النساء السوريات والدور السياسي… طريق الألف ميل
تطرح مشكلة تمكين المرأة السورية ومنحها دورًا سياسيًا نفسها بقوة على الحل السياسي، وتحتل حيّزًا مهمًا من نقاشات التيارات السياسية والثقافية السورية المعارضة، كما تأخذ نصيبًا كبيرًا من كل الاجتماعات الدولية التي تبحث الشأن السوري حاضرًا مستقبلًا، وتعتمد عليها الكثير من مؤسسات المجتمع المدني الناشئة لتبرير أسباب تأسيسها ووجودها، وبقدر ما تلاقي هذه القضية أنصارًا يعملون لتمكين المرأة ومنحها ما تستحقه من حقوق وخاصة السياسية منها، تواجه في نفس الوقت قوى سياسية واجتماعية وثقافية ودينية تُحاربها وتنتقص من قيمتها وتُحارب لإجهاض أي مكسب يمكن أن تحصل عليه المرأة السورية.
صحيح أن مشكلة المرأة السورية مشابهة لمشكلة النساء في العديد من الدول العربية، في مواجهة مجتمع متخلف اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، وتُعاني كمثيلاتها من الاضطهاد من قبل المؤسسات السياسية والمجتمعية والدينية، وقصور قوانين الأحوال الشخصية، كقوانين الطلاق وتعدد الزوجات والإرث والولاية والوصاية والجنسية وغيرها، وحرمانها أو الانتقاص من دورها السياسي، وأنينها تحت تعليمات وآراء فقهية دينية تراكمت خلال التاريخ، وابتعد بعضها عن جوهر الإسلام، ورزحوها تحت إرث تقاليد وعادات أكل عليها الزمن وشرب، إلا أنها في سورية تواجه ضغطًا إضافيًا، ناتج عن الحرب المستمرة منذ تسع سنوات ونيّف، وناتج عن وجودها في بلد يُسيطر عليه حكم شمولي منذ نحو خمسة عقود، ماهر في المتاجرة بقضيتها والمزاودة عليها.
- تحفّظات تُفرغ الدستور:
كان النظام السوري الذي ادّعى عبر عقود أنه نصير للمرأة ومؤيد للجندرة والعدالة والمساواة، يعمل في الحقيقة طوال الوقت عكس ذلك، فمثلًا؛ ومن أبرز الأمثلة على ذلك أنه وقّع على اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، لكنّه تحفّظ على بنود هامة للغاية فيها، بنود تمنح المرأة بعض المساواة والحرية والقدرة لتكون عنصرًا فاعلًا مستقلًا قويًا في المجتمع.
تحفّظ النظام السوري على عدة مواد في الاتفاقية الدولية التي تعتبر ركيزة تستند إليها نساء العالم، إذا تحفّظ على المادة 9 البند 2، التي تقول بضرورة أن “تمنح الدول الأطراف المرأة حقًا مساويًا لحق الرجل فيما يتعلق بجنسية أطفالهما”، وتحفّظ على المادة 15 البند 4، والتي تؤكد أهمية “منح الدول الأطراف الرجل والمرأة نفس الحقوق فيما يتعلق بالتشريع المتصل بحركة الأشخاص وحرية اختيار محل سكناهم وإقامتهم”، وعلى المادة 16 التي تمنح “نفس الحقوق والمسؤوليات أثناء الزواج وعند فسخه”، و”نفس الحقوق والمسؤوليات بوصفهما أبوين في الأمور المتعلقة بأطفالهما”، و”نفس الحقوق والمسؤوليات فيما يتعلق بالولاية والقوامة والوصاية على الأطفال وتبنيهم”، و”الحق في اختيار المهنة ونوع العمل”، وفي حقيقة الأمر، تُفرغ هذه التحفظات الاتفاقية من هدفها الأساسي في المساواة الكاملة مع الرجل، بل وتُبقيها تابعة مُستكينة له، ، كما يُفرغ في الحقيقة أي محتوى جندري في الدستور وأي محتوى مساواة بين الجنسين.
ورد في الدستور السوري الذي أصدره الأسد الابن عام 2012 مادتان متعلقتان بالمرأة، الأولى “المادة 23: توفر الدولة للمرأة جميع الفرص التي تتيح لها المساهمة الفعالة والكاملة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتعمل على إزالة القيود التي تمنع تطورها ومشاركتها في بناء المجتمع”، و”المادة 33 – 3: المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة”، لكنّ تحفظات النظام على اتفاقية (سيداو) فرّغ مادتي الدستور هاتين من مضمونهما وجعلهما عبارة عن حبر على ورق، وغير قابلتين للتطبيق بحكم الدستور السوري ذاته، فكيف مثلًا يمكن أن يتم انتخاب رئيسة للبلاد لكن لن يكون لها الحق في اختيار مكان سكنها إلا بموافقة زوجها، ولا يُسمح لها أن تمنح جنسيتها لأبنائها؟
- الثورة تُعيد الأمل:
أتت الثورة السورية لتدفع قضية المرأة وأهمية منها كامل حقوقها من جديد إلى الواجهة، وسلّطت هذه الثورة الضوء على قدرات النساء السوريات خلال تسعة أعوام، من خلال ما قمن به من جهود جبارة، وأظهرن مستوى رفيع من التضحيات، بدءًا من تقديم الابن والزوج والأخ والأب قرابين لثورة الحرية، وتحمل مسؤوليات البيت وإعالة الأسرة بعد فقد المعيل، ومرورًا طويلًا ومفصلًا بما عانين -وما تزلن- من مصاعب ومآسي في المخيمات وبلدان اللجوء، وصولًا إلى إثبات الكثير منهنّ قدراتهن على النجاح والتميّز حتى في الحقل السياسي العام والمحافل الدولية.
جاءت تجربة النساء السوريات وعملهن الرائد والمميز على مستوى المجتمع المدني، ونجاحهن في إدارة مؤسسات وهيئات إغاثية وإعلامية وثقافية وإنسانية، وتحقيقهن منجزات يفخر السوريون بها، دليلًا على أن المرأة السورية، ورغم الاضطهاد المجتمعي والسياسي قادرة على أن تكون بنفس قدرة وقوة وثبات الرجل.
لكن مع الأسف، على الصعيد السياسي، مازالت المرأة السورية غير قادرة على اختراق الفيتويات، وغير قادرة على إقناع المعارضة السورية -التي تدّعي أنها تُطالب بمجتمع المساواة والمواطنة- على أنها ضرورة للحياة السياسية لسورية الحاضر والمستقبل، ولا تزال تُفرض مشاركة المرأة في الحياة السياسية فرضًا على المعارضة السياسية من خلال “الكوتا” على المقاعد السياسية البارزة في مؤسسات المعارضة، ومن خلال محددات أممية مُلزمة لا اختيارية، تضطر المعارضة السورية على التماشي معها، ولم تأخذ المرأة السورية الدور اللازم والكافي في المناصب السياسية في مؤسسات المعارضة التي أغفلت وجودها أحيانًا، وقدمت المناصب للرجل بكثير من التحامل على أداء المرأة، ولم تُقدّم الدعم الكافي، ومارست التهميش، وحصر الكثير منها دور المرأة في ضرورة الوجود الجمالي في بعض المؤسسات السياسية.
في الداخل السوري الخارج عن سيطرة النظام، يبدو الوضع أسوأ، وعلى عكس المأمول، فالمرأة لم تحظ بفرصة للمشاركة السياسية من أي مستوى في الكثير من تلك المناطق، وتعرضت لمحاربة ورفض كامل لمنح أي حقوق، من المجتمع والأسرة والرجل والهيئات السياسية والعسكرية الحاكمة في تلك المناطق، فاضطرت الغالبية للاستسلام لمجتمع محافظ ورث عادات وتقاليد المجتمع دون تفكير كافٍ ومناقشة منطقية لهذه العادات التي تقيد المرأة وتستنكر عليها أبسط الممارسات السياسية والقيادية، ومع هذا، لم يخل الأمر من تمرّد إيجابي لافت، إذ فرضت الكثير من النساء السوريات البطلات أنفسهن وأثبتن نجاحهن حتى على الرجل.
هناك مصيبة أخرى تتعرض لها النساء السوريات، خاصة الساعيات لدور سياسي، وهو رفض الكثير من النساء أنفسهن لأي دور سياسي للأخريات، ووقوف تيار نسائي ضد المرأة ذاتها، وقليلة هي حالات التعاون والتضافر بين النساء لدعم بعضهن، وهذا لا يمكن إنكاره في الواقع المُعاش، ومع هذا، لم تستسلم الرياديات، المؤمنات بضرورة مشاركة المرأة السورية في كل مناحي الحياة، وفي الحقل السياسي على وجه الخصوص.
- النسبة الجندرية ليست الحل لتفعيل دور المرأة السورية
لابد للمرأة السورية أن تكون قوية وتسعى لنيل حقوقها، بعملها وجهدها، ولا تنتظر أن يحقق لها الرجل ذلك، أو أن يحقق لها قرار أو مرسوم أو دستور نظري، فالنسبة العددية للتمثيل لا يمكن أن تحقق وحدها للنساء حقوقهن ولا تحفظ لهن كرامتهن وإنسانيتهن، فالنظام السوري مثلًا عيّن قاضيات ووزيرات ومديرات مؤسسات كبرى، لكن كما أشرنا سابقًا، ليس لديهن القدرة على التحرك دون إذن وليّهن ولسن قادرات على تقرير مصير أبنائهن بحال تعارض رأيهن مع رأي زوجهن. كا أن رأس النظام السوري عيّن نائبة له ومستشارة سياسية وأخرى إعلامية، وعيّن رئيسة لمجلس النواب، ووزيرات وضابطات ومخبرات ومقاتلات، لكن بقيت حقوق المرأة عنده مهدورة حتى النخاع، واستسهل قتل المرأة السورية وشرّدها واستباحها وخرّب حاضرها ومستقبلها في حربه المسعورة.
من البديهي القول أنه لا يكفي أن تحصل المرأة على نسبة تمثيل جندرية، كعدد يتم التباهي به دون أن يكون له انعكاسات قوية حقيقية وازنة على أرض الواقع، فالحصول على حقوق المرأة أهم بكثير من نسبة تمثيلها في برلمان أو حزب أو مصنع، وهذه الحقوق لا يمكن أن يضمنها قرار أممي إلزامي، أو دستور نظري مُفرّغ من قوّته، بل هو حصيلة لنضال مشترك يشارك به نخب وسياسيو ومثقفو الجنسين.
هو الأفكار التي تُعرّف الأدوار ونظم الاعتقاد والمواقف والقيم، وهو مبني على أساس المُثل الثقافية في المجتمع، وهو أيضًا ليس تمييزًا للجنس بل تطويرًا للعقلية، وتحتاج المرأة السورية للدعم من الرجل في موقع صنع القرار، كما تحتاج إلى الكثير من التأهيل والتدريب ورفع مستوى الوعي على مستوى المجتمع والأفراد، كما تحتاج إلى بنية فكرية جدية كاملة للمجتمع، تطرد الأفكار البدائية المُجحفة التمييزية والجائرة والمتخلفة، قبل أن تحتاج لنسبة مئوية مُفرغة من مضمونها.
وفي هذا السياق، يمكن أن نُذكّر أن كثير من النساء “الداعشيات” أو “المتزمتات” منغلقات أكثر من الرجل، ويرفضن منح المرأة أي حقوق، ويُفضّلن أن يتم التعامل معهن من قبل المجتمع كتابعات وجاريات ناقصات عقل ودين، وهؤلاء إن وُضعن ضمن نسبة الجندرة، فإن القضية تُصبح واضحة، أن النسب المئوية وحدها لن تكفي ولن تضمن حصول النساء ولو على جزء من حقوقهن.
- المشاركة السياسية – طريق الألف ميل:
مازال حضور المرأة السورية في الحقل السياسي وفي دوائر صنع القرار متدنيًا، ومازالت القوانين السورية تمييزية جدًا، كقوانين الأحوال الشخصية والعقوبات والجنسية، ومازالت ترزح تحت نير التبعية للرجل والعنف المنزلي والجسدي والجنسي والمعنوي والمادي، والنظرة الدونية التمييزية، وقسوة الأعراف والتقاليد، وضرب الزوج أو الأب أو الأخ، والعنف المتصل بالمهر، وجرائم القتل من أجل الشرف، والتحرش الجنسي، والحرمان من الميراث وغيرها الكثير.
مازالت المشاركة السياسية للمرأة السورية تأخذ طابع الاختزال، بسبب الاعتماد على معايير الأرقام والإحصائيات والنسب الجندرية الجامدة، بمعزل عن تحليل تموضع المرأة داخل المنظومة السياسية برمتها، وتحليل الموازين والقدرات والفرص الممنوحة والصلاحيات المتاحة، صحيح أن حصول المرأة على نسبة معينة من المناصب والأدوار القيادية وسيلة إجرائية ضرورية ولكنها غير كافية أبدا لتصبح المرأة فاعلًا سياسيًا يصنع الحدث ويشارك في تحديد مساره.
مازلت تنتشر في الحياة السياسية السورية الاستقطابات السياسية، ويكثر التطرف الإيديولوجي والقيمي، وتتفاقم الصراعات العبثية حول المستقبل والسلطة، فتُستبعد المرأة، بل وتُحارب أحيانًا، ويأخذ طابع مشاركتها النسبية في المؤتمرات والمنظمات والمفاوضات أمرًا شكليًا لا أثر حقيقي له على تغيير دور المرأة في صنع القرارات أو إحلال السلام.
ليس من الضروري ذكر كل قصص النجاح للسوريات في المجالات السياسية حتى نضمن لها الدعم، وليس من الضروري التذكير بأسماء كثيرات ذات تأثير، وحصلت على تزكية دولية، أو جوائز واعتراف وتقدير، وليس من الضروري التأكيد على أن المرأة في السياسية العالمية أكثر من ناجحة، أو التأكيد على أن وجود المرأة تاريخيًا في مراكز القيادة والحكم هو دليل على قدراتها، وليس من داع للتذكير بزنوبيا وكليوباترا وبلقيس، اللواتي حكمن امبراطوريات وممالك شاسعة، ليس بسبب تعاطف الرجل، بل بسبب قدراتهن السياسية والقيادية الباهرة.
لاشك أن المرأة السورية بدأت حراكها ولن توقفه، بدأت رحلة المطالبة بحقوقها، ولابد في النهاية أن تحصل عليها ولو طال الزمن، فقد بدأت طريق الألف ميل، وهي في نضالها هذا تحتاج إلى الكثير من الدعم، من المرأة أولًا، ومن المجتمع والأسرة ثانيًا، ومن الدولة الديمقراطية المأمولة ثالثًا، ومن المجتمع الدولي وصانعي القرار والفاعلين الدوليين في الشأن السوري رابعًا، ومن منظمات المجتمع المدني خامسًا، وهي بالفعل تستحق هذا الدعم.
يجب أن لايقتصر دعم المرأة على خطوات إجرائية شكلية، بل يجب دعمها لتكون شريكة في القرار السياسي والمصيري، وفي كتابة الدستور وبناء مضامينه السياسية والمجتمعية والقانونية، وتشكيل التنظيمات المستقلة للنساء وتدريبها على طرائق التنظيم المجتمعي والسياسي، وتأهيل الرجل كي يقبل وجود المرأة إلى جانبه على أعلى المستويات، ولا بد أن تتغير القوانين والدستور ليكون منصفًا، كما يجب رفع الوعي عند النساء حتى يكنّ داعمات لبعضهن، وإلغاء تحفظات سورية على اتفاقية سيداو، وتوسيع دور المرأة في صنع الأحداث والقرارات وإحلال السلام، وتعديل المناهج الدراسية بما يتناسب مع مبادئ المساواة بين الجنسين، وإصلاح القضاء، وتعديل قوانين الأحوال الشخصية، واعتبار قضايا المرأة في سلم أولويات عمل الحكومة، وتعديل الدستور وفق ما سبق، وتعميق معرفة المرأة بحقوقها، وإشراكها في العملية التنموية، وأخيرًا وليس آخرًا تغيير الأفكار والعادات والتقاليد التي تحط من مكانة المرأة الإنسانية، ودعمها للدخول في المسار التشاركي والشامل بعيدًا عن العسكرة والمجموعات المسلحة والتحالفات الإيديولوجية ما دون وطنية، ويجب دعمها بكل الوسائل لتساهم فى المفاوضات بفعالية، ولتكون جزءًا من العملية السياسية الانتقالية، وعلى رأس عملية إعادة البناء والإعمار -السياسي والاجتماعي والاقتصادي- في وقت لاحق.
وجود المرأة من أساسيات مراحل السلم، ولديها من الحكمة والقدرة ما يكفي لتكون من أساسياته، والمشاركة السياسية والقيادية للمرأة هي حق يجب أن تحصل عليه، وواجب يجب أن تقوم به، وليس مكرمة أو هبة أو منّية تُمنح لها، وتقول ميشيل باشيلي، مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان: “أينما وجد نزاع فالمرأة يجب ان تكون جزءًا من الحل”، وهذا ما يجب على السوريين أن يعوه لأنه أمر ضروري للانتقال إلى دولة المواطنة العادلة، دولة القانون والديمقراطية والمساواة.