سينما ومسرح

فيلم “حانة العطاء” .. مرافعة عن دور الكتب والمدرسة في المجتمع

ما مستقبل الحفيد حين يسكن بيتًا فيه روايات، وجَدّ سخي حكيم؟ يصبح كاتبًا، وقد تقتبس سيرته لتصير فيلمًا. يمزج فيلم “حانة العطاء/ The Tender Bar”، من إنتاج (2021)، للمخرج جورج كلوني، السينما والأدب، باقتباسه لمذكرات عن كاتب مبتدئ.


وكل ذلك حيلة فنية ليقدم نظرة عن أميركا السبعينيات من القرن الماضي بعين طفل، نظرة خاطفة لأميركا من خلال واقع عائلة ممتدة في ضاحية فقيرة في ولاية نيويورك… نكتشف المرحلة في البار، من خلال التعاليق الموجزة والعميقة والساخرة لعشاق الكأس…

بار ديكنز يخدم فيه بارمان يطالع كثيرًا، ماهر في فضح السيكولوجيا السوقية، ولكن ليس لديه شهادة جامعية، بارمان يستقرئ الزبائن من طريقة إمساكهم للكؤوس والسجائر والنقود.

فيلم عن الكتابة مقتبس من سيرة كاتب مبتدئ. الدرس: تريد أن تكتب، أكتب عن ما تعرف. وأفضل ما تعرف هو ما عشته. يقول ماريو فارغاس يوسا: “إذا لم يكن في حياتك ما يستحق الكتابة عنه، فالخلل فيك لا فيها”.

فريق العمل في فيلم “حانة العطاء” 

إن الكتابة هي جدل خذ وهات بين المطالعة والتجربة. لا نولد موهوبين، بل نصير موهوبين بمطالعة الكتب.
الصراع الرئيسي في الفيلم هو صراع البطل مع نفسه لتحقيق أحلامه… انه صراع داخلي أكثر منه صراع مع من حوله… يعيش صحبة الكتب، يسمع أن من يطالع كثيرًا يصير كاتبًا، المشكل أن الكاتب يحتاج مهنة يعيش منها إلى أن تباع كتبه.

 

 

فيلم مقتبس من سيرة ذاتية. توفر الكتب عن الذات تفاصيل كافية لينتقي المخرج الذي يقتبس التفاصيل الأكثر دلالة، ويحذف التفاصيل التي يمكن أن تتسبّب في زحام السرد… تنجح السير الذاتية حين تقتبس للسينما، يتلقى الكاتب الشاب نصيحة: أكتب وعينك على الموضة الآنية…

في انتظار بيع كتبه، يعيش الطفل على حساب جده. ليس كل من ينجب طفلًا واع بالعبء الذي يتعين عليه تحمله لوقت طويل. التفكك العائلي في أوجه. لا يختار الفرد أباه، فهل ستقبله كيفما كان؟

كان الجد صمام أمان لأحفاده المشردين، لكن الجد مُنهك صحيًا، لذلك يحتاج طفل في السابعة إلى من يحدث ويجيب عن أسئلته… من يستطيع أن يعوض الأب؟
ـ الخال.

يقال: من جاع ليستنجد بخاله، ومن تعرض للظلم، ليستنجد بعمه.
قدم الخال (أداء بن أفليك) أداء متميزًا، أداء يعبر بالمتفرج من كل العواطف، أداء بسيط مقنع على حدود السهل الممتنع. ممثل يملأ مركزه فلا يترك فراغات في الدور، ممثل صنع المعنى والبهجة بالجسد لتقليل وزن الكلام…
كيف يجعل الممثل ظاهره يخبر عما في وجدانه؟ حين يفهم الدور ويتقمصه فيصل إلى تناسق حركة اليدين والعينين أثناء الأداء والحوار.

في الفيلم اشتغال دقيق على الصورة لتكون معبرة عن المرحلة التاريخية… تم تقديم وقائع بسيطة، تتطور الأحداث في بيئة محلية مغلقة محدودة الأفق. يكتشف المتفرج أن الأحداث آخذة في التراكم تدريجيًا، تتراكم لتصير وضعية الطفل أكثر تعقيدًا، لأن والديه فاشلان… لكن صحبة الكتب تنقذه وهو الذي يحدق في شخصيات الروايات أكثر مما ينظر في شخصيات أسرته.

في السيناريو وحدة في المادة والموضوع والطريقة. كيف تشد انتباه المتفرج إلى نقطة محددة؟ بتحرير الصورة والمعنى من الزوائد، باقتصاد السرد عن حياة.

يقول روبير بروسون: “نحن نخلق ليس عن طريق الإضافة، بل بالحذف” (في “كياروستامي عباس، سينما مطرزة بالبراءة”، ترجمة وإعداد أمين صالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 2011، ص106). هذا هو تحدي التعبير عن الوعي الفني.

ما الذي ينبغي حذفه للوصول إلى السهل الممتنع؟ حذف اللقطات الزائدة في الأفلام، وحذف التمريرات الزائدة في الأفلام. يقول رولان بارت في كتابه “الغرفة المضيئة، تأملات في الفوتوغرافيا” (ترجمة هالة نمّر، المشروع القومي للترجمة، 2010) ص42: “التفاصيل الزائدة تقطع القراءة”، وكذلك في الأفلام، الإطناب مضر بالصورة، مضر بأناقة المعنى.

إن هاجس قول كل شيء قد يقود إلى قول لا شيء.
لتجنب العموميات والزحام في الصور استخدم المخرج عددًا قليل من الشخصيات التي تقوم بعدد محدود من الوظائف… المهم في مركز الصورة، في مركز الشاشة.

عرض كلوني، وهو الممثل الذي نجح في أن يتحول إلى مخرج ناجح، شخصيات محلية قليلة تحلم بالانعتاق من المكان الهامشي الذي ملته وتهرب منه، وقد تفشل مغامرة الفرار فتعود إلى المكان الهامشي مضطرة، شخصيات قليلة منتقاة لتمثل البيئة التي يعيش فيها الطفل. نرى في الفيلم أبناء أميركا الخلفية، فقراء يحلمون بالقفز إلى طبقة أعلى، والسلم هو شهادة جامعية من مؤسسة جامعية مرموقة تسمح لهم بتحمل تكاليف العيش في المدن الكبرى.

هذا الفيلم هو مرافعة شرسة عن دور الكتب والمدرسة في المجتمع في زمن فيروس كورونا الذي أضر بالمستوى التعليمي بأطفال الطبقة الفقيرة، وبالتالي أضر بمستقبلهم.


ضفة ثالثة 

محمد بنعزيز

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى