لم تكن التجربة التعبيرية التي ميّزت المدرسة التشكيلية الألمانية في أوروبا وفي العالم بالاعتباطية أو العابرة بل كانت نتاج الابتكار وكذلك التأثيرات النفسية التي تداخل معها البحث والتمازج الفني والفكري والقيمي والفلسفي والتفاعل مع الواقع الاقتصادي السياسي الثقافي والاجتماعي والاندفاع الفردي بالأحاسيس مع المجموعة العامة التي تمازجت مع ما بعد الانطباعية.
ولذلك لم تكن نشأة التعبيرية في ألمانيا بكل خصوصياتها مجرّد تجريب فني أو تأثّر بل حدث وعمق وحضور وفتح لمنافذ بصرية فلسفية وفكرية جديدة مع التجربة التي كان تمهيدها فرصة لخلق أساليب تعبير جديدة في بقية الفنون بمختلف الخصوصيات التي تثيرها مع كل ثقافة.
شهدت ألمانيا والنمسا في بداية القرن العشرين صدامات مختلفة لامست كل المجالات وهو ما أثّر على الأفراد بشكل خلق تماسا مختلفا بين الاستيعاب والتعبير والموقف الذي اختلف في البحث الفني والتعبير من خلاله وبالتالي شكّلت مدينة “دريسد” ومدينة “ميونيخ” أوّل المنافذ لنشأة التعبيرية عن طريق مجموعة من الفنانين أسسوا Die Brücke أو مجموعة الجسر سنة 1905 ومجموعة الفارس الأزرق Blaue Reiter سنة 1911 وهو ما فسح المجال للانتشار في النمسا مع فناني آخرين أمثال أوسكار كوكوشكا وإيغون شيليه، ليستمر البحث بالتوازي مع الواقع والأحداث الصدامية والتناقضات التي خلّفت الحرب العالمية الأولى التي اكتملت في مراحلها البحثية بخلق الموضوعية.
وقد كانت التعبيرية نتاج واقعها الذي ارتبط بالصدامات والصراع وكذلك بالتطور التقني والتصوير الفوتوغرافي الذي أعاد تحرير فكرة الصورة والتعبير عنها في الفن من خلال الواقع وإخراجها بشكل جديد.
فالتعبيرية تعدّ تمرّدا أو ردّة فعل على الانطباعية الفرنسية التي كانت تنقل الواقع كما هو دون تحليل داخلي ذاتي نفسي مُفرط في وعيه.
يحتاج شرح بداية انبثاق التعبيرية الى عدّة مستويات تاريخية ومسارات تسلسلية غير أن الخصوصية الألمانية التي تبنّت فكرة التعبيرية في مختلف توجهاتها التي بقية للآن ميزة التصورات الفكرية في العقلية الألمانية تماهت مع التعبير الفني المسرح والسينما انبثقت مع التشكيل، فأسّست للعلامات الثابتة والراسخة على عدة مستويات تأثّرت بالواقع الذي عبّر عنه أرنست كيرشنر وفريتز بلايل وإيريك هيجيل وكارل شميث رودولف وماكس بيشتاين وإيميل نولدي كان العنصر الطاغي في مفاهيمه التأثر بالأزمة التي عايشتها ألمانيا وخاضت بها صراعها مع العالم وهو ما أثّر على نفسية التلقي الفرداني للواقع من خلال البحث في طرق رسم جديدة لتلك الوقائع امتازت بالعدوانية بالسوداوية وبالتفاعل النفسي مع الأحداث.
لقد كان العالم الذي انطلقت منه التعبيرية مليئا بتلك السوداوية التي استدرجت الأفكار أبعد في تأملاتها للذات الإنسانية وللوجود فالتعبيرية كانت نتاج المبحث العام عن مشاكل البشرية التي تشكّلت كصرخات يأس في أغلب الأعمال التعبيرية المنجزة في بيئة أجادت تقديم القلق والهوس واللاأمان في تمازجات بين الخوف من الأفق القادم، لذلك حملت التعبيرية الألمانية علامات بالغت في عصبيتها وتوّتراتها شوّهت المحتوى المعبّر عنه بخطوطه وألوانه وشخوصه وعلاماته استدرجت الأفكار إلى فواقعية مفرطة بهدف تحفيزه على استنطاق الواقع واستقطاب الرؤى التعبيرية.
وقد كان الفنان التعبيري حرّا في فرض قواعده التعبيرية حيث أكّد كيرشنار أن الفنان عليه ترك خياله ومواقفه تنجرف معا مع الأحاسيس والانفعالات، لذلك كانت الخصوصية التعبيرية هي خرق القواعد الشكلية للفن وقد كان هذا التيار مميّزا لحركة كاملة أثارت نقد الفنانين الكلاسيكيين والنقاد الذين اعتبروا المدرسة لها وقعها المثير لعواطف الأجيال الألمانية الجديدة بأفكارها وسوادها وعتمة تصوّراتها.
وقد أثارت بدايات التعبيرية نوعا من الرجة على مستوى المواقف والدوافع النفسية للتعبير والتصورات الفردية الحرة التي أنضجت التجريب لتصبح كتيار فني ذات لغة مضبوطة ذات قواعد منظّمة تمكّنت من تعميق التوجّه نحو توظيف الانفعالات إلى البحث عن الجوهر والعمق الذي تماهى مع الخطوط والألوان والمساحة ودرجات استيعابها للفضاء والفراغ بخلق موازنات بصرية.
غير أن التصورات التي بثتها التعبيرية لم تكن بكل تلك البساطة الدافعة لقبولها أو رفضها لأنها كانت نتاج مرحلتها وتطوّرت حسب كل تلك المراحل التي جعلتها منفذا في الأدب والشعر والمسرح والسينما حمل المتسّع الفسيح لتحمّل الواقع والانسلاخ عنه والتفاعل معه بكل الذاكرة والأحاسيس.
ولعل تأثيرات التعبيرية لم تحمل الألمان وحدهم لقياس واقعهم وفقها بل كان لهم تأثير على الحركة الفنية العالمية ومنها الحركة التشكيلية العربية التي استطاعت بكل تماثلاتها وإرثها أن تكون رهينة واقعها وصراعاتها وتناقضاتها فقد أثّرت الفلسفة البصرية على التواصل الفكري والفهمي لكل الواقع خاصة وأنه كان متوافقا مع الحركة الأدبية العربية التي تأثرت بأدب كافكا وهامنغواي تلستوي وديسكويفسكي والتسلسل المتناغم معها في التعبير والمجاز والدلالة والعلامة.
فالتأثر العربي كان منسجما في مواكبته لحركة عالمية ومندمجا في تحمل توافقاتها مع واقعه بين صراعات مزاجية داخلية نفسية واجتماعية وسياسية وقائع مجازر اغتيالات تناحرات صراعات فكرية بين التحرر والقيود فقد أثّرت القضية الفلسطينية وتبعاتها من حرب أهلية لبنانية وغيرها على النفسيات العامة التي حاولت البحث عن ذواتها ومعالجة مواقفها حسيا وبصريا من خلال التعبيرية التي بدأت من الذات وانطلقت عبرها في رصد أغوار النفسيات العامة بالتعامل مع الحسيات المتداخلة لتتطوّر وتفسح المجال لرؤى تشكيلية ابتكارية في التجريد والتجريد التعبيري والسريالية والمفاهيمية.
حيث تشاركت التصورات التجريبية التعبيرية العربية مع التجريب الألماني في رصد الحالات التي عبّرت عن اليأس والاندفاع نحو تجسيد الخوف واللا أمان في تجليات اختلفت في العلامة التعبيرية والدلالة الخاصة التي رفّعت الهوية والذاتية العربية في سيميائياتها بين الطقوس اللونية ومثيولوجيا والأسطورة والفكرة التراثية في رصدها المعنوي لأنها تأثّرت ببيئتها وابتكرت منها العلامة والحكايا بين الأدب العربي القديم والصور الشعرية وأساطير الحضارات القديمة، خاصة مع ما تحمل التفاعلات الحسية في التركيز على المحتوى الداخلي في الملامح والعناصر المكوّنة لشخوص اللوحة، فالوجوه تتماثل لمنطق التشويه أو المرونة الحسية للجسد كي تتوافق مع الألوان والخطوط والرموز والعلامات فكل ذلك يوسّع دوائر المعنى العميق والتفسير الأكثر انطلاقا.
الأعمال المرفقة: متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية – Farhat Art Museum Collections.