الدراسات الأدبية

الأدب والسوسيولوجيا: جدلية العلاقة

 

تُتيح سوسيولجيا الأدب اليوم وما قبل ذلك، إمكانية فهم وتفسير النَّص الأدبي في ضوء المعطيات الاجتماعية، وتفتح أمام الدارس مجالات متنوعة وآفاق واسعة للبحث في الوقائع الاجتماعية المتنوعة في طبيعتها وأسبابها وإشكالاتها.

ولم يعد علم الاجتماع الأدب علمًا نظريًا مجردًا يتناول الظواهر والوقائع الاجتماعية في المطلق، بل نزل إلى معترك الحياة وراح يعالج هذه الظواهر في حيِّزها السياكروني والدياكروني، وفي ارتباط بعضها ببعض، لأن المجتمع كائن حيّ، دينامي، تكثر فيه المؤثرات وتتعدد التفاعلات، بيد أن هذا التَّضايف الخلاَّق بين الأدب والمجتمع، سرعان ما نجد صداه يَتَرَدَّدُ في مستويات مُتَعَدِّدَة سعيًا إلى تمثيل الأدب للواقع والحياة والنُّظمِ الاجتماعية على المستويين: الفردي والجماعي.

إن الاتجاه السوسيولجي باعتباره مدخلاً أساسيًا لدراسة الأثر الأدب، وما يعنيه ذلك، من تطابقٍ والتزامٍ في تمثيل للواقع الاجتماعي وأبنيته ونُطُمِهِ من منظورٍ قرائيّ تحليليّ يُراعي الوعي الطبقيّ وسيرورة المجتمعات وتطوُّرها وحركيتها، قمينٌ بأن يخلق نوعاً من التناظر بين الأبنية الدَّالة التي تتشكَّل منها النَّصيات، لكن، المشكلة الأولى التي تواجه الدراسات التي تأخذ هذه الصيغة الكلاسيكية المُتَمَرْكِسَة، أنها عملت على تقويضِ دواخل النَّص، واهتمت فقط بالتَّشكُّلات التي يَنسجها النص مع السياقات التاريخية والاقتصادية والاجتماعية، أيّْ عملتْ على جعل الأدب شكلاً “من أشكال التعبير عن الحياة الاجتماعية”، بخلاف إلماعات بيير زيما، الذي جعل من اللغة الجوهر الأساس في المقاربات السوسيو-نصيَّة، كما عَمِلَ في هذا الصدد، ميخائيل باختين في الشعرية الاجتماعية على تجلية الأصوات المتعددة داخل ثنايا النَّصيات كالباروديا والأسلبة وغيرهما، وكيفما كان الأمر، فإن السوسيولوجيا باتجاهاتها المتعددة والمختلفة، قد أعادت الاعتبار إلى الشرط الاجتماعي أثناء تحليل وتقييم الإنتاجات الأدبية، وهذا معطى أعطى للتحليل السوسيولوجي مرونةً مفهومية في التعاطي مع التاريخ كأفق واسع ومشتبك ومعقد.

بيد أن هذه الحواضن التي تَخَلَّقضتْ ضمنها سوسيولوجيا الأدب ومحاولات فهم الظواهر الأدبية بالاعتماد على التفسير الماركسي للأب، سرعان ما يعتريه نوع من القصور، وهذا تَوَجُّهٌ كوني ومشترك بين كل الاتجاهات الأدبية، على اعتبار أن كلَّ تيار أدبي يَدَّعي الكمال والشمولية في تحليل ودراسة النَّصيات، والناظر مثلاً إلى الدراسات البنيوية، سيلاحظ أنها أدخلت النصوص في مطافات العزلة والرؤية الاختزالية والابتسار، فجعلت من النص مجرَّد بنية لغوية نسعى إلى تفكيكها إلى بنيات جزئية، وبالتالي، العمل على استبعاد الحواشي المؤثرة، ما نَتَقَصَّدُه هنا، هو كلَّ تيار أدبي، يُغطي زاوية معينة، ويتجاوز زوايا أخرى، فلا مجال في الدراسات الأدبية، ادعاء الكمال والفعالية، بل نجزم، أن ثمة نواقص وعلل في أيَّ اتجاه نقدي.

وليس معنى هذا، أننا مع الفوضى في قراءة النصيات، بل لابد من تَبَنِّي منهج واضح المعالم، تناثر الظلال، يضبط الدراسة ويحكمها من الانجراف وراء سيول جارفة من الهذيان والتَّحوط المنهجي، وإذا كانت سوسيولوجيا الأدب اتجاه يُعنى بالشرط الاجتماعي كأساسٍ جوهري في الدراسة، فإننا مُطالبون اليوم، بتجديد آليات المقاربة والمحاورة مع النصوص بشكلٍ مرنٍ ومنفتح، لا التَّقوقع في شرنقةٍ واحدةٍ للدراسة، ذلك، أن سوسيولوجيا الأدب، في حقيقة الأمر، سوسيولوجيات متعددة، بمعنى، أن تكون الدراسة لها ذاكرة مفتوحة تنظيرًا وممارسة، طالما أن التَّصور النظري ينطلق من خلفية ماركسية لفهم الأدب، وعليه، فإن العوامل الضابطة للدراسة والمُحَدِّدَة لها مُتُأَصِّلَةً في الجهاز المفاهيمي، لكن، الإشكالية تتذرَّى انطلاقًا من معضلة التنسيب، ذلك، أن مكاسب النقد العربي، غير خالصة وتشوبها شوائب عدة، إذ هي في كلياتها مكاسب مُسْتَجْلَبَةٌ من الفضاء الغربي، وهو فضاء مغاير ومختلف عن مناخنا العربي، ولقد تَبَدَّى هذا الإشكال في معظم دراساتنا النقدية، مما جَعَلَ القارئ/ المتلقي يَنفر من هذه الدراسات، تحت ذريعة النزعة التسقيطية- البراغماتية للنقاد، دونما استحضار لشرطيْ الملاءمة والاستنبات بطرقٍ واعيةٍ تراعي -ما أمكن- خصوصيات الثقافة العربية في سيرورتها.

ورغم ذلك، هناك جهود نقدية عربية تنطوي على قدرٍ عالٍ من الجدة والمغامرة والأصالة، والقدرة على استثمار المناهج والنظريات بشكلٍ يُوسِّع مفهوم الأدب في الثقافة العربية وعلاقتها بالعالم. لقد تأسَّسَ النقد العربي -كما هو معلوم- بفعل التثاقف مع الغرب، وحقَّق مكاسب لها أهمية قصوى في التعاطي مع النصوص الأدبية، ومهما كانت نظرتنا لهذه المثاقفة مع الغرب، فإنها ساهمت في بلورة خطاب نقدي عربي على درجة عالية من الإضافة، لكن، ثقافتنا العربية ما تزال في حاجةٍ مُلِحَّةٍ إلى خلخلةٍ جديدة، لاستدراك ما فات واستشراف الأفق النقدي بما يلزم من ابتكارٍ في الرؤى والتَّصورات، على أساسٍ من الوعي بقيمة الاختلاف مع الآخر للخروج من دائرة الانفعال والانبهار بالوافد الغربي، إلى مشاركته في ابتداع مناهج أخرى، ضماناً لسيرورة المعرفة وديناميتها.

ولعلَّ التنسيب وما يحمله من وعيٍ وبحثٍ وتساؤلٍ، أضحى اليوم، ضرورة وفعل وجودٍ، وطريقة تفكيرٍ في المستقبل، فالتفكير في نهاية المطاف، “ما هو إلا تَمَلُّكٌ لمجهودنا في البقاء ورغبة في الوجود” بتعبير بول ريكور، ويمكن لهذا التنسيب أن يكون آلية من آليات المعرفة، ويُمَكِّنَ الناقد العربي من أن يَتَبَوَّأَ مكانة بارزة في الفكر الإنساني، ومن زاوية أخرى، لا يعني هذا القطيعة مع الغرب، ووقف التعاطي مع يقترحه من إبدالات، وإنَّما، المقصود وضع “نقدهم” تحت الأضواء الكاشفة وتأمل كل ما يُكتب وكل ما يُنتجه، والتَّوجه نحوه بشكلٍ واعٍ، فليس كلُّ ما يُنتجه “مقدس”، وغير قابل للنقد والمراجعة.

هذا تصوري للتعاطي مع النظريات المستعارة، وهو مؤكد تصور سبقني إليه الكثيرون، لكن، آثرت الخوض فيه، من منطلق انشغالي واشتغالي على كل ما هو مُسْتَحدَث وجديد، خصوصًا أن “التحديق في الشرر، لا يختلف كثيرًا عن التحديق في الظلمة، فالشرر كالظلمة تماما، لا يُتيح المجال للنظر بعمقٍ وصفاءٍ كافيين”.

إن التحليل السوسيولوجي للنصيَّات، مثله مثل كل النظريات، في حاجةٍ دائمةٍ للخلخلة والتساؤل ورسم أفقٍ للتجاوز، ذلك أنه لا معنى لنظرية دون مراجعةٍ لأصولها ومناخ نشأتها، في أفق استزراعها في تربةٍ عربيةٍ مغايرة ولها سمات وخصوصيات، من هذا المنطلق، فإن إشكالية التنسيب لا تتعلَّق بالمفهوم فقط، وإتما يتهييء “الشروط المتيحة” بتعبير بيير بورديو، حتَّى تَنْبَسِطَ آلياته وتصوراته النظرية، ومن ثم، الاقتراب من النَّصيات والعمل على محاروتها ودراستها بالعدَّة اللازمة.

ما تخوضه اليوم، سوسيولوجيا الأدب في مضمار الدراسات الأدبية، هو القلق نفسه الذي مَيَّزَ اشتغالها في سبعينيات القرن الماضي، حيث الاستئناس بالحواشي المؤثرة، والعمل على تمكين الدرس السوسيولوجي من تصورات لا تنفك في التعبير عن تشبثها بالخارج النصي، دون استبعاد الفهم الداخلي للنصيات، وهي معطيات أَسَّسَتْ لقراءة مُستحدثة، وأعطت للناقد الأدبي مُتَّسعًا للفهم والإدراك والتحليل، بالإضافة إلى توفير هامش المناورة، وعدم التموقع في شرنقة واحدةٍ، بيد أن الحديث عن درس السوسيولوجيا يُفضي بنا، نحو تلمُّس طرق الاشتغال والارتياد، خاصةً أن السوسيولوجيا ليست سوسيولوجيا واحدة، وإنما، يجري الحديث عن سوسيولوجيات، ولو في نطاقٍ من الاختلاف في الطرائق، لكن، تَتَذّرَّى هنا، باعتبارها ترفد من المرجعيات نفسها، هو المرجع الهيجلي- الجدلي، بعيدًا عن السوسيولوجيا التقليدية عند روبير اسكاربيت ومدرسة بيير بورديو، وفي كل الأحوال، تَتَبَدَّى سوسيولوجيا الأدب اليوم، بوصفها آلية من آليات الفهم والتفسير والتقييم والإدراك.


 

رشيد الخديري – المغرب

رشيد الخديري

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى