انقلاب أم ثورة: انقلاب 1952 في مصر
قبل الحديث عن الانقلاب العسكري في مصر عام 1952، لا بدّ من استعراض الوضع الدولي والإقليمي والعربي في ذلك الزمان، لتتكون صورة واضحة حول ما جرى.
- الوضع الدولي:
حدث تغير في الوضع الدولي، مع آخر قذيفة في الحرب العالمية الثانية التي جرت بين عامي 1939 و1945، حيث هُزمت ألمانيا الدولة النازية، وتقاسمتها الدول المنتصرة في مؤتمر في مالطا، وغابت إيطاليا، واستسلمت اليابان بلا شروط بعد القنبلتين الذريتين اللتين ألقتهما الولايات المتحدة عليها.
مع أن الحرب كانت تضع أوزارها، بينما صعدت الولايات المتحدة كقوة عظمى، عسكريًا واقتصاديًا، ولا سيما أنها دخلت الحرب خارج حدودها الجغرافية، وكذلك الاتحاد السوفيتي أيضًا غدا قوة عظمى عسكريًا، وقد احتلّ دول أوروبا الشرقية.
بعد انتصاره على ألمانيا، وغطى هذا الانتصارُ بنية الدولة الروسية التي ترزح تحت مأساة حكم ستالين المستبد، وفي المقابل، لم تعد بريطانيا الدولة التي لا تغيب عنها الشمس، وكذلك فرنسا، وجُزئت ألمانيا إلى شرقية وغربية.
- الوضع الإقليمي والعربي:
شهدت الدولة العثمانية، بعد هزيمتها في عام 1924، ثورة كمال أتاتورك، فأخذت تبني نفسها كدولة علمانية، وتبنّت الحروف اللاتينية عوضًا من الحروف العربية، واختزل المفكرون العرب أتاتورك فقط بتبنّيه العلمانية.
تحررت معظم المناطق العربية التي كانت تُهيمن عليها الدولة العثمانية، وبعد دعوة الإصلاح واللامركزية، طُرح موضوع الاستقلال، لكنها وُضِعت تحت الانتداب والاحتلال الإنكليزي والفرنسي.
شهدت دول منطقة شرق المتوسط وشمال إفريقيا ثورات للتخلص من الاستعمار والانتداب، لكن مصر التي هي الأكبر، مساحة وسكانًا، اعتُبرت بالعموم الدولة المركز، ولا سيما بعد انقلاب 1952 ومغادرة الملك فاروق لمصر.
ما جرى في مصر عام 1952 انقلابٌ عسكريٌ، قام به حصرًا الضباط الأحرار، ولا يتغيّر الأمر، إذا سُمّي ثورة. كان عماد الانقلاب ضباطًا أحرارًا، لكنهم بدؤوا العمل منذ اليوم الأول لإخراج الإنكليز من مصر ونيل الاستقلال، وكانت البداية بوجود الرئيس محمد نجيب، وأساءت قصته إلى وجه الانقلاب والثورة، وإلى جمال عبد الناصر الذي ظهر كقائد للانقلاب وللثورة وللتغيير.
أخرجت الثورة المحتلَّ الإنكليزي من مصر، وأوقفت دور سفارتها بحكمها وحكامها، وأمّم عبد الناصر -بجرأة وشجاعة- قناة السويس، وفجّرت حرب 65 الثلاثية: بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، التي احتلت سيناء حتى القناة.
لا شك في أن ما حدث في مصر، بعد حركة الانقلاب التي قام بها الضباط الأحرار، هو أبعد من قضية حكم وسلطة، بل هناك مشروع وطني وقومي ودولي، بالدعوة والفاعلية بالحياد “دول عدم الانحياز”، ودعمت مصرُ الفلسطينيين وحركة جبهة التحرير الجزائرية وانقلاب اليمن، بلا حدود.
منذ عام 1952 حتى عام 1970، تاريخ وفاة جمال عبد الناصر، برز الرجل في مشاريع وطنية عدة، فمن تأميم قناة السويس، إلى بناء السد العالي، ومحاولة وضع مصر على سكة التقدم، ثم محاولة النهضة الثانية، بعد محاولة محمد علي باشا الأولى، لكن الأحلام العريضة تصطدم دائمًا بنكسات وهزائم.
انقلاب 1952 لم يكن ثورة، لأنه أدار ظهره لنخب مصر ولأحزابها، وأعاق -أمنيًا- تشكيل أحزاب هي ابنة الثورة، حتى إن شروط ناصر للوحدة الاندماجية بين مصر وبين سورية تمثلت بحل الأحزاب وإلغاء الصحافة، أي جعل الشعب السوري بلا أحزاب وبلا تنظيم وبلا وعي، وهذا سهّل انقلاب 1961 الانفصالي بحفنة من الهجانة.
خطأ عبد الناصر وتقصيره يكمن في أنه لم يقرأ جيدًا احتلال إسرائيل لسيناء عام 1956، حيث أتت هزيمة مصر والأمة العربية عام 1967 باحتلال إسرائيل لسيناء والجولان والضفة الغربية وغزة، وبقيت المؤسسة العسكرية خارج النقد والمحاسبة.
فكانت مفاجأة لعبد الناصر، ثم احتلت إيلات على خليج العقبة التي شكلت معبرًا لإسرائيل إلى أفريقيا وآسيا، فقدّم جمال عبد الناصر استقالته. المفاجأة الأخرى له كانت ثورة عمال حلوان والطلاب عام 1968، ردًا على هزيمة حزيران، وهم أبناء الثورة ورجالها، بل هم ناصريون أيضًا.
كيف يثور الشعب الذي تخمّر بالثورة، ولم يعد يقبل بتسمية الشعب بـ “الجماهير”، كيف يثور بوجه عبد الناصر ونظامه؟ إنه التناقض والصراع الطبيعي الذي لجمته بنية الدولة الناصرية الاستبدادية الأمنية، كأي نظام عربي، صراع العمال والطلاب الذي تربوا على خطبه.
فالناصرية لم تبنِ دولة مؤسسات، ولم تُنجز مشروعًا قوميًا، ولم تحاول أن تتبنى مشروعًا نهضويًا، ولم تبن ما يحمي ويضمن الحريات العامة واحترام المواطن الفرد، ليتابع الطريقَ من يأتي بعده، ويمحو ما قام به من إيجابيات، وأبقى على كل ما انتقده من تجربته، والسيسي شاهد.
كنا في ذلك الوقت، في حمص، طلابًا في ثانوية عبد الحميد الزهراوي، رفضنا انقلاب الانفصال، وقدنا التظاهرات في ساحة الشهداء، وأنا واحد منهم، من أجل عودة الوحدة والأسمر عبد الناصر، ورفعنا علم الوحدة في مواجهة الشيوعيين والإخوان المسلمين والشرطة العسكرية.
واستمرت التظاهرات بتأييد من عمال الشركات، فأغلقت الثانوية بالشمع الأحمر حتى بعد خطاب جمال ومطالبته باستسلام قواته التي أرسلها إلى اللاذقية، وبحث عني والدي بعد غيابي عن البيت 15 يومًا، للمشاركة في التحضير للتظاهرات، وقال لي حين وجدني: “عبد الناصر سلّم، وقبل بالانفصال، وأنت ما زلت مصرًا على عودة الوحدة”.
كان على عبد الناصر أن يُدرك أن لا نهضة في غياب الأحزاب وحرية التعبير والإعلام وتداول السلطة والمسؤولية، وأن هناك فرقًا شاسعًا بين دولة لديها حاكم وعسكر، وبين حاكم عنده دولة وعسكر، وأن احتلال سيناء عام 1956 مهّد الطريق لاحتلالها عام 1967.
فصدّام العراق المستبد هو الآخر مهّد الطريق لاحتلال العراق من قبل الولايات المحتلة ومن إيران، وأن الاستبداد يُهمّش القوى الكامنة وغير الكامنة في المجتمع، ويمنع أي دور للشعب في بناء وحماية الوطن، وهو الأهم والأساس، وأن الدولة التي شيدتها الثورة المصرية بعد عام 1952 لم تُحصّن مصر، ولم تمنع المجتمع من التراجعات على الصعد كافةً في ظل حكم العسكر.