولتنا. تضمن الخصائص التداولية للسخرية فعاليتها، ليس فقط الدقيقة وإنما أيضا التأليفية، أي أنها تُحقق المظهر الخارجي الذي يأخذه التنامي النصي. إن هذه الخصائص نفسها هي التي تُفسر الرجوع إلى الوجه باعتباره استراتيجية عمل، كما يمكن أن نلحظ بالملموس من [خلال] الاشتغال على نصيْن جد متباينين من حيث حمولة السخرية (الدقيقة أو الشاملة) ومن حيث المصدر السوسيوثقافي، لكن سنستخدمهما لتوضيح كيف تدفع هذه الاستراتيجية الخطابية بالمعنى نحو رهانات ذات طبيعة إيديولوجية وسياسية(3).
- الخصائص التداولية و المسار المعرفي
إن المنظور التقليدي للسخرية، الذي يجعل منها مجرد عكس للمعنى قريب من قلب المعنى، اختزالي. وقد تم توضيح سلبياته؛ خاصة مع كاترين كربرات اوركيوني(4). في الواقع يمكن إرجاع التساؤل عن الحمولة الحقيقية للسخرية إلى البلاغة القديمة، التي اعتبرت السخرية تارة وجها للكلمة وتارة أخرى وجها للفكر. يعرض لوران بيران(5) بطريقة مفصلة أهم مراحل هذا النقاش في التقليد البلاغي. بمرور الوقت، و نظرا للإهمال الذي تعرضت له وجوه الفكر(6)، لم يبق لنا إلا تصور السخرية باعتبارها وجها للكلمة، وقد ألهم [هذا التصور] العديد من الدراسات المعاصرة. ظهرت تدريجيا جملة من الحجج ضد هذه الرؤية التي تعد تقليدية، مع ظهور الاهتمام بتلفظ السخرية ضمن عناصر التواصل. إجمالا؛ أهملت السخرية باعتبارها قلبا للمعنى لصالح السخرية وباعتبارها استعارة أو خطابا(7). لنتذكر أن جعل الخطاب الساخر قلبا للمعنى؛ يفترض أولا الأخذ بعين الاعتبار مقطعا من اللفظ و ليس أجزاء النص أو النص كله. وثانيا إمكان إرجاع التعبير الساخر إلى قلب لمعناه الحرفي، كما هو الحال بالنسبة للاستعارات عموما. سنوضح هذه النقطة الثانية بلفظ من اللغة اليومية: “ما ألطف هذا الشخص!” سيؤول هذا الأخير باعتباره: “ما أبشع هذا الشخص!”. نستنتج أن هذا المنظور يتأسس على قلب معنى الحد، الذي هو هنا الصفة. لا تحدد هذه المقاربة شروط اللفظ التي تخول مثل هذا القلب للمعنى (بالتأكيد ليست كل الألفاظ الساخرة). بل أكثر من ذلك، حالات قلب المعنى الموازية لأخذ المتكلم لموقف خاطىء جد نادرة. علاوة على ذلك؛ لا يمكن أن توافق هذه المقاربة الدلالية صيغ تأويل طرائق أخرى مشتركة: النفي ليس مناقضا للإثبات. أن تقول: “لست مريضا. “لا يعني القبول بحقيقة”= “أنا في صحة جيدة.” أو ” أنا في حالة جيدة.”. إجمالا؛ يتعلق الأمر بصورة مصغرة لا قيمة لها إلا في بعض الأوضاع، وهذا يضعف بشكل ملموس نظرية السخرية هاته.
بيد أن الرغبة في تجاوز القلب البسيط للمعنى يعقد عمل المحلل. هل لهذا ينبغي أن نتخلى عن وصف بنيوي للسخرية؟ ليست هذه هي الخلاصة التي انتهت إليها الفرضيات المصوغة ردا على من يعتبر السخرية قلبا للجملة، و التي بالنسبة لمعظمهم تأخذ بعين الاعتبار الخصائص التداولية للفظ الساخر. أضف إلى ذلك أن المنظور الذي نتطرق من خلاله للسخرية فيما يلي يدين بالكثير لهذه الدراسات التداولية و خاصة دراسات بروندونر(8) و كربرات أوركيوني (9) و دوكرو(10) . يعود الفضل خاصة إلى كربرات أركيوني التي وسعت حدود الوجه ليشمل التلفظ، و ذلك بإدماج مقاصد المتكلم من إنجاز عمل خاص و إنتاج أثر. ركزت هوتشيون(11) على هذا المعطى و أدمجته في إطار الانشغالات الأدبية، حيث يتآلف التمييز النوعي بين الهجاء و المحاكاة الساخرة مع خصائص السخرية. يتعلق الأمر هنا بأول خطوة نحو مقاربة نصية حقيقية للسخرية. يقترح براندونر و دوكرو،اللذان يعتمدان الآليات التداولية الفاعلة في اللفظ بشكل كبير ،اعتبار السخرية تصفيفا superposition لخطابات (متعددة الأصوات polyphonique حسب تعبير دوكرو) متعارضة، يتكفل المتلفظ (الذي يتميز تبعا لذلك عن المتكلم منتج الأقوال الواضحة) في الحقيقة و بشكل ضمني بواحد منها. نلمح توجه باختين الذي يتيح تفسير ” تضارب ” المعنى المستنبط من تأويل اللفظ الساخر. تتوقف الحدود التي تظهرها هذه الفرضيات بالأساس، في تصورنا، على نسيان النص أو بصورة أعم على التنامي الخطابي. يبقى، في الواقع أن نحدد لماذا لا نحس في نص ما من بدايته إلى نهايته، و بالقدر نفسه بالسخرية، إنها توازي ” لحظات ” تمتد في الغالب في مقاطع قد تطول أو تقصر. فضلا عن ذلك لا ينبغي خلط هذه الألفاظ بالخطاب المنقول أو بصيغ أخرى للضمني (أفعال غير مباشرة مثلا حينما يصبح الاستفهام التماسا(12) . يمكن ،علاوة على ذلك، التساؤل أليس “تصفيف الخطاب” أو الأخذ بعين الاعتبار” الخطابات المتعارضة ” تقييديا بشكل كبير. رغم أن الأمر لا يتعلق دائما بأقوال محققة، و إنما بخطابات كامنة توظف مع السخرية، يبقى من غير المريح إقصاء السخرية الوضعية ،التي تنشأ من تناقض مع الانتظارات السياقية، كما يذهب إلى ذلك ليتمان و ماي (13). رغم أننا لا نريد أن نتوقف كثيرا على الأسئلة النظرية و نهمل مشروعنا المتعلق بتوضيح كيف يمكن أن تتسرب السخرية بوصفها أداة سياسية إلى المحكي، فمن المهم أن نلخص الخطوط العريضة لمقاربتنا للسخرية. إنها مدينة لتطورات التداول المقترنة بالاهتمام بالمعرفي. يتيح لنا هذا التصدي للنهج البلاغي باستلهام الرؤية التي تنتصر لوجوه الفكر المقصاة لمدة طويلة من التحليلات الأكثر صورية، كتلك التي قدمت للاستعارة و الكنايةmétonymie . لا يهمنا وصف البنية بقدر ما يهمنا تفسير الخصائص التداولية و التمثيلات التي يوظفها الخطاب الساخر في ممارسته. إجمالا، يتعلق الأمر(بالنسبة للمحلل كما المخاطب- القارىء) بوضع فرضيات حول المسارات المعرفية التي يوظفها النص.
