فن تشكيلي

“Fred Martin”.. تصورات فنية تعكس عمراً مُتجدّدَ الجماليات

 

من يتعرّف على التجربة الفنية للفنان التشكيلي الأمريكي فريد مارتن لا يمكن له أن يتوّقف عند مجرّد الأعمال التي عرضها والكتابات النقدية التي صاغها ولا التجارب التي ساهم في نشرها على امتداد الجغرافيا التي عبر منها نحو عوالمه الكثيفة بالإبداع والأفكار والتصورات، بل يتأمل بعمق متأني جمال وإنسانية احتفاله الدائم بذاته في الحياة بمنجزه في الفن بأثره الذي يرشح طاقة تنعكس على كل لحظة من لحظاته التي لا يريدها إلا إنجازا.

محتفلا بسنواته الثلاث والتسعين في مرسمه وفي جامعة كاليفورنيا للفنون يطرح فريد مارتن حالات فنية متراكمة ومتوافقة ومتصادمة ومتطوّرة ومندمجة تستثير التوازي بين العمل الفني والتجريب والبحث وبين التنظير الأكاديمي والنقد وبين البناء والفنيات كل تلك المراحل التي بدأها مبكّرا ولم يتوقّف لحظة عن التعبير فيها جعلته يطوّر أساليب الفنون الغربية كمرحلة أولى استحدثت ابتكارات التجريد والتجريد التعبيري ثم مرحلة الاندماج المفاهيمي مع الصورة ذهنيا وفلسفيا والبحث في العلامة البصرية من خلال التآلف مع المؤثّرات الشرقية في الفنون، ومن خلال دراسة الفضاء الخاص باللوحة والعمل على المساحة ومفاهيم الفراغ في التعبير التي حوّلت رؤى الفراغ من اللاشيء إلى الدلالة المعبّرة عن ذلك اللاشيء وماورائياته الموظّفة في مساحة العمل.

إن مثل هذه التجربة تستدعي الكثير من التأمل والبحث في مسيرة فنان اختار الفن كأسلوب حياة انعكس جمالا لم يتملّكه بل عكسه وسرّبه وحمله لكل من عرفه وتعلّم منه ليؤسّس مرحلة مهمّة من تاريخ الفنون البصرية الحديثة والمعاصرة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي العالم.

وهو ما يحمل المتعمّق في الفنون ومراحلها التكوينية الغربية لتسليط الضوء على تجربته بمراحلها من خلال سلسلة من البحوث التي ستكون مفصّلة لبعض ما قدّمه مارتن خدمة للفنون في العالم حيث أنه استطاع أن يخلق جسر عبور وتواصل بين الشرق والغرب، ومؤسّسا لتلك الشراكة البصرية جماليا، فهو من المستشرقين المجدّدين وهو الذي حوّل فكرة الفنون الصينية من المحليّة إلى العالمية وتماهى معها وبلورها واستشرف منها روحا جديدة وفلسفة مختلفة استطاعت أن تساعده على تطوير التعبير التجريدي والعمل بأكثر ترتيب على الفضاء والانطلاق نحو تملّك طاقة اللون والشكل والاندماج من خلال الفراغ.

 

“إذا نظرت بوضوح فإنك ستكون قادرا على رسم ما بداخلك وتلك هي المنظومة البصرية التي يتيحها العمل الفني… الرسم ليس نقل الصورة كما هي من الواقع إلى اللوحة الرسم هو ما نفهمه ونبصره ويتفجر داخلنا أفكارا تنعكس منجزا… العمل الفني علاج روحي ينتشل فكرة الفناء من الحياة ويهب الشفاء الذي يمنح السكينة لتفاصيل الحياة.”

ولد فريد مارتن سنة 1927 بسان فرانسيسكو، يتميّز بحيوية شاب يروض اللون بحكمة ويستدرج الأفكار بتمرد، كاتب وناقد فني وأستاذ فنون ومدير لعدة أروقة ومتاحف بالولايات المتحدة الأمريكية صنع لنفسه مسارا صقلته تجربة واسعة وعميقة عتقتها خبرة السنوات الطويلة التي بدأت منذ سنة 1945 وتشكلت بنضج صاخب الحضور لتجعله رائدا من أبرز رواد الفن التشكيلي في العالم.

قدم سنة 1949 معرضه الشخصي الأول، وحقق نجاحا مكّنه من العرض الجماعي والتمهيد لمسيرة متجددة من الإنجاز الفني تواصل على امتداد مراحل زاخرة بالأحداث والأفكار والاحتكاك بالفنانين العالميين وملامسة التجارب الفنية المختلفة ونبش الأفكار مع طلبته والتأسيس لمنهجه الخاص وبصمته المتفردة في الفن، لم يتوقّف لحظة عن البحث والعرض والعمل المتواصل أكاديميا وتجريبيا حاكت تجربته كبار التشكيليين ولكنه آثر العمل الأكاديمي والصقل المرحلي للفن وهو ما جعله يعمل على تأسيس الفكر الفني بالتبادل الثقافي وهو يزور دول الشرق ويبلور مع حضاراتها رؤاها في سنة 2003 قدّم مارتن وبمبادرة من أصدقائه معرضا فنيا ضخما ارتكز على عرض أعماله منذ بداياته الأولى حتى مسيرته المعاصرة وفق ماورائية رمزية استرجعت مراحل النضج الفني  والدلالات العميقة التي حملت الكثير من المعاني، هذه المبادرة التي اعتبرها “بمثابة استرجاع للمهام التي خضتها في حياتي في فترة بدأت فيها مسك أول خيط لعالمي الفني بكل إنجازاته وبأخطائي أيضا فالفن علامة تنير المسارات ومرآة تعكس ذواتنا تشفي أرواحنا من أوجاع الواقع فننتصر على خساراتنا، فكل ما فعلته كان إثارة للمتلقي بأسئلة جدلية وجودية مستحبة وغير منفرة، تنبش تفاصيله وتفاعلاته النفسية، فكم سيكون العالم مملا وبلا معنى لو اندثر التفاعل مع الفن وغابت الكلمات واختفت الألوان ولم نسمع الموسيقى، فالفن لا يمكن فصله عن الحياة لأنه في حد ذاته حياة.”

ستون عاما من الفن ساهمت في خلق علاقة خاصة بين مارتن وعوالمه التي انطلقت مع المشاهد الطبيعية والحياة والواقع في عالم مختلف المفاهيم وفلسفات الوجود وتكويناته المتسائلة عن العدمية والعبث والشك واليقين والانتماء في أربعينات القرن الماضي حملها وصاغها وتأثر بها وابتكر منها انطلاقاته وتحوّلاته التي قادته إلى خوض أولى تجارب التجريد العميقة التي نضجت في الخمسينات في الولايات المتحدة الأمريكية كمواجهة جديدة للعالم الغربي وللفكر الاشتراكي المحاكي لتجارب مختلفة في الفنون قدّمها فنانو أمريكا اللاتينية لم يحملها مارتن كمواجهة أيديولوجية بل استدرج معها أفكاره وصاغها بطرق مختلفة محوّلا مسارات التمويه الغامضة التي اكتسحت العالم إلى رؤى بصرية معبّرة ذات رمزيات عكست الابداع اللوني في التركيب والصياغة الماورائية في توظيف الملامح العامة والمتداخلة حسب الحالات والمفاهيم وحسب تدرجات التجريب الداخلية التي اندمجت معها العناصر في تكوين الفراغ وتركه ليحمل بدوره المعنى وهنا تظهر عبقرية فريد مارتن في تكوين رؤى تشكيلية استحدثها وصاغها وعبّر عنها نظريا وقدّمها لطلبته لتكون مقياسا يعكس درجات البحث الجمالي والبصري وعدم الاكتفاء بالتوجيه الفرداني للعمل بل باستلهام الواقع والطبيعة الثقافة والأدب والتعايش والإنسانية في مختلف تكويناتها الحضارية.

كل من عرف مارتن اعتبره فنانا غزيرا ومتنوعا وله شخصيته المؤثرة التي كانت طاغية على رؤى الفنون البصرية الامريكية يعبّرعنه فيليب لينهارس الباحث في الفنون وصاحب مبادرات معارض فنية بقوله “قلة من الأفراد كانوا مؤثرين ولهم نفوذ على التغيير البصري والمنهجي بعد الحرب ولكن فريد مارتن استطاع أن يتميّز بأسلوبه ويندفع أبعد بفكره وفلسفته الفنية والجمالية فتأثيره كان بشكل غير مباشر ولكن بأسلوب شدّ طلبته ومعاصريه وأسّس مفاهيم جديدة خصوصا من خلال أنشطة جامعة الفنون بسان فرانسيسكو حيث كان للمنطقة مشهد فني جديد ومستحدث ومتطوّر”.

لقد نجح مارتن في ابتكار أسلوبه الشخصي المتفرّد الذي صاغ فيه موازينه لمقوّمات الإبداع الجمالي على مختلف الاتجاهات المرحلية التي عرفها حيث تميّزت أعماله التي قدّمها في أواخر الخمسينات واوائل الستينات بالتركيز على المشاهد والعمارة والملامح الطبيعية العامة التي كان يمارس عليها أسلوب التقليلية ويحاول أن يتجرّد معها ويحاول بلورة الفكرة في الطبيعة من حيث التكوين والخصوبة والتجدد التي كان يركز عليها أكثر من غيرها مثل البذور والكؤوس والنقاط والأشكال التي تتماهى بين الأسطورية والحقيقية التي تنازع الخيال والفوضى.

بتعرّفه على الفنون الشرقية الإسلامية وفنون الصين والخط والخامة والحبر والورق ومدى تطوّرها مع التعبير الفني تمكّن مارتن من أن يجيد الانتقاء والتصفيف والترتيب التصاعدي نحو الفكرة الإنسانية حيث ركّز على الحالات النفسية وهو يتجادل بالفعل والتأسيس مع علم النفس اليونغي أو التحليلي والرسم الصيني فقد آمن بأهمية الفن كنشاط روحي خاض في فلسفة الأساطير وسطوتها التعبيرية.

ولعل تلك الأساليب التي كوّنها بصريا خلقت لديه حكمة فنية ورؤية ناضجة مزجت الذات والروح مع الطبيعة والآخر كمعانقة تجريدية متناغمة واعية بفوضى المعاني النفسية التي يقوم بترتيب مجازها وفق تشكيلات زاخرة بالنقاط بالخطوط بالأضواء والرموز والألوان تحاكي معرفيا الكون دون أن تنفصل عن الرحم الأول لأنه انبثاق البداية وانعكاس النور والأمل.  

 ما أكسب الأعمال في تجربته بمراحلها الناضجة روحا نقدية وإحساسا إنسانيا عابقا بألوان ذات مقامات نفسية تبعثر الجوهر وترتب صخب المسافة المتشكلة داخل مساحة المنجز وهندسة الأشكال وتقابل الخطوط.

 لم يتوقف مارتن عن تطوير النظرية الفنية في منهج الفن الخاص به وتعبيره التجريدي فقد استعان بأفكاره وخبرته بين تدريس الفن والكتابة وإدارة المتاحف والتعرف على التجارب المتنوعة التي انعكست على رؤيته الخاصة للفن كتعبير عن الفرد داخل الطبيعة ومن هذا المنطلق طور نظرته للإنسان كعنصر فاعل داخل المنظومة الطبيعية بحواسه ومدركاته وانفعالاته وأفكاره فعبر عن الحياة والحب والبقاء والتطور والتواصل مع كل المكونات والعناصر الحياتية وأصبح لأعماله عناوين مختلفة بين مرحلة وأخرى.

تعكس أعمال مارتن فتنة مبهرة توازن بين الإحساس والرغبة والعمق الفكري والوعي والحنين المخزن داخل الذاكرة.
يقوم فيها بالتحايل على الشكل ضمن منظومة تقنية منسقة تلامسه ذاتيا وتخاطب وعيه المدرك 

يبني مارتن دينامية داخلية تخلق ميكانيزما تفاعليا طبيعيا مع الشكل الخارجي يحتضنه مسطح اللوحة  فيخرجها من إطارها الأكاديمي ويشرق بها إبداعيا ليأخذها من دوائر السأم نحو الجمالية الخالدة فكرة وأسلوبا.

وهو يطرح حقائق الموت والحياة الفناء والبقاء والخلود ويلامس نفسيا المتلقي في حواسه المتناقضة بتطرف الحزن والفرح الخوف والمواجهة فهو يتلاعب بالأجسام ويستدرجها داخل الألوان ويغمرها بالإيحاءات المختلفة التي قد تغري بصيرة المتلقي باستفزاز ذهني نحو عمقها وبذلك يقوم بالتحفيز الدينامي للمشاهد ليخلق جدلية فكرية في تلقي المضمون وفهمه حسب درجة الوعي.


  •  الأعمال المُرفقة: 

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية 

Farhat Art Museum Collections

 

بشرى بن فاطمة

صحفية وكاتبة تونسية؛ خريجة معهد الصحافة وعلوم الاخبار بتونس صحافة مكتوبة اختصاص ثقافة وفنون. عملت بعدة صحف ومجلات تونسية وعربية وانخرطت في عدة جمعيات تونسية تعنى بالأنشطة الثقافية العربية وتنظيم التظاهرات الفنية. قدمت عدة بحوث في مجال الفنون التشكيلية منها كتاب تأثير الاستشراق في الحركة الفنية التشكيلية العربية والغربية الصادر عن مؤسسة الديوان الثقافية المصرية وسيصدر لي قريبا بحث بعنوان "مفاهيم الفراغ في التشربة التشكيلية النسائية العربية". لي عدة محاولات في ترجمة مقالات انجليزية وفرنسية عن الفنون البصرية شاركت بها في عدة مشاريع بحثية أهمها كتاب "الفيديو آرت وتأثيره على التجربة العربية والخليجية" للكاتب والباحث السعودي يوسف الحربي. نشاطي الجمعوي والتنشيطي الميداني قدمت ورشات في التحليل والقراءة الفنية للوحة والصورة الفتوغرافية والكتابة النقدية والتحرير والسرد من خلال ربطها بالجوانب الأدبية والمشاركة في الكتابة متعددة الوسائط والجمع بين الفنون. شاركت كمستشارة فنية بالتعاون مع جمعية الثقافة والفنون بالدمام بالملتقى الدولي الأول لفن الفيديو في دورته الأولى التي اختصت لأول مرة في الفيديو آرت بالمملكة العربية السعودية 2018.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى