برتراند راسل .. أبرز مُفكري العصر الحديث
أصدرت دار Tauris، وهي من كبريات دور النشر البريطانية، الطبعة الثالثة من كتاب “الفلسفة وقضايا الحياة”، وهو عبارة عن حوار مـُسهب أجراه للتلفزيون البريطاني عام ١٩٥٩، الصحفي والمعلق وودرو وايت على مدى أربعة أيام مع الفيلسوف والمفكر البريطاني الشهير برتراند راسل، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام ١٩٥٠، والذي اشتهر خلال القرن العشرين بمواقفه الإنسانية الكبيرة المناهضة للحرب والفقر والظلم، والمساندة بقوة وحزم لقضايا الحرية والعدالة الاجتماعية والتضامن بين الشعوب من أجل مستقبل أفضل للإنسانية برمتها.
ينتمي برتراند راسل المولود في ١٨ أيار ١٨٧٢ إلى عائلة أرستقراطية عريقة. وكان جده هو الذي رفع إلى البرلمان عام ١٨٣٢ العريضة التي تضمنت قانون الإصلاح الهادف إلى تنازل الأرستقراطية البريطانية عن الامتيازات التي كانت تتمتع بها، مجنبة بذلك البلاد المذابح والاضطرابات الدموية التي عرفتها فرنسا خلال ثورة ١٧٨٩عندما رفضت الأرستقراطية الفرنسية التخلي عن امتيازاتها.
كان في الثالثة من عمره عندما تكفلت جدته بتربيته مخصصة له مدرسات خصوصيات في البيت، الأمر الذي ساعده على الحصول على معارف عميقة في مجالات معرفية مختلفة ومتنوعة. وفي هذه الفترة المبكرة من حياته، تعلم اللغتين الفرنسية والألمانية.
- إمتياز في الفلسفة
وبعد أن درس الرياضيات والفلسفة في جامعة كامبريدج من عام ١٨٩٠ إلى عام ١٨٩٥، عمل أستاذا في نفس هذه الجامعة حيث حصل على لقب الامتياز الأعلى في الفلسفة. وفي عام ١٩٠٠ حضر مؤتمر الرياضيات في باريس وانبهر بقدرات عالم الرياضيات الإيطالى بيانو، فدرس نظرياته وأعماله بتمعن وعمق ليكتب عقب ذلك مؤلفه الأول “مبادئ الرياضيات” الذي حصل به على شهرة واسعة.
وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى، انضم إلى حركة أنصار السلام المعادين للحرب الأممي الذي جلب له متاعب كبيرة إذ فصل من الجامعة عام ١٩١٦ ليمضي بعد ذلك بضعة أشهر في السجن.
كما منع من السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية للتدريس في جامعة هارفارد. وفي عام ١٩٢٠، قام بزيارة للإتحاد السوفييتي، والتقى بفلاديمير ايليتش لينين، غير أنه لم ينبهر بالثورة البلشفية كما هو الحال آنذاك بالنسبة إلى عدد كبير من المثقفين الغربيين، بل أدانها بشدة وانتقد جانبها التسلطي ووصف زعيمها بأنه “الرجل القاسي”.
في أواخر العشرينات من القرن الماضي، أسس برتراند راسل مع زوجته دورا “بايكون هيل سكول”، وهو معهد أراد من خلاله تطبيق أفكاره التحررية في مجال تربية الأجيال الناشئة. وقبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليلتقي هناك بالعديد من المفكرين والعلماء الفارين من النازية مثل ألبرت آينشتاين.
وقد خصص برتراند راسل السنوات الأخيرة من حياته للدفاع عن القضايا الكبيرة والخطيرة التي تشغل الإنسانية، فعارض بشدة القنبلة الذرية، وأسس، مع الكاتب والفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر، “محكمة راسل” بهدف التحقيق في جرائم الحرب في فيتنام، والقمع في دول أمريكا اللاتينية.
إن الأسئلة العفوية التي طرحها الصحفي والمعلق التلفزيوني وودرو وايت، والأجوبة الدقيقة والواضحة الخالية من التعقيدات ومن التجريد النظري، تيسر على القارئ، حتى ولو كان محدود الأفق معرفياً وفلسفياً، فهم القضايا الكبيرة في مجال الفلسفة والعلوم والقضايا الفكرية والسياسية الكبيرة التي واجهها العالم خلال القرن العشرين.
فقد حرص برتراند راسل على أن يكون “دقيق الملاحظة، صارم الرأي، لا يداور ولا يمعن في التستر وراء التعقيدات الذهنية المجردة”. بل هو يذهب إلى هدفه مباشرة وبلغة بسيطة وأدوات معرفية لا ترهق القارئ العادي، حتى ولو كان تلميذا في المعاهد الثانوية،
بل تتيح له النفاذ إلى أعماق الأفكار والقضايا المستعصية على الفهم. بالإضافة إلى هذا كله، حرص برتراند راسل أيضا على أن يظل في هذه المحاورات وفياً للأفكار والمبادئ التي قامت عليها حياته الفكرية والفلسفية، فلم يتنكر لها، بل دافع عنها بحماس وجرأة، مدللا بذلك على روح فكرية عالية.
في هذه المحاورات يتناول برتراند راسل قضايا مهمة مثل الفلسفة والدين والشيوعية والرأسمالية والسلطة ومفهوم السعادة ومفهوم القومية ومكانة بريطانيا بعد انقراض “الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس”، ودور الفرد في المجتمع، ومستقبل الإنسانية.
يعتقد برتراند راسل أن للفلسفة غرضين: الأول هو “التمعن العقلاني في المواد التي لا نستطيع إخضاعها دوما إلى المعرفة العلمية” لأن هذه الأخيرة في رأيه لا تقدم سوى أجوبة محدودة عن المواضيع التي تهم الإنسانية، ذلك أن العلم لا يعرف في شأنها إلا الشيء القليل،
أما الغرض الثانى للفلسفة فهو “توسيع مجال الرؤية التخيلية للعالم عن طريق الفرضية”، وأيضا تبيين أن هناك أشياء “كنا نعتقد أننا نعرفها ونحن لا نعرفها”.
-
فهم العالم
ويرى برتراند راسل أن الفلسفة “يمكن أن تخدم العلم في جوانب وفرضيات معينة”، كما أن بإمكانها أن تستقل عنه ذلك أن العلم “ليس باستطاعته معالجة العديد من المسائل التي تشغل بال الإنسانية، والمتصلة بالقيم أساساً”.
ويرفض برتراند راسل الفلاسفة الذين يقبلون أن يكونوا سندا للأنظمة القائمة، وأيضا أولئك الذين يتخذون على عاتقهم قلبها أو تقويضها مثلما هو الحال بالنسبة إلى كارل ماركس لأن الشأن الحقيقي للفيلسوف في نظره ليس “تغيير العالم” بل “فهمه”.
كما يرفض برتراند راسل “الفلسفة اللسانية” التي يعتبر أصحابها أن الأهم ليس أن يجيب الفيلسوف على سؤال ما، بل أن يـُسلط أكثر ما يمكن من الإضاءة على معنى ذلك السؤال. أما عن مستقبل الفلسفة، فيقول أنه لا يمكن أن تكون لها نفس الأهمية التي كانت عليها في زمن الإغريق أو في العصر الوسيط ذلك أن “هيمنة العلوم أصبحت طاغية”.
ومع ذلك فالفلسفة لن تفقد دورها، ولا مكانتها من حيث أنها “تجعلنا يقظين” وتذكرنا دوما بأن “هناك مسائل على غاية من الجدية لا يستطيع العالم مقاربتها مؤقتا على الأقل”.
-
الخوف والارتماء في أحضان الدين
يعترف برتراند راسل بأنه كان شديد التدين في سنوات طفولته ومراهقته، غير أنه تخلى عن إيمانه في ما بعد، وبدأ ينتقد المسيحية بشكل لاذع مؤكداً في جميع أطروحاته الفكرية والفلسفية أن الدين “كان مضرّا عبر التاريخ” وأن نتائجه كانت في أغلبها سلبية ذلك أنه “كرَّس المحافظة والانتصار لتقاليد الماضي”، و”أباح الحقد وعدم التسامح” في كثير من الحقب التاريخية في القارة الأوروبية بصفة خاصة.
ويقول برتراند راسل إن الخوف “هو الذي يدفع بالإنسان إلى الارتماء في أحضان الدين” ذلك أنه يخشى قوى الطبيعة التي “يمكن أن تصعقه أو تبتلعه أو تغمره بزلزال”، وما يمكن أن يفعله به البشر الآخرون، كأن يجروه إلى حرب يقتل فيها، وما ينتج عن انفعالاته وأهوائه التي لا يستطيع كبتها أو لجمها أو الحد من غلوائها.
ولكن هل ستستمر المؤسسة الدينية في إحكام قبضتها على الإنسانية؟ يرى برتراند راسل أن هذا الأمر مرتبط بالحلول التي سيجدها الناس أو لا يجدونها لمشاكلهم الاجتماعية، “فإذا ما تواصلت الحروب والنزاعات الكبرى والمظالم بمختلف أنواعها وأشكالها، وإذا ما ظل القسم الأكبر من البشرية يعيش تحت وطأة الفقر والبؤس، فإن سيطرة المؤسسة الدينية على أغلبية الناس ستظل قائمة”.
- الحرب والحياد
وينتقل برتراند راسل إلى الحديث عن الحرب. ويرى راسل أن الحرب يمكن أن تكون مشروعة إذا ما كان الأمر متعلقا بغزو أجنبي. ويعتقد برتراند راسل أن الحروب التي خاضها في الأزمنة القديمة غزاة كبار مثل الإسكندر المقدوني ويوليوس قيصر كانت “مشروعة”.
فالأول حسب رأيه تمكن بفضل غزواته من “بسط نفوذ الثقافة الهيلينية في منطقة الشرق الأوسط، ونشر اللغة الإغريقية والمحافظة على الموروث الثقافي لليونان”.
أما الثاني فقد غزا بلاد الغال بهدف “إلحاقها بالعالم المتحضر”. وقد نتج عن ذلك ظهور اللغة الفرنسية، وهو أمر مهم بالنسبة إلى برتراند راسل الذي يصر على أن معارضته للحرب العالمية الأولى كانت “صحيحة ومشروعة”.
وفي معرض تفسيره لموقفه هذا يقول برتراند راسل إنه “لو ظلت بريطانيا محايدة لما طالت الحرب، ولما تسببت في خسائر فادحة في الأرواح”، كما أن الوضع في روسيا كان يمكن أن “يتشكل بطريقة أخرى”، كما كان بالإمكان أن ينتصر الاشتراكيون الديمقراطيون فيقطعون الطريق على البلاشفة،
وبذلك “يجنبون روسيا الكوارث التي عرفتها في ما بعد”. أما الحرب العالمية الثانية فقد كانت مبررة بالنسبة إليه ذلك أن هتلر كان “فظيعا”. و”الرؤية النازية بكليتها كان فظيعة للغاية”.
ويرى برتراند راسل أنه “لو تمكن النازيون من فرض نفوذهم على العالم كما كانوا ينوون بصفة واضحة ومؤكدة فإن الحياة في عالمنا ستتحول إلى جحيم”. لذا كان التصدي لمثل هذا الخطر “واجباً”.
- الاستبداد الهادف إلى الخير
وينتقد برتراند راسل الشيوعية بشدة ذلك أن النظام الذي أنتجته “لا يمنح أية حرية” و”لا يسمح بالجدل الحر”، و”لا يسمح بتعاطي أي نشاط علمي دون قيود”. كما أنه “يشجع الدوغمائية واستعمال الإكراه من أجل ترويج آرائه”.
ويرى برتراند راسل أن الخطأ الأساسي في الشيوعية هو “الاعتقاد في الاستبداد الهادف إلى الخير”. ويعترف برتراند راسل بأن خيبة أمله كانت كبيرة بعد الزيارة التي قام بها إلى روسيا إثر انتصار الثورة البلشفية.
وبالرغم من أنه يصف لينين بأنه “شجاع” و”صادق” ويؤكد أنه “ذو عزيمة فولاذية” فإنه يرى أنه كان “متعصباً وغير قادر بالمرة على التفكير خارج دائرة الماركسية”.
ويحتل موضوع التعصب والتسامح مكانة هامة في تفكير برتراند راسل الذي يؤكد أن التعصب “كان دائماً وأبداً هو المهيمن عبر مختلف الحقب التاريخية”، و”المحرك الأساسى لمشاعر الناس والشعوب والطوائف العرقية والدينية”.
حتى أثينا القديمة لم تكن متسامحة بالقدر الكافي رغم أنها كانت “أكثر تسامحاً مما كانت عليه أوروبا في القرن الثامن عشر”. فقد حكم بالإعدام على سقراط. كما أن مفكرين وفلاسفة آخرين اضطروا إلى الهروب من أثينا خوفاً من بطش حكامها.
أما البلد الذي مارس التسامح حقا فهو هولندا خلال القرن السابع عشر، لذا لجأ إليها عدد كبير من المفكرين، ولو لم يفعلوا ذلك لتمت تصفيتهم.
ويتوقف برتراند راسل مطولا عند موضوع الحرب النووية، ويشير إلى أن حدوث حرب نووية “أمر ممكن” إذا ما ظل العالم “يعيش تقلبات وصراعات ونزاعات أيديولوجية وسياسية واقتصادية ودينية وغيرها”.
- مستقبل الإنسانية
وفي نهاية الحوار المسهب الذي أجري معه، يتحدث برتراند راسل عن مستقبل الإنسانية ويقول أن أكبر خطر يتهددها هو أن “تتم عسكرة الشعوب كليا”، الأمر الذي يفتح الباب واسعا أمام الحروب والنزاعات القاتلة والمدمرة.
وإذا ما أردنا مستقبلا أفضل للإنسانية فإنه يتوجب على حكومات العالم العمل على “القضاء على الفقر، وعلى التركيز في مناهج التعليم على فكرة أن الإنسانية عائلة موحدة ذات مصالح مشتركة”، وأن التعاون أهم بكثير من المزاحمة،
وأن حب القريب ليس فقط مجرد واجب أخلاقي من تلك الواجبات التي تلقن داخل الكنائس، بل هو بالأحرى السياسة الأكثر حكمة من وجهة نظر السعادة الخاصة بالفرد”.
ويختم برتراند راسل حديثه الشيق والممتع بتوجيه رسالة إلى الإنسانية ناصحا إياها باستعمال ما وفرته لها الحضارة الحديثة من وسائل من أجل نشر الخير والسلام والمحبة. فإذا ما تم لها ذلك فإن العالم حسب رأيه سيكون “أكثر فرحاً، وأكثر ثراء بسعادة الخيال والوجدان من أي عالم آخر عرفه الإنسان قبل الآن”.
- وبعد؛
لقد برهن برتراند راسل من خلال هذا الحوار المسهب بأنه أحد أهم حكماء القرن العشرين، وأحد أعمق وأبرز المفكرين والفلاسفة الذين عرفهم العصر الحديث، ومن أكثرهم توهجا وفهما وإدراكا لحاضر الإنسانية ولمستقبلها أيضا.