الدراسات الأدبية

الشعرية مفهوماً

 

يمكن النظر إلى تطور مفهوم الشعرية منذ بداية تبلوره ونشأته، وحتى الآن، بأنه شريط متنام من المفاهيم المتواصلة، المنقطعة أحياناً عن سواها، والمتقاطعة مع بعضها بعضاً، في أحايين أخرى لدى العرب والغرب في آن واحد .

وإذا كان بعضهم قد رأى في ضوء الدراسات الأدبية الجديدة أن الشعرية ليست مرهونة بالنثر من دون الشعر، فحسب، بل إنها توجد في فضاء كلا هذين الضربين الإبداعيين، إلا أن بعضهم راح يتحدث عن الشعرية خارج هذين الإطارين، بل أبعد من ذلك إذ هي في نظرهم معرفة الأنساق الكامنة في النص والتي توجه القارئ إلى العملية التي يتفهم بها أدبية هذه النصوص كي تكون لدى واحد كجوناثان كلر نظرية في القراءة أو أنساق اللغة عند غيره .

ويشير د . سعد بو فلاقة إلى أن مصطلح الشعرية ورد ذكره لدى عدد من الدارسين العرب القدامى ومنهم الفارابي وابن سينا وابن رشد وحازم القرطاجني، ويشير إلى أنه ظهر أيضاً لدى بعض المعاصرين من نقاد العرب الذين تناولوا الشعرية بالدراسة والبحث، ويرى أنهم لم يعرفوها تعريفاً واضحاً، كما لم يفرقوا بينها وبين الشعر، ولكنهم أداروا حولها بحوثاً تتلخص في البحث عن قواعد الشعر العربي وقوانينه التي تتحكم في الإبداع الشعري، كما هو الحال عند رشيد يحياوي وأدونيس وغيرهما، ويبين على سبيل المثال أن أدونيس أشار إلى أن سر الشعرية هو أن تظل دائماً كلاماً ضد الكلام، لكي تقدر أن تسمي العالم وأشياءه أسماء جديدة،

الشعر هو حيث الكلمة تتجاوز نفسها منفلتة من حدود حروفها، وحيث الشيء يأخذ صورة جديدة، ومعنى آخر، وذلك على خلاف كمال أبو ديب الذي يرى أنه لا يمكن وصف الشعرية إلا حيث يمكن أن تتكون وتتبلور، أي في بنية كلية، فالشعرية إذن خصيصة علائقية، أي أنها تجسد في النص شبكة من العلاقات التي تنمو بين مكونات أولية سمتها الأساسية أن كلاً منها يمكن أن يقع في سياق آخر، من دون أن يكون شعرياً، لكنه في السياق الذي تنشأ فيه هذه العلاقات، وذهب بوفلاقة إلى أن مصطلح الشعرية له مفاهيم متعددة، إلا أن السائد منها هو أنه مجموعة من المبادئ الجمالية التي تقود الكاتب في عمله الأدبي، وهو بدوره تطور إلى ما هو أكثر دقة .

ويمكن التحدث عربياً عن تجسيدات وتجليات مفهوم الشعرية في النص الشعري، بعيداً من ربط القصيدة الجديدة بجذورها الأولى، ومنها إشراقات المتصوفة، ونصوص جبران خليل جبران، والمحاولات العديدة المتناثرة لبعض المبدعين في مجال قصيدة النثر، قبل أن يتبلور مفهومها على أيدي جماعة مجلة شعر وإن لم تكن هذه الجماعة ذات رؤى مستنسخة عن بعضها بعضاً، بل يمكن اعتبار رؤيتها العامة نقطة البدء في ما يشبه خط المتصوفة، بخاصة عندما استطاعت أسماء عربية مهمة أن تترجم إرهاصات هذه القصيدة، لتكون رؤى ولبنة أولى على أيدي هؤلاء الرواة وفي طليعتهم أدونيس، وأنسي الحاج، ويوسف الخال، وشوقي أبو شقرا، وعصام محفوظ، وخالدة سعيد، وفؤاد رفقة، ورياض الريس، وتوفيق صايغ، ومحمد الماغوط، وغيرهم ممن ترجموا ما ارتأوه من الخطوط العريضة من مشروع سوزان برنار، كي يؤسسوا لفهم جديد للنص الشعري، وأن يتم في المقابل وبجهود بعض هؤلاء ترسيخ مصطلح قصيدة النثر، كامتداد للمقترح البرناري، بل كحاجة قصوى من ضمن الشعرية العربية نفسها، في غمرة الكتابات النقدية التي أثارتها بين مؤيد ومعارض، منصف ومستكثر، لتشق مسارها، وإن كان هناك من سيرتد عن تسميته للمصطلح، إلا أن هذه القصيدة تستطيع أخيراً أن تحتضن نماذج إبداعية تتميز بشعرية خاصة، تستعصي على الأنموذج الواحد، وتنفتح على إيقاع الحياة الرحبة، ولا يضيرها اقتراح كثيرين لمصطلحات شتى متناقضة، منها ما جاء بدافع الإساءة إليها، ومنها ما جاء نتيجة قناعة أصحابها، ومنها ما جاء للتمويه ووضع حد للحرب الشعواء عليها، إلا أنها تظل محافظة على مصطلحها من دون أن تبرحه البتة، وهو مصطلح يقر بواقعها كقصيدة مختلفة، مادامت جمعت بين رتبة الشعر ومنزلة واقع اعتمادها على بعض أدوات النثر، وإن كانت ستفترق عنه في الكثير من علاماتها الفارقة التي تؤكد شعريتها المختلفة .

ولعل أشدّ غلاة النقاد الذين استكثروا على هذه القصيدة شعريتها، فعلوا ذلك لاعتبارهم أن عدم اعتماد هذه القصيدة على أوزان البحور الخليلية، ما يخلع عنها مفهوم الشعر، وأن هناك ضربين من الكتابة هما: الشعر والنثر، ولا يجوز الخلط بينهما بأي حال .

ويفوت هؤلاء أن مفهوم الوزن في القصيدة قد تطور، وأنه لم يعد ذلك الإيقاع الخارجي الذي من الممكن أن يكون سبباً في استيلاد آلاف القصائد ضمن قالب إيقاعي واحد، لا ابتكار فيه، بل يتم في كل قصيدة تالية استبدال مفردات تناسب الحدث الذي يتناوله الشاعر بتلك المفردات التي عرفها أنموذج واحد، يتم التفريع عليه، وتكاد قصائد معينة كتبت على البحور المعروفة تذكّر بها، وهو ما يكون انتصاراً للوزن على حساب الشعرية .

لقد بات مفهوم الشعرية مختلفاً عما دأب النقد القديم على تحديده، ضمن أطر ضيقة، تكاد لا تخرج عليها، بعدما أكدت قصيدة النثر أن الشعرية أكبر من أن يتم حصرها في أوزان محددة، لأن الوزن من شروط القصيدة العمودية، وليس هو وحده الشعر، كما أنه ليس المقوم الأوحد للشعرية، التي باتت تظهر في غياب الوزن تماماً .

أجل، لقد أكدت الدراسات الجديدة أن هناك شعرية اللوحة التشكيلية، وهناك شعرية السينما، وشعرية المسرح، وشعرية الخط، أو القصة أو الرواية، وغير ذلك، ما أحدث ثورة حقيقية في هذا المفهوم .

وقد تتجلى شعرية النص الجديد في إحدى أدواته، أو مجموعة منها، أبرزها إيقاع المفردة، وما يتوالد نتيجة علاقتها بالجملة الجديدة التي تشكل الصورة الشعرية، وما ينشأ من إيقاعات جراء اندغام الحروف، وتفاعلها في المفردة، التي تنبت عن الاستخدام التقليدي للعبارة، سواء تناولت المهمل، واليومي، أو تجاوزتهما عبر اللغة العالية، كما يكون تكرار المفردة داعياً لإيجاد إيقاعات لا متناهية، يحددها كل نص على حدة .

ثمة عدد كبير من شعراء التفعيلة، استطاعوا التفاعل مع الفضاءات الجديدة التي فتحتها قصيدة النثر، حيث راحوا يقرنون بين الإيقاع الخارجي الذي يعتمد على إحدى التفعيلات، بالإضافة إلى الإيقاع الداخلي الذي اكتشفته قصيدة النثر، وهو ما جعلنا نقف أمام شكل يحقق شرطين إيقاعيين، في آن واحد، وإن كان للمتشددين من شعراء قصيدة النثر رأي آخر، مادام الإيقاع الداخلي في نظرهم كافياً لتعتمده القصيدة الجديدة .

أياً كان رأي هؤلاء الشعراء، إلا أنه أمام كسر الأجناس الإبداعية الحدود بينها، وتبادل الاستفادة في ما بينها من خصائص بعضها بعضاً، يأتي تفاعل أي نص إبداعي مع جماليات وخصائص الآخر، من دون أن يؤدي ذلك إلى محو ملامحه، بل إلى فتح مديات وآفاق جديدة أمامه، ولا سيما حين يحصن ذلك الإيقاع الذي يتفق جميعهم، تقليديين وحداثيين وممن يصنفون أنفسهم ما بعدها، على أهميته في القصيدة، أي كانت .


بقلم : إبراهيم اليوسف

 

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى