ما لم يقله فيلم “بطل العالم” على هامش الشطرنج
الممثل كونستانتين خابينسكي في دور فيكتور كورتشنوي (يمين) والممثل أندريه يانكوفسكي في دور أناتولي كاربوف في فيلم “بطل العالم” (يوتيوب) |
بعد ثلاث سنواتٍ، سيكتب كاربوف، الذي فاز في تلك المباراة بنتيجة (6 ـ 5) كتابًا بعنوان “In Far Baguio”، يتحدّث فيه عن تصرفات كورتشنوي الفاضحة أثناء البطولة، وعن “الاستفزازات” التي ارتكبتها صديقته ومديرة أعماله الهولندية بيترا لييفيريك (كنية زوجها الثاني ـ الهولندي)، زاعمًا أنّها دسّت لأعضاء الفريق السوفييتي الكتاب الممنوع في الاتحاد السوفييتي “أرخبيل غولاغ / The Gulag Archipelago” (رواية للكاتب المنشق ألكسندر سولجنيتسين عن عمليات القمع في البلاد خلال الفترة 1918 ـ 1958).
بالطبع، لو عرف معجبو كاربوف أنّ بيترا هذه قد اعتقلت بعمر 17 من قبل وزارة الداخلية السوفييتية، ووجهت لها تهمة “التجسس”، لتمضي 20 عامًا من حياتها في معسكرات الاعتقال، فإنّ هؤلاء المعجبين لن يستغربوا تصرفاتها إطلاقًا. كانت بيترا تكبر كورتشنوي بثلاثة أعوام: وعندما تعارفا، كان كورتشنوي قد بدأ للتو حياته في عالمٍ جديد غير مألوف، ولكنّه مألوف تمامًا بالنسبة لبيترا هاين المولودة في فيينا، التي انتقلت بعد انتهاء الحرب إلى لايبزيغ في آب/ أغسطس من عام 1945.
التحقت الفتاة بالجامعة، وغدت عضوًا في تنظيم الطلبة الكاثوليك، ولكنّها اعتقلت بعد عامٍ واحد أثناء عودتها إلى بيتها في المنطقة الخاضعة للسوفيييت في العاصمة النمساوية، لتواجه تهمة التجسس لصالح الولايات المتحدة الأميركية. بعد ثلاثة أيامٍ من الوقوف على كاحليها المغمورين بمياهٍ باردةٍ لدرجة التجلّد، وقّعت بيترا على اعترافاتها مكتوبة باللغة الروسية، التي لم تكن تفهم منها كلمةً واحدة. تعلّمت بيترا اللغة الروسية في معسكر “فوركوتينسك”، حيث قضت 10 سنواتٍ تشكّل نصف مدة الحكم الصادر في حقّها.
كتب السوفييتي سابقًا، والهولندي الجنسية لاحقًا، الأستاذ الكبير في الشطرنج غينادي سوسونكو: “بالنسبة لكورتشنوي، بيترا ليست صديقة وحسب (تزوجا رسميًا عام 1992)، هي سكرتيرته، ومديرة أعماله، ومدبرة المنزل، وسائقه، وحارسه الشخصي. بالإضافة إلى ذلك، قامت بأعمال المستشار الضريبي والمحامي، وحتى مساعدة التوقيت في بطولات بطل العالم الشطرنج… “.
كلّ هذه التفاصيل لم ترد في كتاب كاربوف، كما لم يتناولها فيلم “بطل العالم”، الذي صوّر بأسلوبٍ وطني تحت شعار “العالم كلّه ضدّنا.. ولكننا منتصرون”.
في الفيلم، تظهر طائرات مروحية غامضة تحلّق فوق الفيلّا التي ينام فيها كاربوف مسبّبةً له القلق، بحيث لا تسمح له بالنوم. من جانبها، تطلّ بيترا لييفيريك من بين الجمهور إطلالةً مستفزّة. غير أنّ كلّ هذه الجهود ذهبت هباءً، لأنّ بطل الفيلم الرئيس (كاربوف) يعرف أنّ الوطن السوفييتي كلّه يسانده.
قال أحد أعضاء الوفد السوفييتي وهو يقرأ برقيات التحية والدعم: “البلاد كلّها معنا، بمن في ذلك الصيادون، ومربو الماشية!”. من جانبٍ آخر، يُظهر الفيلم أناتولي كاربوف رجلًا لطيفًا، واضح الكلام، ثابت النظرات، يمتلك أعصابًا قوية. وهو، أيضًا، أبٌ رؤوف، ولديه فتاةٌ محبوبة يجافيها النوم قلقًا على والدها عندما يلعب مباراة شطرنج. ببساطة، لم يترك الفيلم للمشاهد أيّ خيارٍ سوى حبّ هذا الشخص والتعاطف معه متمنيًا له الفوز.
في الفيلم، لا يحظى كورتشنوي (يؤدي الدور الممثل كونستانتين خابينسكي) بأيّ نوعٍ من التعاطف، بنظاراته القاتمة، وجهازه العصبي المحطّم، من دون التطرق عمليًا إلى سيرته الذاتية.
إنّ إيراد حقيقة واحدة من مسيرة كورتشنوي الشطرنجية، التي بدأها في بيت الطلائع في مدينة لينينغراد المحاصرة عام 1943، كان يمكن أن يعطي بعدًا إنسانيًا لصورته في السينما. ولكنّ فيلم “بطل العالم” لا يدور عن الناس، وربما لا يدور عن الشطرنج. إنّه عملٌ أيديولوجي بامتياز يتمحور حول شعارٍ واحد: “مواطننا.. هو دائمًا أفضل من يواجه الشرّ العالمي”!
أيديولوجيا الفيلم تنعكس بالكامل من خلال قصّةٍ رويت أثناء بطولة العالم للشطرنج عام 1978 تلك. تزعم الرواية، التي نقلها المراسل الصحافي في الشطرنج، ألكسندر روشال، أنّ كورتشنوي “عدوّ الشعب السوفييتي”، وهو الوحيد الذي بقي جالسًا أثناء عزف النشيد السوفييتي، وأنّ بطل العالم السابق، ميخائيل تال، اقترب منه وربّت على كتفه هامسًا “انهض، أيّها الملعون!”.