فن تشكيليكاريكاتير

ذكرى رحيل مصطفى الحلاج.. في استعادة المكان

كأنَّه وناجي العلي يبحثان في رسوماتهما، يعملان على تصعيد وهج الحياة في الألم الذي يحزُّ كخيط حرير، كسكِّين على رقبتيهما، ولا يذبحهما، ولا يموتان. مَنْ سَرَقَ فلسطين؟


الفنان مصطفى الحلاج (1938 ـ 2002) هذا العاقل العظيم الذي رسم أضخم لوحة جدارية (114 مترًا، وعرضها 36 سم)، وهي عن مكابدة ونضالات الشعب الفلسطيني في أراضي الشتات العربي، وسماها “ارتجالات الحياة”، وفارق الحياة معها، حين احترقَ واحترقت معه؛ عندما شبَّت النار في مرسمه في صالة ناجي العلي في دمشق عام 2002.

كان في رسوماته يؤسِّس للحظة تنوير؛ إشراق. ففي خطِّه ـ كتلته السوداء، في المشروع الصهيوني، نلاحظ في المسرح، وفي السينما، وفي الرواية، أنّ أدباءهم يغتالون تاريخنا الوطني والقومي، على الطريقة الفاشية؛ مذابح وحمَّامات دم لكل من يقف في وجه مشروعهم السياسي.

الحلاج كان يؤسِّس؛ يردُّ على مشروعهم، ربَّما كان ناجي العلي صوتًا مشاكسًا ومُتهكمًا ومُشاغبًا كفنَّان رسمَ ألمَه واحتراقه بفلسطين، إلا أنَّ الحلاج كان أكثر هدوءًا في التعبير، في الردِّ وبشجاعة وقوَّة كما ناجي، فالأسود، أسوده، وإن استعمل الحلاج الألوان، الأسود لم يكن تعبيرًا عن حزنه، أو غضبه، الأسود هو لون الحياة من حولنا، ترى فكرتك فيه مجسَّدة كمطلب للعقل، أي كحقيقة. طبعًا، الحلاج يُحمِّل الأسود مشاعره، وإلا لما قلنا عنه هو ظلٌّ جميل، أو أسودٌ مليء بقيم الجمال.

هنالك سبب يكشف عن رؤية فلسفية في أعماق الحلاج؛ وهذه لمستها بيدي من خلال علاقتي به، كان يرى أنَّ ناجي العلي سيتعرَّض للتكفير كما تعرَّض لذلك من قبل (غاليليو). ولذلك نفَّذ مشروعه من دون ضجيج. لقد سيطر على جموح روحه، فلم يترك لها أن تُسمعنا سوى صوت صهيلها. لقد أخفى وكتمَ صوت سُعالها.

لوحة “الاتجاه” (مصطفى الحلاج) 

مصطفى الحلاج كان يكتب، يرسم سيمفونية، سيلًا عارمًا من الصور، النغمات، الأفكار. كان ينفجر على سطح كتلته السوداء، وهذا السيل ينبع عنده من شعور وطني حالم ربَّما نتلمَّس فيه أساطير دينية، موتا وحياة، بعثًا، قيامة؛ مشاهد عنيفة، أو عنف التشكيل ـ تشكيل الصور.

لأنَّ الحلاج عندما يرسم فهو يقوم بعملية كشف لسحر وقوَّة الحياة الفلسطينية على الأرض (المكان) الذي تمَّ تلفيق الكيان الصهيوني عليها، ومدى قدرته على الوقوف في وجه المذبحة ـ الموت، وكأنَّ الحلاج في رسوماته يرسم حلم يقظة لا يمكن تدميره، أو حرقه.

مصطفى الحلاج اشتغل فيلسوفًا، استعاض عن الحكي، عن الصوت، بالرسم. لقد دفع الروح في كتلته السوداء؛ جعلها تصهل، لا طوعًا؛ بل رغبةً منها في أن تعبِّر عن وجودها، فالرأسُ رأس، والقدمُ قدم. روعة الحلاج أنَّه رسمَ الأفكار العظيمة والخالدة؛ رسم (المكان الفلسطيني)، فصدره يستعر حماسة بصور عنه، وأكثر، ربَّما أكثر من أيِّ فنَّانٍ، أو مثقَّفٍ آخر، اشتغل في إبداعه على المكان الفلسطيني، فكاد الدم ينبثق من بين أصابعه وهو يرسمه، رغم أنَّه يحفر فيه بالأبيض والأسود.

لأنَّه كان يقدِّر أنَّ العماء الذي ضرب الحواس كي لا تقرأ، لا تتأمَّل في هذا المكان؛ هذه الحجارة، الحجارة الكنعانية الفينيقية العربية؛ هو فعلٌ طارئ؛ عارض، وليس مرضًا. فالأناشيد الهادرة التي تنطلق من (أنين) هذا الحجر، الحجارة الكنعانية بإيقاعاتها المأساوية لِما آلَ إليه الوضع الفلسطيني والعربي لا يمكن إسكاتها، أو كتم أنفاسها. الحلاج كان كما ناجي العلي مصابًا بلوثة (الجنون المقدَّس) بالمكان الفلسطيني، لذا كانت رسوماته (حفرياته) بيانًا بطوليًا، نشيدًا حماسيًا يجسِّد ملحمة أمة.

 

 

الحلاج يرسمُ حين يرسم، يرسمُ حركةً غنية بالحياة؛ يرسمُ جسدًا في حالة اتحاد مع الفراغ. فأرواح الأجساد تنتشر في فراغ المكان وهي تحكي إحساسها، فتغذينا، تغذي البصر، بصرنا، بصورة، بمشهد الفاجعة التي نعيشها.

نلاحظ أنَّ الحلاج في أبيضه (الخط) الذي يفصل بين (كتلتين) سوداويتين هو كمن يحفر، كما المهندس الكنعاني، وكما المهندس الفينيقي في الأرض الفلسطينية، ليطالع عمارته التي تسكن فيها روحه: غابات من الكتل، خطوط، أعمدة، رجال، نساء. خيول؛ الخيل ـ الحصان الذي يرسمه بخطوط منحنية للدلالة على حيويته وهو يشدّ، يجرّ قطيعًا من البشر بخيوط أفقية وكأنَّه يقتلعهم كما اقتلعوه.

الخط هنا بانحنائه، أو بأفقيته، أو حتى عاموديته؛ هو تلك الكتلة من الضوء الأبيض، أو الظل الأسود التي تستفزُّ شعورنا، ومن ثم تدفع عقلنا ليدرك قيمة المكان وقيمة الوقت. الأسود وهو يرسم بالأسود فليشير إلى وحشية، أو توحُّش الفكرة.

ففي لوحته (فلسطين) وهي حفر على الخشب، الحصان كتلة سوداء للدلالة على الفكرة، والفراغ كتلةٌ سوداء للدلالة على الوقت، ورغم سطوع ضوء القمر في أعلى زاوية اللوحة، فإنَّ المكان عند الحلاج هو مكان واقعي لا أسطوري، رغم أنّه يحيله إلى مشهد مسرحي. فالحدث، الأحداث التي تتفجَّر في مساحة المكان، الفضاء، الفراغ، هي فعلٌ درامي غنيّ بالصراعات.

فتقاطع الخط العامودي مع الأفقي الذي يتكشَّف لنا بالضوء (الخط الأبيض) هو عبارة عن صراع دموي عنيف: الأفقي يجرُّ، يشدُّ. العمودي المائل يقطع/ لا يجادل، لأنَّ الحوار المسرحي في المشهد الذي يرسمه الحلاج ملغى. فهو كما ناجي العلي يرفض أيَّ حوار حول حقه. فناجي في رسوماته لا يجادل ولا يناقش، بل يطالع (جمال الشجاعة)، ويقول: فلسطين أرضي.

هكذا الحلاج أيضًا، وهكذا هو يذهب إلى بيت القصيد، فيرسم (النهاية) يقلع، يقتلع، لا يشرِّح، ولا يحلِّل. الحلاج يعطي للزمن وللمكان شكله، يعطيه شكلًا في حفرياته، فالجسد الذي يشغِّل الفراغ عنده ليس جسدًا تائهًا، أو ضائعًا.

إنَّه جسده، جسدنا العربي الفلسطيني، جسد مشكلتنا القومية المستلبة، وهو هنا يلتقي مع لؤي كيالي الذي رسم من قبل لوحاته (الثلاثين) بالأسود والأبيض، ضمن “معرض في سبيل القَضية” سنة 1967، ذلك قبل موعدنا مع هزيمة 5 حزيران/ يونيو بشهر، إلا أنّ لؤي طالع ضجيج، حزن، هيجان الروح العربية في لوحاته وبواقعية تعبيرية، فكان غاضبًا، حانقًا، ثائرًا.

الحلاج بعكسه تمامًا، إذ كان يبحث، كان باحثًا فيلسوفًا حاول وسعى إلى أن يخلق علاقة إيجابية، وبمادية، مادية حقيقية في ما بيننا؛ سواءً كانت تعنينا مشكلته التي يفلسفها، أو لا تعنينا، وبين لوحته. فجاءت صورته في شكلها الأوَّل تحمل عذريتها، تحمل براءتها، وبالتالي عنفوانها كنص إبداعي يشتغل فينا، في ذاكرتنا القومية.

لوحة معركة الكرامة 

المشروع الصهيوني يحاول ابتلاع المكان الفلسطيني، ابتلاع بلاد الشام. الحلاج، ومن قبله ناجي العلي، تصدَّيا لهذا المشروع، لذا فالأبيض/ الضوء هو محاولة للكشف، لاستعادة المكان، استعادة أساطيره اللامرئية. هل تعرفون أنَّ الضوء عند الحلاج هو بمثابة الروح للجسد. كيف يتمُّ نزعها ـ الروح؛ ولا نفعل شيئًا من أجلها؟

 

الحلاج حتى يحقِّق هذه المادية كان يحفر. هو كان ينحت رسوماته فيضعنا أمام جسد يتمدَّد، ينتصب فوق مساحة في الفراغ. رسوماته أخذت على يديه أشكالًا أَسَرَتْ، شدَّتْ بصرنا، ومن ثمَّ بصيرتنا. فما ينتجه، يرسمه، سطوح/ سطح مادي، حقيقة نحتية شديدة الحساسية بالزمان والمكان الذي صار يحمل، صار ينشر أفكارًا جمالية عن السياسي الذي تزيَّن بالذهب وبالجواهر، فيما جسده متفسِّخٌ متحلِّلٌ تنتشرُ منه روائح العفن.

الحلاج في بحثه هو ينحت لا يرسم، ولهذا فهو يمنحنا إحساسًا بعظمة المكان. فعلى سطح الرسم نمسك بيدنا عمق الفراغ ـ خطوط الأفق، سواءً كانت بالأسود، أو بالأبيض، فهي التي تؤسِّس، تكشف هوية المكان. قد يبدو الشكل مجردًا، لأنَّ الحلاج لا يستخدم الألوان كثيرًا.

الحلاج يدمج الفراغ بالضوء، الفراغ أسود ما لم يكشف، يدل عليه الضوء. أنا لا أبالغ إذا قلت: إنَّ الضوء ـ الكتلة البيضاء عند الحلاج هي ذروة، هي صورة لإشراقات عشقه الصوفي للمكان الذي تنفعل، تنفجر أحاسيسه به. إنه يمنح الضوء سلطة أيديولوجية تحرِّك الأفكار.


ضفة ثالثة

أنور محمد

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى