فن تشكيلي

“جورج حنين” رائد السوريالية العربية

جورج حنين (1914-1973) أحد الوجوه الثقافية التي بدأت تبرز في مصر في نهايات عهد الملكية، والتي كانت في أغلبها ذات تكوين ليبرالي، وعلى صلة فعلية بالثقافة الغربية، ومتأثرة بالقيم الأوروبية التي عرفتها القارة العجوز ما بين الحربين، وتدور من حول الحرية والعداء للنازية والفاشية والستالينية.


ووجد هذا الشاعر نفسه وأبناء جيله من المثقفين في صدام مع الحكم العسكري الجديد الذي استلم السلطة بانقلاب 23 يوليو/ تموز 1952، ما اضطره إلى الهجرة نهائيًا عن بلده في عام 1960 في اتجاه اليونان، ومن ثم المغرب، وفرنسا التي أصبحت موطنه الأخير، بعد أن عرفها شابًا حين درس في جامعة السوربون، ونال منها ثلاث شهادات ليسانس دفعة واحدة، في الحقوق، والآداب، والتاريخ.

وهناك تعرف على الحركة السوريالية وارتبط بها في عام 1934، وقام بمعية الرسام المصري رمسيس يونان بتقديم السوريالية إلى القاهرة، وانضم إليهم لاحقًا كامل التلمساني. وفي باريس التقى حنين مع السوريالية والسورياليين مثل زعيم الحركة أندريه بروتون، وتعرّف على أبرز الشعراء الفرنسيين، ومنهم هنري ميشو، الذي قال عنه “ولد جورج حنين بالقرب من الصحراء. في كل الظروف، مع كل المآسي، وضد الجميع، نجح في أن يحتفظ بحصة من الرمل”.

وقصد بـ”حصة الرمل” الكراس الثاني الذي أصدره حنين عام 1950، وتحول إلى دار نشر أصدر عنها عدة كتب، بعضها مترجم مثل ديوان “أغنيات” للشاعر السوريالي الفرنسي فيليب سوبو، وفي عام 1956 أصدر ديوانه “العتبة الممنوعة”.

وتعد الحركة السوريالية في مصر في خمسينيات القرن الماضي من بين الحركات النشيطة، والتي كانت شهرتها ومساهمات أعضائها قد وضعتها في المرتبة الرابعة بعد الفرنسية، الألمانية، السويسرية. وإلى جانب حنين برز من بين أعضائها الفنان والناقد والسينمائي كامل التلمساني (1915-1972)، الذي غادر مصر إلى لبنان وعمل إلى جانب الرحابنة، ورحل عام 1972، وفي رصيده عدد من الأفلام المهمة، وكذلك التشكيلي رمسيس يونان (1913-1960) مؤسس “جماعة الفن والحرية” عام 1938، والتي ضمت حوالي 40 من أبرز الفنانين والكتّاب مثل حنين، التلمساني، والأخوين أنور وفؤاد كامل، وهنري كيرييل، تحت رعاية المفكر المصلح سلامة موسى. 

ولعبت الجمعية دورًا مهمًا في تحريك الجو الثقافي من خلال التعريف بالثقافة التنويرية الغربية الجديدة في تلك الفترة، وكانت في أغلبها تتسم بطابع التمرد والتجديد والثورة على الكلاسيكية، وأدت الترجمة دورًا أساسيًا في مساعدة هذا الجيل في التعرف على الثقافة الغربية المعاصرة في الشعر والرسم والسينما على وجه التحديد، وبرزت للجمعية مواقف ثقافية ذات توجه سياسي تقدمي، وأصدرت بيانًا شهيرًا تحت عنوان “يحيا الفن المنحط” ضد الفاشية والنازية وضد منع هتلر للتصوير بدعوى أنه فن منحط. وكان يونان من أول السورياليين المصريين الذي خاض مغامرة الفن الحديث والهجرة الثقافية.

وترك تأثيرًا كبيرًا على أبناء جيله، وبسبب مواقفه السياسية تعرض للسجن في مصر عام 1946 بتهمة محاولة قلب نظام الحكم وجرى إغلاق مجلة “المجلة الجديدة” (1942-1944) التي ترأس تحريرها، وطرد لاحقًا من فرنسا أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 بسبب موقفه الوطني إلى جانب بلاده، ومن بين ترجماته التي تحتفظ بقوتها وجمالها حتى اليوم ترجمة الشاعر آرثر رامبو الذي يعد أحد أصعب الشعراء على الترجمة، ونقله يونان إلى العربية بلغة متينة وجميلة، ويشهد بذلك كل الذين خاضوا هذه المغامرة، ومنهم الشاعر والمترجم العراقي كاظم جهاد، الذي ترجم الآثار الشعرية الكاملة للشاعر الفرنسي.

جورج حنين  وكتاب  ساران ألكسندريان:  “جورج حنين: رائد السورياليين العرب”

وتعاون هؤلاء مع مجلة “دون كيشوت” (1939-1940)، وأصدروا نشرة “الفن والحرية” (1939)، ثم أصدروا فيما بعد مجلة “لابار دو سابل” (1947-1950). ويعتبر موقف هذه المجموعة من الحرية متطرفًا حتى بمقاييس ذلك العصر، وهو مستمد من تراث الفوضوية، رغم أنهم حاولوا تطعيمه ببعض الأفكار الاشتراكية الرومانسية الفرنسية والتروتسكية ومعاداة الستالينية والفاشية.

واتسمت مواقفهم بالحدة من المحافظين والكلاسيكيين في مصر، واتهموهم بـ”التجهيليين” و”الاتباعيين”، وهذا أمر انعكس حتى على مصائرهم الشخصية، فمن جهة رحلوا جميعًا ولم يتجاوز عمر أي منهم 60 عامًا (حنين 59 عامًا، التلمساني57 عامًا، يونان 47 عامًا)، ومن جهة أخرى عاشوا حياة تشرد، ورحل حنين في باريس، والتلمساني في بيروت، ويونان في مصر بعد طرده من فرنسا.

وهذا مؤشر مهم إلى حياة نفي داخلي وخارجي، وسببها ربط الموقف من الفن بالموقف السياسي، وإشهار ذلك علانية من دون مساومة أو استنسابية، ومثال ذلك أن نشأة حنين في أسرة مسيحية أرستقراطية، لم تمنعه من استنكار الإعدامات الأولى للإخوان المسلمين، ولم يقبل كبت الحريات الذى واجهه معارضو السلطة آنذاك، آيًّا كانت نزعاتهم الدينية.

ولم يكن حنين على وفاق مع “ثورة يوليو”، وكتب قصيدة في هجاء الرئيس جمال عبد الناصر بعنوان “ذو الوجه السينافوري”، والتقطت الأجهزة المعنى، وكاد أن يذهب إلى السجن، لولا تدخل صديقه العسكري وزير الثقافة ثروت عكاشة، لكنه فقد عمله، وفوجئ ذات صباح بعقيد يجلس مكانه في مكتبه كمدير عام لشركة سجائر “جناكليز باباستراتوس”، ويبلغه أنه مطرود من العمل.

لحظتها أدرك أن ساعة الرحيل حانت، فذهب إلى أثينا كمحطة أولى، فروما، فالمغرب، فباريس كمكان إقامة وعمل وإنتاج، وتعرف أكثر وعن كثب على فرنسا ومثقفيها في فترة ما بعد الحرب الثانية، والذين عرفوه أيضًا وقدروه ككاتب ومثقف ومناضل من أجل حرية الفن والفكر والرأي، ووصفه الكاتب الفرنسي أندريه مالرو بـ”النموذج الأكثر ذكاء” لجيل مصري عصري ليبرالي شهد التهميش من قبل الناصرية.

“جماعة الفن والحرية”  

وهناك ملاحظة مهمة جدًا تتعلق بالكتابات والأعمال التشكيلية والسينمائية لهذا الجيل من السورياليين المصريين، وهي أن لغتهم لم تتأثر باللغة التي درجت بين مريدي الحركة السوريالية في أوروبا، وما يميز لغة هؤلاء أنها بعيدة عن الصرعات والغموض، وهذا أمر معطوف على فهم عميق للبيئة المحلية وتراثها الثقافي، وحتى الترجمات التي قام بها رمسيس يونان تميزت بلغتها العربية المتينة الخالية من ثقل الكلاسيكية المقعرة، التي سيطرت على ترجمات تلك الفترة من جهة، ومن جهة أخرى التوجه نحو الحداثة من دون خوف أو تردد ودونية.

وفي شعر حنين يطالعنا نص بعيد عن لغة وبلاغة أندريه بروتون، وأقرب إلى جاك بريفير، بول إيلوار، لويس آراغون، يوجين غيلفك، وإيف بونفوا، الذين جربوا أن يتعطروا بعطر بروتون، ولكنهم ما لبثوا أن انحازوا للشعرية وليس للقوالب النظرية في شعر مؤسس الحركة السوريالية، واعتبرتهم قيادة الحركة مرتدين، وهو التصنيف الذي لم يشمل حنين بعد ما جمد نشاطه في الحركة السوريالية منذ عام 1950.

وهذا لا يعني أن نصوص الشعراء العرب تخلو من روح السوريالية، بل على العكس، ولكن هؤلاء يتنفسون هواء مختلفًا، هواء الشرق الذي نجده في نصوص أغلبية السورياليين العرب في سورية، العراق (صلاح فائق)، لبنان (أنسي الحاج). ورغم ذلك ظلت جماعة “الفن والحرية” حركة أقلوية داخل مصر وعلى مستوى العالم العربي، ولم تشكل حالة أو تيارًا في مصر، ولم يصل صداها إلى بلدان عربية أخرى إلا بعد وفاة جورج حنين في باريس عام 1973.

وحتى الجيل الجديد من الشعراء والرسامين الذي اقتربوا من السوريالية في بلدان المشرق العربي، لم يتمكنوا من بناء جسر مع التراث الذي تركته هذه الحركة، وأحد الأسباب هو أن هذا الجيل امتلك أدوات الاتصال مع الثقافات الأجنبية على نحو أفضل من الأجيال التي سبقته، وتمكن من التعرف عليها من دون وسطاء أو الوقوع في النمط، ومن هنا شكل اختياراته، وعلى نحو خاص السياسية، من دون المرور الإجباري بالحركة التروتسكية التي كانت حليفة للسوريالية استجابة لبيان بروتون – تروتسكي نحو فن ثوري مستقل، الذي أعلن عن تشكيل الفيدرالية الأممية للفنانين الثوريين المستقلين، المعروف على نطاق واسع، وكان الفرع المصري الأكثر فاعلية والأطول عمرًا من تلك الفيدرالية، واستمرت لعدة سنوات حتى بعد غياب المنظمة الأم.

وفي كتابه عن جورج حنين المعنون “جورج حنين: رائد السورياليين العرب” قال ساران ألكسندريان، أبرز مؤرخي الحركة السوريالية وصديق حنين: “من الصعب التحدث عن السوريالية في باريس من دون أن نجعل مكانًا فيها لجورج حنين.. لقد كان أمير المنفى، سطع وتوهّج في أعماله كافة تمامًا كما توهّج شعراء المرحلة السوريالية الذين قدموا من روسيا وإسبانيا وألمانيا، كذلك قدم هو من مصر تمامًا كما قدم جورج شحادة من لبنان وجويس منصور من مصر أيضًا”.


ضفة ثالثة

بالعربيّة

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى