تعود بدايات الحراك القومي العربي إلى أواخر القرن التاسع عشر، وبالرغم من ذلك فإنّ بعض أفكاره لم تنتقل إلى المستويات المتقدمة من التطبيق، إلا في فترات لاحقة مع النصف الثاني من القرن العشرين. فالتيار القومي يتألّف من مستويات عدّة، ما بين منظّرين ومعتنقين.
ويحاول هذا التقرير استعراض ملامح فكر ستة من منظّري القومية العربية، والإجابة على سؤال الاختلاف فيما بينهم.
- ساطع الحُصَري.. اللغة أساس الوحدة
يأتي اسم المفكر والتربوي السوري ساطع الحصري (1879-1968) في مقدمة رواد الفكر القومي العربي. بدأ مشروع الحصري بالتبلور مع عمله وزيراً للمعارف في فترة حكم الملك فيصل في سوريا (1918-1920).
ومن ثم مواصلة عمله التربوي خلال انتقاله إلى العراق مع الملك فيصل، وعمله في وزارة المعارف العراقية، وهناك أشرف الحصري على عملية وضع المناهج التعليمية وعُرف بتوجهه نحو تبني التعليم العلماني.
ظهر اسم دروزة من بين المؤمنين بالعروبة والداعين لتحقيق الوحدة العربية وبرز فكره القومي من خلال كتاباته في التاريخ
خلال فترة الأربعينيات وبداية الخمسينيات، وضع الحصري مؤلفات عدّة في التنظير للقومية العربية، منها: “حول القومية العربية”، و”آراء وأحاديث في القومية العربية”، و”آراء وأحاديث في الوطنية القومية”، و”دفاع عن العروبة”، و”العروبة أولاً”. وكغيره من القوميين، تأثر الحصري بفلسفة المثاليين الألمان، وفي مقدمتهم الفيلسوفان: فيختة ونيتشة.
يعتمد الحصري عند تحديده لمفهوم الأُمّة العربية، على ما يُطلق عليه في أدبيات الفكر القومي بـ”المُقوّمات”، والتي يأتي في مقدمتها عوامل: اللغة، والدين، والتاريخ، والجغرافيا.
ومن بين هذه المقومات أعطى ساطع الحصري الأهمية الكبرى لعامل اللغة، فاعتبره أساس العروبة والوحدة العربية المنشودة؛ منطلقاً من اعتبار اللغة تحمل داخلها تصورات ومشاعر وعادات وقيماً جماعية. وهو يعوّل على دور التربية والتعليم والمؤسسات التعليمية في سبيل تكوين ثقافة عربية معاصرة موحّدة، تعزز من وحدة الأمّة وتكون مقدمة للوحدة السياسية.
- محمد عزّة دروزة.. فكر قومي على تخوم المواجهة
وفي فلسطين، ظهر اسم المفكّر والمؤرخ محمد عزّة دروزة (1887-1984) من بين المؤمنين بالعروبة والداعين لتحقيق الوحدة العربية.
وبرز فكر دروزة القومي بشكل أساسي من خلال كتاباته في التاريخ، عبر كُتُب عدّة له كـ: “تاريخ الجنس العربي”، و”العرب والعروبة في حقبة التغلب التركي”. إلى أن تبلورت آراؤه مع كتاب “الوحدة العربية” الصادر عام 1946.
وفي هذه المؤلفات، يعتبر دروزة بأنّ “الجنس العربي” كان يسعى للوحدة السياسية منذ أقدم أزمنة التاريخ، واليوم يتعيّن إكمال هذه المسيرة عبر تحقيق الوحدة السياسية بين مختلف أقطار الأمّة.
وما يلفت في كتابات دروزة هو إيمانه بمفاهيم العرق والجنس العربي، وبالتالي، وخلافاً للمنظرين الذين أعطوا الأولوية للثقافة واللغة، فإنّ نظرة دروزة كانت نظرة أكثر “جوهرانية” تقوم على الاعتقاد بوجود جوهر مستقل للأمة العربية،
وعلى أساس عرقي. ويشير الباحث هاني عواد في كتابه “تحولات مفهوم القومية العربية” (2013) إلى أنّ هذه النظرة قد تكون نتيجة لتأثير حضور المشروع الصهيوني في فلسطين؛ أي إنّه “سعى لتأسيس جوهرانية عربية مضادة للجوهرانية اليهودية”.
- قسطنطين زريق.. كيف تحوّل إلى داعية للتحديث والعقلانية؟
كان المؤرخ السوري قسطنطين زريق (1909-2000) من أبرز الأسماء في فضاء الفكر القومي العربي. وتميّز زريق بما كان لفكره من أثر على المستوى السياسي؛ ففي أواخر العشرينيات أسهم بتنظيم “جماعة القوميين العرب“، والتي خرجت منها لاحقاً تنظيمات قومية، مثل “حزب فلسطين العربي“، و”عصبة العمل القومي”، وانتهاء بتأسيس “حركة القوميين العرب” عام 1948.
وخلال هذه الفترة كتب زريق عدداً من أهم كتبه في التنظير للقومية، من “الكتاب الأحمر” الصادر عام 1933، والذي اعتبر بمثابة “الميثاق” للقومية العربية، إلى كتاب “الوعي القومي” الصادر عام 1939.
وتميّز الفكر القومي لدى زريق في النصف الأول من القرن العشرين، باتجاهه نحو إيلاء أهمية كبيرة لعناصر التاريخ والدين واللغة. وهو ما جعله ضمن مصافّ المؤمنين بوجود “جوهرانيّة” عربية تميّز أمّة العرب عن سائر الأمم، وتتحدد عبر عوامل العرق واللغة والثقافة والتاريخ المشترك.
جاءت أبرز التحوّلات الفكرية لدى زريق مع تراجع فكرة القومية الجوهرانية والتحوّل نحو فكرة التحديث والدعوة للعقلانية
وبعد نهاية حكم الانتداب الفرنسي واستقلال سوريا عام 1946، أصبح زريق ضمن فريق السلك الدبلوماسي السوري في واشنطن، كما عمل عضواً مناوباً في مجلس الأمن.
وقد ساهمت تجربة زريق ومعايشته للتحولات من حقبة الاستعمار إلى مرحلة ما بعد الاستقلال، وصولاً إلى معايشة الانقلابات والهزيمة، بالإضافة إلى انخراطه بالعمل في السلك الدبلوماسي، في إحداث تحولّات هامّة على الصعيد الأفكار لديه.
جاءت أبرز التحوّلات الفكرية لدى زريق مع تراجع فكرة القومية الجوهرانية والتحوّل نحو فكرة التحديث والدعوة للعقلانية. ويظهر هذا التحوّل بشكل بارز منذ صدور كتابه “في معنى النكبة مجدداً” في أعقاب هزيمة حزيران عام 1967.
كان التحوّل الأبرز في فكر زريق هو في اعتبار بأن أساس النهوض هو في التحديث والذي يكفل تحقيق النهضة القومية؛ فالتطوّر في وسائل الإنتاج ينتج عنه تطور في الحياة الاجتماعية والفكرية والروحية، واعتناق التقنية والأنظمة الحديثة هو ما يسهم في تفكيك التشكيلات الطائفية ما قبل الحداثية. وبذلك، بات اسمه يأتي في مقدمة التيار الداعي للعقلانية في الفكر العربي المعاصر.
-
ميشيل عفلق.. ماذا قصد باسم البعث؟
ويبرز اسم ميشيل عفلق كمثال على الكاتب الذي كتب كتباً فكرية، ثم انخرط على الأرض بالعمل السياسي، وساهم في تأسيس أحزاب على قاعدة ما تبنّاه من أفكار.
بدأ مشوار عفلق مطلع الثلاثينيات، عندما غادر دمشق متجهاً إلى باريس لمواصلة دراسته الجامعية، وهناك تأثر بدايةً بالتيار الشيوعي الفرنسي، قبل أن يزداد تأثره بالحركات القومية، وبالتحديد بحركة “الانبعاث الإيطالي” وأهدافها (حرية، وحدة، استقلال)، وليصبح مدار فكره وكتاباته لاحقاً حول هذه الأهداف.
يعتبر كتاب في سبيل البعث المطبوع عام 1977 والذي تضمن معظم مقالاته خلاصة النتاج الفكري لميشيل عفلق
ويعتبر كتاب “في سبيل البعث”، المطبوع عام 1977، والذي تضمن معظم مقالاته، خلاصة النتاج الفكري لعفلق. ويمكن اعتبار عفلق أقرب إلى مذهب “المقوّمات”؛ فهو يولي أهمية كبيرة للتاريخ والدين واللغة.
وفي قراءته التاريخية، يقيم عفلق تناظراً ما بين البعث العربي في عهد النبوة وبداية ظهور دعوة الإسلام، وما بين البعث والنهوض العربي في الفترة المعاصرة.
والقومية العربية عنده أقرب إلى أن تكون بمثابة “الدين الجديد” للعرب؛ فهي وارثة الدين بمفهومه الثوري الذي حرّك المسلمين في فترة الإسلام المبكّر.
وفي عام 1941، شارك عفلق بتشكيل تنظيم سياسي قومي باسم “الإحياء العربي”، وجاء في طليعة بياناته إعلان تأييد ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق ضد الإنجليز في ذلك العام. وفي عام 1947، كان عفلق من القائمين على عقد المؤتمر التأسيسي لحزب البعث العربي،
وجرى انتخابه عميداً للحزب. وفي عام 1952 اندمج الحزب مع الحزب الاشتراكي بقيادة أكرم الحوراني ليصبح باسم “حزب البعث العربي الاشتراكي”.
وعقب تحوّل القيادة البعثيّة من المدنيّة إلى العسكرية إثر انقلاب عام 1966 طُرد عفلق من سوريا، ليتقرب بعد ذلك من الفرع العراقي لحزب البعث خلال فترة السبعينيات والثمانينيات، وأصبح مقرباً بشكل شخصي من الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.
- نديم البيطار.. لماذا آمن بفكرة الانقلاب؟
يبرز اسم المفكر اللبناني نديم البيطار (1924-2014) كأحد أبرز الأسماء في فضاء الفكر القومي، حتى أنّ الكتاب المصري عصمت سيف الدولة وصفه بأنّه “نبي الوحدة”.
ويعتبر البيطار من أبرز الأسماء ضمن الجيل الثاني من المفكرين القوميين، وقد سجل هذا الجيل تحوّلات واختلافات عدّة عمّا كان عليه الخطاب القومي في مرحلة الجيل الأول؛ فانتقل من التركيز على الحديث عن الأمّة ومفهومها ومقوماتها، إلى البحث في طبيعة الدولة وتحليل آليات السلطة.
كتب البيطار عدداً من المؤلفات أهمها كتابه من الوحدة إلى التجزئة والذي يقدم فيه تأصيلاً فكرياً لعملية بناء الأمة
ويرى الباحث هاني عوّاد -في كتابه آنف الذكر- أنه في هذا الجيل جرى “الانتقال من صفّ المجموع إلى صفّ السلطة، على أساس أن الأخيرة هي التي تصنع المجموع”. ومن هذا المنظور، لم يعد ينظر للديمقراطية باعتبارها الأداة الأصلح لتحقيق عملية بناء الأمة.
وفي كتابه “الأيديولوجيا الانقلابية” (1964)، يتبنى البيطار مفهوم الأيديولوجيا الانقلابية، فلا يجد ضيراً في الانقلاب على الأنظمة الحاكمة، مع ضرورة أن تحمل السلطة الجديدة أيديولوجيا توحيدية تعمل على تحقيق هدف بناء الأمة.
كتب البيطار عدداً من المؤلفات، أهمها كتابه “من الوحدة إلى التجزئة” الصادر عام 1986. والذي يقدم فيه تأصيلاً فكرياً لعملية بناء الأمة، عبر استقراء للتجارب الوحدوية عبر التاريخ.
ويستخلص البيطار من هذه التجارب قوانين أساسية، يقطع من خلالها مع الأطروحات القومية السابقة التي ترى أنّ هناك خصائص للأمّة، من لغة وتاريخ ودين، وأنّه على أساس الخصائص ينبغي تأسيس الكيان السياسي الموحّد.
فخلافاً لهذا الافتراض يؤكد البيطار بأنّ الأمة والهوية ليست السبب في قيام الدولة بل نتيجتها؛ فاللغات أو الأديان لا تصنع الدولة القومية بل إنّ الدولة القومية هي التي تصنع هذه اللغات.
ورأى البيطار أنه لا يكفي أن تتشارك جماعتان في لغة واحدة لنشوء دولة واحدة تجمعهما، بل ما يجب توفّره هو قيام سلطة مركزية قوية، وهنا يشير إلى دور العنف الذي مارسته العائلات المالكة في فرنسا وإيطاليا وروسيا واسبانيا وهولندا والبرتغال وإنجلترا والصين وغيرها،
عندما عزمت على تأسيس دول مركزيّة موحدة، وهو ما تبعه لاحقاً تشكيل القوميّة -بعناصرها المختلفة- داخل حدود الدولة، بما في ذلك من توحيد للّغة والديانة.
- ياسين الحافظ.. هل يمكن للماركسية والقومية أن تلتقيا؟
انتسب المفكر السوري ياسين الحافظ (1930-1978) لحزب البعث منذ عمر مبكر، وبعد وصول الحزب إلى السلطة في آذار (مارس) 1963، كُلّف بكتابة نصّ “المنطلقات النظرية لحزب البعث”.
ولكن الحافظ في ذلك الوقت وبتأثير من رفيقه الشيوعي إلياس مرقص كان يتجه للاقتراب من الماركسية، وبدأ بقيادة اتجاه ماركسي داخل الحزب وهو ما استدعى ظهور ردة فعل مناوئة له من قبل بعض القيادات.
يؤكد البيطار بأنّ الأمة والهوية ليست السبب في قيام الدولة بل نتيجتها؛ فاللغات أو الأديان لا تصنع الدولة القومية
وفي عام 1965 غادر الحافظ الحزب وقام بتأسيس حزب العمال الثوري العربي، الذي قام على فكرة الجمع بين الماركسية والعروبة.
خلال عمره القصير نسبياً، نشر الحافظ مؤلفات عدّة، تمحورت حول قضايا التحرر والثورة والوحدة العربية، من كتاب “حلول قضايا الثورة العربية” (1965)، إلى “الآفاق الاستراتيجية للثورة العربية” (1969)، إلى “اللاعقلانية في السياسة العربية” (1975)، و”التجربة التاريخية الفيتنامية” عام (1976).
حدد فيها الأسس المبدئية لـ “الثورة العربية”، وأكدّ على أهمية تقوية روابطها مع حركات التحرر الوطني في العالم ومع الدول الاشتراكية، وكانت مساهمته الأهم في تلقيح الفكر القومي بالمفاهيم الثوريّة الماركسية.
وفي المرحلة الأخيرة من عمره، تأثر الحافظ بالأحداث السياسية الجارية آنذاك في الوطن العربي، وفي مقدمتها الحرب الأهلية اللبنانية، كما تأثر بكتب المفكر المغربي عبدالله العروي الصادرة مطلع السبعينيات، وبالتحديد “الأيديولوجيا العربية المعاصرة” و”العرب والفكر التاريخي”،
ودفعه كل ذلك إلى إجراء مراجعات ونقد عدد من أفكاره، وهو ما ظهر في كتابيه الأخيرين “الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة”، و”في المسألة القومية الديمقراطية”، وقدّم فيهما نقداً النظم القومية الحاكمة، معتبراً أنّ “البرجوازية الصغيرة” التي قادت الانقلابات والثورات لا بد أن تنقلب في النهاية إلى موقع استبدادي.
واليوم يزداد طرح التساؤلات وتزداد الحاجة إلى إجراء العديد من المراجعات في مختلف التيارات الفكرية العربية الحديثة، وفي مقدمتها التيار القومي، والذي خاض خلال العقود الماضية تجارب عدّة، أحدثت فيه ما يحدثه دائماً اتصال الواقع، بكل ما فيه من ظروف وتعقيدات، بعالم الفكر بكل ما فيه من نقاء وتجريد ومثُل.
إعداد: خالد بشير: كاتب أردني.