يتلاءم مفهوم التمثيل هذا بشكل خاص، مع السخرية في الخيال الأدبي. إنه يتجلى في بعض أجزاء النص التي لها وظيفة تكرارية، أي يقوي بعضها البعض (في صيغة سنحاول تحديدها). إنها بتضمنها للعلاقات بين المتخاطبين (الراوي و القارئ و الشخصيات و كل مستويات تداخل هذه المكونات)، تبني نفسها انطلاقا من موقف المتكلم من المحيط الخطابي الذي يجسده. إن هذا الموقف الخطابي هو الذي يسعى القارئ في إعادة تشكيله ،و هو يسوقه ليس إلى موازاة مقطع من الجملة بمعنى دقيق يناظر الحقيقة التي يدافع عنها المتكلم، و إنما إلى تمثل الموقع الخطابي الموضوع بحسب الغاية المتوخاة. إذا كان هناك افتراض للسخرية فسيحث النص القارئ على أن يطرح السؤال التالي: هل يلتزم الكاتب- المتكلم بالمعنى المباشر الذي يتلفظ به؟ “. سيجد الجواب في طبيعة المحيط المجسد نفسه، و ذلك بإدراج معارف و خطاطات خيالية و تصورات الخ، توجهه في التأويل، الذي يتموقع في المكان- الزمان الخاص بالنص قيد القراءة. شيئا فشيئا يتشكل لدى القارىء، محيط معرفي يتقوى كلما تأسس التلاحم. إن تأويل النص هو ولوج برنامج القراءة هذا. تنبثق السخرية، كما سنلاحظ بالملموس من المقتطفات، بالضبط حينما يقع تغيير في برنامج القراءة بسبب تشكيك يخلخل مؤقتا المعنى و يفرض إعادة بناء مسار معرفي آخر كفيل بإعادة تأسيس التلاحم المهدد. إنها تدعو إلى نقد ميتاخطابي مزدوج: للفظ ، بالتشكيك في المسار المعرفي المندرج،و أيضا للتلفظ ، بالتساؤل عن المسئولية الحقيقية التي يتحملها الراوي اتجاه المحتوى الدلالي.
إن الأدب لا يحجم عن هذه التساؤلات التأويلية التي تقترح النقد أكثر من التلويح به. تظهر السخرية في عداد هذه المناهج. من هنا أهمية الرواية البرازيلية ” يوميات ناسخ” (Recordacœs do escriva) تبدو المقاطع الساخرة، و هي تتجلى في زمكان النص دقيقة و مضبوطة .عرف عمل الكاتب ألفونسو هونريك دو ليما باريتو (1881-1922) المعروف أكثر باسم ليما باريتو نجاحا معتدلا بسبب النقد الاجتماعي و السياسي الذي تضمنه. تشي هذه الرواية الأولى، التي كتبت سنة 1909 بعيوب الصحافة و المؤسسات السياسية التي تدعمها. يحكي إزاياس كمنها، الذي كان بالإضافة إلى الراوي، الشخصية الرئيسية كيف نجح في أن يغدو صحافيا، رغم أصله المتواضع و رغم أنه مولد وذو أخلاق معيقة لهذه المهنة.
لنلاحظ أولا، كيف أن النظرة النقدية التي فرضتها شخصية الراوي على قيم المجتمع تساعد على المباعدة التي تشغل السخرية إزاءها موقعا مميزا. في هذا المقطع الذي تزعم فيه الشخصية – الراوية أنها تتأثر بالنساء اللائي تصادفهن يصدر حكم يتسرب بطريقة ضمنية.”
“مشيت الطريق متجنبا الجماعات الواقفة على قارعته. تقدمت كما السفينة بين رصيفين، مقتطفا أثناء مروري نتفا من الجمل: كلمات طيبة و دعابات، بل أيضا بذاءات. صادفت نساء جميلات، و قبيحات و طويلات و قصيرات، مزينات بالريش و الأوسمة، متلحفات بالحرير. يتراءين كأنهن قوارب كبيرة و صغيرة يحركهن نسيم ينفخ أشرعتهن. إذا احتكت بي إحداهن أستدير كليا، منتشيا بالأثر المعطر الذي يفوح منها. إن النظر إليهن في الظل الواقي لممتع، هن و الشوارع
الآهلة بالواجهات العالية المزينة بالحلي و الأثواب الناعمة”.
توقفت أمام واحدة أو أخرى مأخوذا بهذه الأشياء الهشة و الثمينة. كأن السويقات و القبعات الغريبة و ملابس الكتان الأبيض و ربطات العنق الخفيفة تقول لي:
اشترينا يا أيها المغفل، نحن الحضارة و الجدارة بالاحترام و الاعتبار و الجمال و المعرفة. بدوننا لا يوجد أي شيء من هذا، و نحن فضلا عن ذلك الجلالة والسلطة ( 14).
يهدد التعبير ” الأشياء الهشة و الثمينة “، و بالخصوص اختيار الصفة الأخيرة، كل المعنى المسند إلى ” مأخوذا “، و كذا الموقف من هذا المشهد. إذا كنا نستطيع في البداية تتبع إحساس الجمال و الأناقة اللذين يظهر أن لهما الصدارة، يتراءى تأويل آخر ذو أثر رجعي على الأول، يقصي إلى حد ما التقويم الإيجابي الأولي. من المناسب أن نلح على أنه يتسرب، لأن القارىء يبحث بعد التأكيدات عن أصداء لهذا النقد الذي يشك فيه، بدون أن يعرف ما هو الوضع الذي يعطيه له “: تقييد بسيط لما قيل أم إلغاء القول.”
في موضع آخر من الرواية تهم الحقيقة، التي هي موضوع نقد، علاقة الموضة بالمستهلك. يتعرض هذا الأخير للمضايقات، كما يشهد بذلك الخطاب الخيالي الذي ينتمي إلى المقطع في صورة تغريضية. لكن هذا النقد يمتد عبر الفقرة: بواسطة أثر مضخم، تحمل الصورة مجازا اجتماعيا ذا اختيار مطابق، و ذلك حينما تغدو مرادفة ل” الحضارة” بواسطة ” الجلالة ” و ” السلطة “، التي تصدر منها. ليس المرور من الملموس إلى المجرد و التعميم الحاصل ببعيد عن الأثر المنتج. تتعدد القرائن التي تطلق السخرية، لكنها ، في الوضع التلفظي،الذي يجمع المتلفظ (مؤلف- راوي أو شخصية) بسامعه، هي بمثابة تهديد للتلاحم، الذي، تبعا يفرض ترتيبات تأويلية تتعلق بالتساؤل عن موقف المتلفظ . يمكن لمثل هذه القرائن أن تتخذ صورة مكبرة للمبالغة (بواسطة التعبيرية و التراكم المكثف الخ) أو صورة إخفاء lilote أو تورية euphémisme. توظف صورة التخفيف هذه في بداية المقتطف، حيث يحكي إزاياك اتصالاته الأولى بفلوك،زميله في تحرير الجريدة :
أحس بأنني أثير دهشته كثيرا، حينما أقول له : إن لي أما و إنني ولدت في جو عائلي عادي و تلقيت تربية حسنة. بالنسبة إليه كل هذا غريب. ما يبدو لي غريبا في كل مغامراتي يجده طبيعيا، بالمقابل أن تكون لي أم علمتني أن آكل بشوكة فهذا هو الاستثنائي(16).
يساعدنا الراوي في اقتفاء أثر النقد الساخر، حينما يعلق على فلوك بطريقة تبين عدم ثقة هذا الأخير به. نفهم بعد ذلك أن سلوكه مرتبط بخلفيات عنصرية، تعمقت لتضحى معتقدات تمييزية تنقل إلينا. إن نبرة الراوي هي على الأصح حكائية تبرز، بواسطة التقابل، الموقف الساخر. ستكون تتمة المقطع حادة، توازن بين تعليق الراوي و الحديث المنقول عن الشخصية عبر الخطاب غير المباشر الحر:
لم أكشف قناعاته الخاصة إلا فيما بعد : بالنسبة إليه كل الناس، الأكثر أو الأقل تعلما في البرازيل، الرجال و النساء من أصلي كلهم متساوون، بل إنهم أكثر مساواة من الكلاب التي تحرس حدائقهم. الرجال أوغاد قائدو عصابات، ومتشدقون إذا ما تعلموا شيئا يسيرا و أعواد حطب للدساسين. النساء (هنا الفكرة أكثر بساطة) لسن
بالطبع إلا إناثا(17).
يستفيد الوجه من الحكي : يلوح خلاف خفي، في حين أنه في الحبكة الروائية، تواجه حالة سذاجة الشخصية بحالة أخرى. إن تناقض الحالة الناتج عنه – و الذي يسوقنا المحكي تدريجيا إلى قياسه- يبدل بطريقة ثانوية في مستوى العلاقات بين الشخصيات، المواقع الإيديولوجية و المبادئ الأخلاقية ذات الطابع السوسيو- سياسي، و هذا ما سيكشفه تمديد المقطع بطريقة تتضح أكثر فأكثر.
إن السخرية، هي بالفعل الهيكل المفضل للنقد، و هي تفحم أكثر إذا تناولت المؤسسات أو ممارسة السلطة السياسية. يصدق هذا على هذا المقطع من يوميات ناسخ، و هو يصف عرضا عسكريا:
بدأت الكتيبة الاستعراض : سار الأطفال [في الصف] الأمامي و جوقة البواقين بعدهم ، تباشر بصوت قوي سيرا خفيفا. بعدهم مباشرة أتى المقدم و هو يجهد في أن يخفي المرارة التي يسببها هذا الاستعراض العسكري الساذج وفي نهاية الكتيبة: ضباط متباهون و متكبرون يبالغون في أناقتهم العسكرية. رجال في أفواج غير منتظمة ممسوخون و مشوهون يجرون الخطى بدون حماس و لا اقتناع غير مبالين و سلبيين، حاملين على أكتافهم بنادقهم القاتلة بحراب صامتة كأنها أداة تعذيب. وكأن الضباط من بلد و الجنود من بلد آخر. كأنها كتيبة من الجنود الهنود أو الأشاوش السينغاليين.
إنها بدون شك المرة الأولى التي أرى فيها القوات المسلحة لبلدي. قبل ذلك لم يكن بيننا إلا اتصالات مشوشة. الاتصال الأول، حينما صادفت عند باب متجر جنديا عجوزا شبه مخمور، مرتديا بشكل فاضح و بطريقة هجينة- [لباسا] نصف مدني و نصف عسكري -.[الاتصال]، الآخر حينما رأيت أرملة الجنرال بيرنادس تتلقى من الجباية مبلغا من نفقات متعددة، تركها لها زوجها، الجنرال الهادئ الذي شاخ في المهام السلمية المعوض عنها جيدا.[…]
مرت الكتيبة بكاملها: ثم العلم الذي تركني غير مبال كليا.[…] (18)
حينما نعرف السياق السياسي للبرازيل في تلك المرحلة، ندرك بأن ليما باريتو جازف بصبغه على العسكر هذه الصورة الشديدة السلبية. إلا أن إدماج هذه الصيغة غير المباشرة التي هي السخرية في المحكي الأدبي، و في نفس الآن فعل الرجوع إليها أسهمت في وضع الكاتب في منأى عن خطر مسؤولية بادية للعيان. لم يمنعه هذا من أن يقلق بسبب هذه الرواية، رغم أن مثل هذا النهج في النقد الضمني يضعف الأدلة التي يمكن أن توجه ضده. لكن الأفكار المعاكسة التي قدمها ليما باريتو كلفته التهميش من قبل الأوساط الأدبية للعصر. يذكر أنه بعد موته في 1922 أهمل عمله و لم يعد طبعه قبل 1961.
للتذكير بالخصائص الأساسية للسخرية، من الملائم التنبيه إلى أنها تعرف غالبا بالتغيير التأويلي الذي تثيره أثناء القراءة. إنها تنشأ في مجموعة تبيح لها أن تنكشف، بالتقابل مع سياق يبنى لينتج تأثيرا. ينبغي أن نذكر بأن السخرية هي، قبل كل شيء وجه، و بالتالي هي آلية خطابية (19). يثير المحكي، إذا اعتبر منذ البداية أنه يحكى بنية حسنة، أي إذا اعتبر أنه ملزم للراوي تساؤل القارئ: هل يتمسك الراوي بما يقول؟ ينبع هذا اللبس كلما بدا أن المتكلم لا يتحمل مسئولية كلامه، فيحدث أثر مباعدة يؤدي في حالة السخرية إلى البحث مجددا عن المعنى.
ينكشف بعد السخرية بواسطة ما نسميه تلقائيا بالنبرة، التي توازي بتعبير تداولي، وضعا تلفظيا يطرح تحديدا، إعادة البحث في المعنى أثناء برنامج القراءة. هذا هو نمط السخرية الممارس في رواية ليما باريتو: حيث نتنبأ بأن سذاجة الراوي مبالغ فيها، فهو يجعل آراء شخصية فلوك المسبقة فضولا أو يبدي دهشة مفتعلة من مظهر الكتيبة العسكرية. تكمن الحالة الساخرة في فعل الرواية الذي يحقق استغلالا أدبيا جيدا للنقد الاجتماعي و السياسي.
- بناء النموذج وإلغاؤه
تخدم السخرية جيدا التفكير السياسي، لأنها تفرض نفسها بوصفها حكما نقديا. لا ينفلت الأدبي من الحجاجي و السخرية هي هنا لتذكرنا بذلك. [إنها]لا تملك جهازا خاصا لإظهار المسلمة La doxa و ما يصاحبها من خطاطات ثقافية تشكل قاعدة للأساطير المعاصرة (سلطة المال و المعرفة الخ.). يتم اقتراح عالم الخطاب المجسد، انطلاقا من انتقاء سمات تكتسب قيمة رمزية و تتيح توسيع التأويل.
إذا كانت السخرية لا تشتغل بتوضيح هذه المعرفة المشتركة كما يفعل النص الجدالي أو التفسيري، فلأنها بالضبط تراهن على الضمنى. بهذا تحين الخطاطات الثقافية التي ينبغي كشفها. بإخراج الموضوع الحقيقي للخطاب من دائرة النقاش بهذه الكيفية، نفهم أن الوجه يقوي المظهر المتواضع عليه ، و إذن التوافقي على ما يبدو، لهذه الخطاطات.
في” قصر الصفعات ” (1986)، ينقل بسكال بروكنر إلى عالم خيالي القيم الرائجة في بلد يحكمه مستبد طاغية(20) .لا يسمى أي بلد محدد، لكن أمريكا اللاتينية أو إفريقيا هدفان محتملان. يتذرع المحكي بخطبة رئاسية لكي يفسر وظيفية الحكومة و المبادئ التي يوظفها الرئيس. يحاول هذا الأخير أن يفرض قواعد على تربية الأطفال التي يعرف أهميتها بالنسبة للأمة المقبلة. غير أن هذه القواعد هي جزء من حدود يضعها- كما تعلمنا- الرئيس بشكل مطرد، لكن ليس لها دائما الأهمية المتوقعة. تظهر فجأة عيوب إدارته. نعلم بأن صحة الناس هي أحيانا مهددة (البدناء أتخموا، في حين أن النحفاء يموتون جوعا). لكن هذه المرة يقترح الرئيس إصلاحا مهما: إنه يرغب في أن يؤسس ” قصر الصفعات “، حيث يتلقى الأطفال بشكل منتظم جزاءهم عن الأعمال الجيدة و السيئة التي ينجزونها، و ذلك وفق تراتبية ترتبط بالعمر و جسامة الجنحة الخ. إجمالا، إنه استيلاء الدولة على ما يشكل امتياز الآباء : التربية التي تغصبها في هذا التصور، العقوبات البدنية.
إن المحكي يأخذ من الهجاء مستهدفا صيغة وظيفية في الواقع، ينتجها و يبالغ فيها بواسطة الخيال. تم استغلال البعد السياسي في كل المحكي. يجذب الرئيس و ممارسة السلطة كل الانتباه عبر حدود متنوعة : العلاقات بين الرئيس و أعضاء حكومته و رهانات البلد و تصور الشعب لذلك – كثير من المنعرجات التي انطلاقا منها توضع المسألة السياسية في المقام الأول. لا يتعلق الأمر هنا بدعم النقد السوسيوسياسي بواسطة سلوك الشخصيات، كما رأينا في يوميات ناسخ، بقدر ما يتعلق بإسناده إلى مشروع مجتمعي مؤسس على الدسيسة. إن الأمر يتعلق هنا باستغلال السخرية في سياقين روائيين متمايزين،إلا أن الخصائص التداولية لا تختلف جوهريا كما سنرى.
يحقق خطاب الرئيس محاكاة ساخرة للخطابات الرئاسية بواسطة مضمون ديماغوجي، صورة دهاء أبوي تقوم على أفكار ممططة لإطالة الخطبة:
بعد اجتماع مجلس الوزراء و جمع أعضاء الحكومة، بعد المداولات و النقاشات و اللغو و الثرثرة و التصويت بالإجماع و التوافق الانتخابي. قررنا و نقر وزرائي
و أنا، أتباعي و جلالتي المعظمة الشيء التالي و الآتي: من الآن و ابتداء من اليوم، يمنع على الآباء و الوالدين و معلمي المدارس و الأساتذة و الأولياء و المربين والبالغين و الراشدين ضرب و لمس الأطفال و الصبيان و لو بريشة و غشاء الطيور علنا أو سرا، في خارج أو داخل المنزل، و إلا تعرضوا لغرامة أو عقوبة، قد تصل و تؤدي إلى حد الأشغال الشاقة أو زنزانة مقفلة.” (21)
يأخذ كل حدث روائي قيمة معممة: على منوال هذا الخطاب بالخصوص، تتوالى كل خطابات الرئيس المزعومة. يتأسس المجازallégorie تدريجيا بإثارة المألوف الإحالي: يثير السيناريو السياسي الخيالي الذي يبنى، نمطا من السيناريو الحقيقي. تتجسد كل سمات الكليانية في شخصية الرئيس هذه و تتقوى برد فعل محكوميه. لا حدود لسلطتها، و هي تستأثر حتى بحق تقرير حق الكلام للكلاب.
يتحدد السيناريو عبر السمات التي تتضمنها التعابير ” الحزب الوحيد ” : مرسوم، رشوة، انقلاب. ثم يقدم لنا المحكي، بصيغة ساخرة طبعا، قلبا للوضعية : ” رغم ذلك، ساءت الوضعية في أشهر معدودة و اتضح أن هذا الإصلاح يسهم في السمو العابر للإنسان و ليس في ازدهار البلد.”(22) ينفلت التحكم في الوضعية من الرئيس الذي كان مسيطرا، ليجد نفسه في وضع المسيطر عليه، و بالتالي عليه تحمل تجاوزات الوضعية التي صنعها بنفسه. إنها، إذن سخرية الوضعية التي تتذخل، في الوقت نفسه الذي يتخذ فيه الراوي حالة ساخرة مشفقة على المصير الرئاسي. حينما يبدأ الشعب في الاقتراح على الدولة عقوبات على الأطفال يجزع الرئيس.
يجب على الرئيس، الذي صدم بهذه المقترحات البربرية إصدار بلاغ رسمي، ليحدد أن القصر ” ينوي البقاء في إطار الجزاءات التقليدية، و يرغب في أن يبقى في دائرة العقوبات التقليدية و ألا يطور إلا عقابات خفيفة و جزاءات مرنة”
القانون برميه إلى أن يضع حدا للعنف، نشره في كل مكان و أثار تجاوزات أسوأ من تلك التي زعم أنه يحد منها.” (23).
ظهرت معالم عالم محكوم بقيم لم تبد لنا غريبة كليا، لأنها مأخوذة من العالم الذي نعيش فيه. يشكل دور المال و سلطة الحاكمين، و أيضا الجزء المخصص للمعرفة أهم معالمه. لنركز على التمثيل الذي قدم له. في الواقع، منذ بداية المحكي، يثير تعبير الرئيس في خطبته الانتباه : إنه- كما يفسر لنا- يستعمل المرادفات لكي يلبي توقه إلى الغنى. لنأخذ حرفيا العبارة الجارية: ” الغنى الكلامي”. يبرز خطاب الشخصية بشكل مبالغ فيه القيم التي تطغى في مجال الكتابة، و يغدو بنقله إلى المستوى السياسي دليلا ليس على المعرفة فحسب، و إنما أيضا على الازدهار و التفوق. تتيح السخرية إعادة بناء نموذج للعلاقات بين المواضعات و القيم، و ذلك باقتراض الصيغة الأكثر تعقيدا للسيناريو. يتعلق الأمر بهذا المفهوم الذي قدمه شانك و أبيلسون للإشارة إلى تشكيلات الأفعال المرتقبة، و التي هي غالبا متواضع عليها(24) . يجسد النص الأدبي هذه العلاقات التي هي بعيدة عن أن تتكون من اقتراحات معزولة، و هي تؤدي إلى نموذج حقيقي للمجتمع. تنكشف السخرية بواسطة لا معقولية العالم المؤسس بهذا الشكل: قيم لا نستطيع تقاسمها و حدود تولي أهمية لأشياء لا قيمة لها و علاقات تتعذر إقامتها بين الناس الخ. يبنى نموذج المجتمع و يتم إلغاؤه في الآن نفسه(25).
لا نستطيع أن ننتمي إلى هذا العالم و لا أن نفكر في أن الراوي ينتمي إليه. لكن، و هذا هو بيت القصيد دور الراوي معقد، و نلاحظ نوعا من المباعدة عن مبادئ العالم المتخيل. و بالتالي التواطؤ مع القارئ. تكون الاختيارات الروائية أحيانا مفرطة، بحيث تنسب إليها المبالغة، و إذن المباعدة بطريقة مباشرة تقريبا. بقدر ما يكون الرئيس مضحكا و يتصرف كطفل بقدر ما يعتبر الذي يحكي شاهدا مقررا، بقدر ما تكون عبارات التقويم السلبي التي تتخلل النص حاضرة لتشهد على ذلك. لكن في نفس الآن، يلتزم الراوي، بتقلده لدور الشاهد، أن يقدم لنا العالم كما هو [أي]، كما يتصوره الرئيس. إجمالا، إنه يقوم بدور عكس العالم المعني و نسخه بطريقة ما، كما لو أنه صانعه. إن الحكي هو مجازيا،” توليد ” و الراوي يضطلع بهذا الدور. إن عليه أن يتصرف بموجب الوضعية. إنها المراوحة بين ” تحدث باسم…” و ” عدم تحمل مسؤولية كلام شخص ما “، التي هي خاصية أساسية للسخرية، يستغلها النص الأدبي بطريقة جد مضبوطة. في” قصر الصفعات ” ،يتمظهر اللبس حتى في خطاب الراوي، الذي انتهى إلى مضاهاة العادات الرئاسية:
عند التفكير في الحرمان من الردفات قريبا، ارتمى الآباء و الأمهات على الأرداف البريئة و الوجوه اللطيفة، دون أن ننسى الركلات [المكالة] لميدور و مينو..إنهم يضربون دون سبب و بلا إرادة، كما لو أنهم سيشرعون في الشرب إذا تقرر منع ذلك.” (26)
إن توالي المرادفات التي تساعد على الإيقاع المزدوج للجملة و إدراج سجل للغة العادية هما خاصيتا عبارات الرئيس الكلامية، التي لن يقدر خطاب غير مباشر حر على أن يتبرأ منها في هذا المقطع. إذن كيف نؤول هذه العدوى الكلامية، سوى باعتبارها طريقة ساخرة لتقوية السلطة الممارسة. حتى المستوى الكلامي أصابته العدوى باعتباره رمزا لصيغة تعليل تتحقق في المحكي بهذا الشكل.
تستثمر النبرة الساخرة المحكي كله عبر مباعدة بارزة نوعا ما، أو بالأحرى عبر تقسيم بين عرض نموذج متواضع عليه و نقده. بمجرد إحلال هذه الحالة في المحكي تتعزز تلقائيا: يضحى القارئ عارفا بالعمل التأويلي المطلوب و بمكامن القرائن التي تعلن عنه. لم تعد المباعدة دقيقة فحسب، و إنما واضعة لبرنامج قراءة إجمالي. رغم أنه يمكن التمييز بين المحاكاة الساخرة و الهجاء بوصفهما جنسين – كما استدلت على ذلك هوتشيون(27) – يبقى أن كلاهما يرتبط، في مستوى الآليات التداولية و المعرفية العامة، بنفس الإستراتيجية الموظفة في السخرية، أي التنافس بين مسارات التلاحم، التي تبني، على المستوى التلفظي و إذن التداولي، البحث عن المعنى.
- سلطة الإستراتيجي على الإنتاج والتأويل
يتقاسم الأفراد في مجموعة أو عشيرة معرفة معينة، تشكل قاعدة السلوك و التفاعل. لا تتكون هذه المعرفة المشتركة فقط من المعارف، و إنما أيضا من القيم. و إجمالا من أساس إيديولوجي يوجه معتقداتهم و أعمالهم. هذا الأساس التقويمي لا يوضح إلا نادرا و يغلب تقديمه بصفة ضمنية في الإثباتات، بوصفها مقدمات غير منطوقة لقياس تسهل استعادته بواسطة الاستدلالات.
وضح الفكر الباختيني هذه الخصوصية التقويمية المدمجة في اللغة اليومية. يصبح القول خضوع لحكم الآخر، بالمقابل يسقط الضمني من النقاش: ليس علينا إلا استحضار في المقتضيات المؤلفة لـ ” فخ ” اللغة، والتي لها وضع ” أرضية تفاهم ” بين المتكلمين، يرى أوغوستو بنزيو (الذي يتبع طريقا رسمه براندينر و دوكرو) أن للضمنيات فيها الدور نفسه.
يقبل التقويم الضمني الذي يتسرب إلى النص اليومي، كما لو أنه عقيدة تلقائية و غير قابلة للشك. خلافا لذلك، إذا ولج التقويم الأصلي اللفظ، يكون بداية للتشكيك فيه :
يدشن ولوجه في التبادل التواصلي أزمة قيم في الأفق الدلالي لجماعة ما، و يكف عن التحكم في اختيارات و شروط وجود مجموعة اجتماعية(28).
لا تشتغل السخرية في استغلالها للمستوى الضمني بطريقة مختلفة. تزيح القاعدة اللغوية التي ترتكز عليها، الخاصية الخادعة التي نلمحها فيها أحيانا. إن قول شيء و التفكير في آخر قد يجعل منها صورة أقرب إلى الكذب. هذه رؤية نهج موجهة كليا إلى الاختيار الفردي و إلى الأخلاق، و هي تركز على قصد المتكلم. إنها تفترض واقعا موضوعيا حيث للحقيقة صورة أحادية. و هذا ما يخالفه، بالطبع النص الساخر. بل إن السخرية ليست إلا إحدى صيغ تنظيم الضمني اللغوي. أما استعمالها، فينعت أحيانا بالمناورة. هنا أيضا تلزم بعض التحديدات النظرية. يفرض تصنيف الظاهرة في خانة المناورات أننا نعرف جانبا أداتيا للغة: وسيلة قد يساء استخدامها إذا ساء القصد. إن المنظور الساذج للخطاب هو الذي يتضمن هذه الرؤية التي تريد أن تكون اللغة في الوضعية العادية – أي ” غير الساخرة “- أداة محايدة. غير أن الخطاب هو دائما موجه، و السخرية تكشف المواضعات التي يرتكز عليها مقتضى التواطؤ مع المخاطب، و في الآن نفسه تجريده من الملاءمة. المناورة، حسب فيليب بروطون، ” منع من التوضيح ” (29)، إلا أن السخرية لا تخضع لهذا التعريف، مادامت هي دعوة لكشف المعنى الثاني (الذي يجب إعادة بنائه عبر صراع المحيطات الخطابية المجسدة). إذا لم تطرح طريقا واضحا بما يكفي أو إذا كان طريق التأويل هذا غير ملحوظ بما يكفي لا يحقق الوجه. إجمالا، ينبغي للسخرية أن تلاحظ باعتبارها كذلك، لكي توجد. هذا ما يشكل مفارقة أخرى مع المناورة، كما يؤكد فلادمير جنكلفيتش، الذي يرفض فرضية الكذب و يعيد إعطاء السخرية ملامح نبلها أمام من يحاول أن يرى فيها مناورة سهلة:
لنقل بالأحرى، إذا كانت السخرية توظف في الظاهر بدون بريق، فلأن هناك مقاومات – و قبل كل شيء، مقاومات ذات أصل روحي- لا يثنيها أبدا بشكل مباشر تكتيك مألوف في البيداغوجيا: ألا يتضمن فن المبشر و الداعية التقولب بالضبط حسب الوعي بالآخر، و تبنى وجهة نظره لتغييرها و لاشتقاق مجرى انفعالاته؟
يملك الخطيب غريزة المحاكاة هذه، و يتكيف مع السامعين لكي يتكيف السامعون معه.(30)
إن المقاومات التي يشير إليها- سواء كانت روحية أو إيديولوجية أو سياسية – تترجم بإتقان تحكم المواضعات في طريقة تفكيرنا. أن نسخر يعني أن نكشف هذه الصيغ في التعليل الممارس في الوقت نفسه الذي تمارس فيه النتائج المؤدي إليها. يظهر العبث و الاستهزاء بوضوح في الخلاصات المرتبطة بالتلاحم النصي الذي يؤسسه الوجه، كما لو أن المتلقي- القارئ مسوق إليه من تلقاء ذاته. إن قوة الإقناع كبيرة إلى درجة أنها لا تفرض خلاصاتها، و إنما تقود الآخر إلى استخلاصها بنفسه، في سياق يرتبط بمونتاج montage يصبح فيه اللامعقول بديهيا. يسمح الأدبي بتفخيم خاصية السخرية هذه، التي هي بناء للتلاحم في صورة مسارات معرفية. بقدر ما يقترب من الخيال بقدر ما يتحول إلى مونتاج-إما روائي أو وصفي أو حواري- و ينشأ المعنى التأويلي من العمل المفروض على المتلقي.
لا نستطيع أن ننكر أن السخرية، بالنظر إلى بعدها البلاغي، تشكل سلطة كلامية تطيلها السلطة الملازمة لممارسة الكلام. أثناء الخطاب – سواء كان منطوقا أو مكتوبا-، الذي يملك الكلام يحتل موقعا فاعلا و خالقا: موقع الذي يبني المعنى، إنه يحتفظ باهتمام سامعه- أو قارئه- طيلة الفترة التي توازي حاجياته التواصلية. إجمالا، يمارس المتكلم فعلا على الآخر آخذا بعين الاعتبار المعايير الاجتماعية،. لكن هذا الدور متبادل حسب اتجاه الحركة الديالكتية للتبادل، كما وضح إيميل بنفنست. يبرز الساخر مثل هذه السلطة و يطيلها بواسطة هذه الطريقة غير المباشرة في بناء المعنى : إنه يفرض على المتلقي عملا هو التأويل، الذي ليس متاحا بصفة مباشرة. على مستوى التلاحم يبني (أول) مسار خطابي، يملك كل خصائص التسلسل مع السياق اللغوي cotexte الخاضع لمسؤولية تلفظية سيتم فيما بعد إلغاؤها. يرى المتلقي، و هو يسلك طريقا خاطئا، في نفس الآن القيم المشتركة التي تتظاهر السخرية بالتركيز عليها في موضع شك. يطغى الموقف الضمني للمتكلم على العمل، و يتمسك تحديدا بكلية القواعد المتضمنة في المستوى الإحالي و في المقولات النهائية. هذه هي فعالية السخرية بوصفها استراتيجية خطابية تستغلها المادة السياسية: إنها تخلخل مجسدة بذلك ارتكاساتنا الحجاجية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- هذا المقال هو نسخة منقحة من مداخلة قدمت في A.C.F.A.S. في ماي 1999 في إطار ندوة Le littéraire et le politique : points d’ancrage ” التي كنت مسؤولة عنها.
2- لنذكر من البلاغيين و الفلاسفة أرسطو La rhétorique à Herennius و سيسرون و كانتليان و فوسيوس و أيضا شليجل و كيركجارد و جنكلفيتش و كرايس و سورل و براندي ، و من لأدبيين و اللسانيين بوت و بانج و كربرات-أوركيوني و سبربر و ولسن و براندونر و أخيرا دوكرو.لا تدعي هذه القائمة الشمول و لكن نقدمها لتوضيح تنوع المنظورات التي تناولت الظاهرة.
3- لتوضيح المسار النصي الذي سلكته إستراتيجية السخرية اخترنا أعمالا تتناقض في مجموعة من وجهات النظر، منها ما يلي : أدت الرواية البرازيلية إلى ظهور نقد اجتماعي و سياسي أدهش القارئ و صدمه في تلك المرحلة ، نفهم أنه ظهر في العمل ، بطريقة متفرقة و خفية [ و ذلك] في خضم الأعمال أو التصرفات التي مارسها أبطال الرواية. أما فيما يخص محكي بروكنير، فيقدم منذ الوهلة الأولى بنبرة ساخرة تشير إلى نوع من ميثاق قراءة ينشأ منذ البداية، لا يهم تقسيم السخرية في اقتصاد الرواية، فهي ستفعل نفس أنماط برنامج القراءة.
4- كاترين كربرات- أوركيوني L’ implicite 1986.
5 – لوران بيرانL’ironie mise en trope 1996
6- انظر دانيال فرجي Figures de pensée , figures de discours 2000.
7- لتذكر المنظور التقليدي، ينظر دوكلاس س.مويم. The compass of irony 1969, و واين س . بوث A Rhetoric of irony 1974 و كاترين – أوركيوني L implicite و L’ironie comme trope 1980 .
8- ألن بروندر Eléments de pragmatique linguistique 1981.
9- كاترين كربرات- أوركيوني L’implicite مرجع سابق و l’ ironie comme trope مقال سابق.
10-أوسفالد دوكرو Le dire et le dit 1984..
11 – لاندا هوتشيون Ironie,satire ,parodie Une approche pragmatique de l’ironie
12 – يطرح سبربر و ويلسن سخرية مقتبسة ironie citationnelle. رغم أن هذه المقاربة، المؤسسة على التمييز بين الإشارة (المعادلة للاقتباس) و الاستعمال، بعيدة شيئا ما عن الرؤية التداولية، حيث [تعد] السخرية نمط تلفظ، فإن لها جانبا سلبيا هو جعل [المرء] يعتقد أن الخطاب المقتبس لا يتدخل في دعم النص. في حين أن ما يظهر خطأ أو مرفوضا يتطلب التوضيح، و يقوم بدور في إعادة بناء المعنى المقصود.
13- دافيد س ليتمان و جاكوب ل ماي The nature of Irony :Toward a computational Model of Irony 1991.
citationnelle. رغم أن هذه المقاربة، المؤسسة على التمييز بين الإشارة (المعادلة للاقتباس) و الاستعمال، بعيدة شيئا ما عن الرؤية التداولية، حيث [تعد] السخرية نمط تلفظ، فإن لها جانبا سلبيا هو جعل [المرء] يعتقد أن الخطاب المقتبس لا يتدخل في دعم النص. في حين أن ما يظهر خطأ أو مرفوضا يتطلب التوضيح، و يقوم بدور في إعادة بناء المعنى المقصود.
14- ك – ليما باريتو Souvenirs d’un gratte-papier 1989 ص 48اترين كربرات- أوركيوني L’implicite مرجع سابق و l’ ironie comme trope مقال سابق.
15 – يتعلق الأمر هنا بآليات تقوم على مبادئ حوارية ملائمة لفرضية كرايس (Logic and conversation 1975 و لكن نوسعها إلى الحد المعرفي و التأليفي. يتم تعليق المسار المعرفي أو التشكيك فيه مؤقتا (لكن لا يتم التخلي عنه).
16- ليما باريتو Souvenirs d’un gratte-papier op cit مرجع سابق ص 201.
17- ن. م
18- ن .م ص 48- 49 .
19- يمكن للتناقض الذي يثيره أن يجعلنا نفكر خطأ في آلية أسلوبية بسيطة بمعنى ريفاتير .سنرى بأن هذا التناقض ليس تناقضا في الكتابة – على الأقل بصفة مباشرة- لكن في التأويل.إنه يفعل انتظارات المخاطبين.
20- غني عن القول إن مثل هذا البناء الخيالي لنموذج سوسيوسياسي يتيح للتحليل إخراج الخطاطات الثقافية المهيمنة” بشكل موضوعي”
21- باسكال بروكنير le palais des claques . 1986 ص 1
22- ن م ص 50.
23- ن م ص 50 -51.
24- لتطبيق هذا المفهوم الحاسوبي على السخرية بشكل هام ينظر دافيد ليتمان و جاكوب ل ماي “The nature of Irony ” مقال مذكور..
25- من هنا أهمية عدم عد السخرية مجرد قلب للمعنى، فالمحتوى الدلالي لا يأتي ليحل محل آخر. يبدو المسار المعرفي الأول متعارضا، و هذا يتطلب استنطاق الوضع التلفظي، و تبعا لذلك استعادة مسار معرفي متلاحم. إن أثر الوجه مرتبط بهذا التدخل التأويلي المزدوج.
26- باسكال بروكنير Le palais des claques مرجع مذكور. ص 19.
27- ليندا هوتشيون Ironie,satire, parodie مقا ل مذكور 1981.
28- أوغوسطو بنزو Production linguistique et idéologie sociale 1992 ص 253.
29 – فيليب بروطون La parole manipulée 1997 ص 137.
30 – فلادمير جنكلفيتش L’ironie 1964 ص 110.
29 – ن م ص 50.
30 – ن م ص 50 -51.
النص الأصلي بعنوان:-
L’IRONIE STRATÉGIE DE DISCOURS ET POUVOIR ARGUMENTATIF
Danielle Forget
Études littéraires, vol.33, nº 1,2001,p.41- 54.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
Bange, Pierre, L’ironie, essai d’analyse pragmatique, linguistique et sémiologie .n º 2 (1976), p 61-8.
Barreto, Lima, Souvenirs d’un gratte-papier, Paris, L’Harmattan, 1989 (trad de M.Le Moing et M-P.Mazéas).
Benveniste, Emile, Problèmes de Linguistique générale, Paris, Gallimard 1996.
Berrendonner, Alain, Eléments de pragmatique linguistique, Paris, Éditions de Minuit, 1981.
Bernd, Zilà, Littérature brésilienne et identité nationale. Dispositifs d’exclusion de l’autre, Paris, L’Harmattan, 1985.
Booth, Wayne C, A Rhetoric of Irony, Chicago, University of Chicago,1974.
Breton, Philippe, La parole manipulée, Montréal, Boréal, 1997.
Bruckner, Pascal, Le palais des claques, Paris Editions du Seuil, 1986.
Cicéron, De l’orateur, Paris, Société d’Edition : les Belles lettres, 1922(éd et trad de H . Bornecque).
Ducrot,Oswald, Le dire et le dit, Paris,Editions de Minuit 1984.
Finaly , Marike , The Romantic Irony of Semiotics :Friedrich Schlegel and the Crisis of Representation , Amsterdam, Mouton de Gruyter,1988.
Forget, Danielle , Figures de pensée, figures de discours,Québec, Nota Bene 2000.
Grice, H , Paul, Logic and Conversation, dans Syntax and Semantics , New York New , New York Academic Press, vol III , 1975.
Hulet,Claude L, Brazilian Literature ,Washington Georgetown University Press vol II, 1984.
Hutcheon, Linda, Ironie et Parodie : stratégie et structure, Poétique, nº 36 (1978), p 467-477.
Hutcheon, Linda, Ironie satire, parodie, Une approche pragmatique de l’ironie, Poétique nº 46 (1981), p 140.154.
Jankélévitch, Vladimir, L’ironie, Paris, Flammarion 1964.
Kerbrat-Orecchioni, Catherine, L’ironie comme trope, Poétique nº 41 (1980), p 108 – 127.
Kerbrat-Orecchioni, Catherine, L’implicite, Paris, Armond Colin 1986.
Kierkegaard , SØren, Le concept d’ironie, Paris, Armond Colin 1966 (1852) (trad.de L.M.Capel).
Littman, David C. et Jacob L. Mey , The nature of Irony : Toward a computational Model of Irony, Journal of Pragmatics, vol XV , n º2 (1991),p. 131 -151.
Mueke, Douglas C, The Compass of irony, Londres, Methuen 1969.
Perrin, Laurent ,L’ironie mise en trope, Paris, Éditions Kimé 1996.
Ponzio, Augusto, Production linguistique et idéologie sociale, Candiac, Les Éditions Balzac 1992.
Prandi, Michèle, Grammaire philosophique des tropes, Paris, Éditions de Minuit ,1992.
Quintilien, Institution oratoire, Paris, Société d’Édition, « Les Belles Lettres » ,1975(éd et trad. de J, Cousin).
Searle, John R, Sens et expression. Etude de théories des actes de langage, Paris, Éditions de Minuit, 1982 (trad. de J. Proust).
Sperber, Dan et Deirdre Wilson, Les ironies comme mentions, Poétique, nº 36 (1978), p 399- 412.
Vossius, Gérard Jean, Rhétorique de l’ironie « document », Poétique, nº 36 (1978), p 495-508 (trad de C. Magnien-Simonin).