لقد عملت بما يكفي – “جاك لوك غودار” في حوار أجراه معه “توم ميلن”
ترجمة: فيلابوراتو عبد الكبير
برحيل جان – لوك غودار “مؤسس الموجة السينيمائية الجديدة” في 13 سبتمر 2022 خسر العالم عملاقا سينمائيا فذا الذي أدهش مشاهدي الأفلام واستفزهم بتجاربه السينمائية. وهو الذي أمضى معظم عمره البالغ 91 سنة وهو يتنفس السينما.
استمر حتى آخر أنفاسه تجاربه السينمائية التي حاولت لهدم الأنماط التقليدية الخطية في عالم الأفلام بحيث يتمكن من إعادة كتابة قواعدها الرائجة. ودّع الدنيا بعد أن أبقى لمحبي الفن السابع كنزا ثمينا من روائع أفلامه المتنوعة. وفي هذا الحوار الذي أجرى معه الناقد السينيمائي المشهور توم ميلن(Tom Milne) يوضح غودار مبادئه الأساسية التي إتخذها في إخراج الأفلام وطريقة معالجته الفن السينيمائي:
توم: ثمة إتهام موجّه نحو مخرجي الأفلام من نوع الموجات الجديدة أنهم غير ملتزمين. دع عنك الإلتزام السياسي. ولكن هل تهتم بالإلتزام الفني في أعمالك السينمائية؟
غودار: في بداية مرحلة “الموجة الجديدة” إهتمّ بعض المخرجين بتصوير حفلات مزدانة بمشاهد وحشية. ووضعوا عليها ملصقات “الموجة الجديدة”. ولكن كان ذلك حدثا عارضا. “الإلتزام” كلمة كانت تُستخدم في الغالب بطريقة خاطئة.
إنْ ينتجْ أحدٌ أفلاما تدور حول حياة الطبقة الكادحة أو حول القضايا الإجتماعية ليس من الضروري أن يكون هو ملتزما. إنما يكون ملتزما إذا كان مسؤولا فقط فيما يقوم به. في الماضي كنت أنا أيضا أظنني مسؤولا فيما أقوم به، ولكن بدون وعي كامل بذلك. وعلى مرّ الزمن بدأ أن ينمو شعوري بالمسؤولية أكثر من السابق وبأكمل صورة. وهذا هو الإلتزام الحقيقي.
توم: يبدو أن الهدف وراء أعمالك السينمائية في المراحل الأولى كان استمتاع الفرحة التي تحصل عليها من خلال عملية الإخراج؟
غودار: هذا صحيح. قبل الإنخراط في عملية إخراج السينما أنا وأصدقائي تروفو(FrancoisTruffaut) وشابرول (Claude Chabrol) وإيريك رومر(Eric Romher) جميعنا كانوا من نقاد السينما. ذاك الزمان كنت أحب جميع أنواع الأفلام، الأفلام الروسية والأفلام الأمريكية والأفلام الواقعية الإيطالية وهلُمّ جرا.
وبعد ذلك إتّخذتُ أنا وهؤلاء الأصدقاء قرارا في شأن إخراج الأفلام. وقبل هذا عشت في عالم الأفلام وأنا لا أعرف شيأ عماّ يجري وراء هذا العالم. ومحاولاتي السينمائية في هذه الفترة إختزلتْ في أنشطة رجل متحمس في مجال الأفلام. إنما حاولتُ في هذه الفترة أن أرى كل شيئ بربطها مع السينما بدلا من أن أراها بربطها مع العالم أو الحياة. وقد إبتعدت منها الآن بتاتا.
توم: هل عملك “الحياة التي أعيشها” (Vivre Sa Vie) يُعدّ نقلة نوعية في أعمالك السابقة ؟
غودا: لا، إنما أراها كبداية لها. أعتقد أن هناك عموما نوعان من السينما، الواقعية الوثائقية وفن المسرح.
هناك “فلوهرتي” (مخرج الفلم الوثائقي Nanook of the North) الذي يُمثِّل النوع الأول والمخرج الروسي سيرجي آيزنشتاين الذي يُمثّل النوع الثاني. ولكن في نهاية المطاف هما نوع واحد. لأنّ من يمر على الخطّ الواقعي الوثائقي إنما يصل في النهاية إلى شكل الفن المسرحي.
وكذا الحال لمن يمرّ عبر المخيلات الخاصة بالمسرح أو عبر الأفلام القصصية، يصل هو أيضا في النهاية إلى واقع الحياة. يمكنك التأكد من ذلك من خلال تدقيق أفلام بعض عبقريات السينما.
توم: مثل المخرج السينمائي الفرنسي “رينو”(ٌRenoir)؟
غودار: بالضبط، إنّ رينو نموذج جيد في هذا الشأن. وقد أدى دوره في أحسن صورة بل واعيا بذلك تماما. وصل من الواقعية الجديدة التي تبناها توني (Toni) إلى المذهب الطبيعي. ثم عاد إلى فن المسرح مرة أخرى.
وهو الآن يبحث في التلفاز أقصى حد من البساطة. تلك الأيام ظننت أنني بدأت من الواقعية. ولكنني أتفهم الآن أنني كنت غير واع بذلك قدر ما يكفي حين أقوم بإخراج الفلم “Breathless” (“اللاهث”). ظننت أنه فِيلم واقعي. ولكن الآن يبدو لي أنه مثل “مغامرات آليس في بلاد العجائب”، عالم غير واقعي “سورياليّ” تماما.
فأعتقد أن مفترق الطرق في إخراجي أفلاما أكثر واقعية بدأ تدريجيا من فيلم “فيفرا سا في”، أو إن شئت قل عنها أفلاما أكثر ملموسة.
توم: هل هذا هو السبب لما يوجد في ذلك الفيلم من تأثير “بريخت”(Brecht)؟
غودار: نعم، كنت قد إكتشفت المسرح. كنت أرغب في تصوير رائعة “ست شخصيات تبحث عن مؤلِّفٍ” لـ بيرانديلو. ولكن ثمن الحقوق كان غاليا جدا. أردت أن أقدم للمشاهدين مكانا مشتركا بين الوقعية وفن المسرح. رغم أن لكل منهما مجالات خاصة، ثمة نقاط مشتركة يندمجان فيها.
توم: مرة قال تروفو (Truffaut) إنه سيعتبر فيلمه فيلمًا فاشلا إن كان الجمهور لا يحب ذاك الفيلم. وعملك السينمائي A woman is a woman لم يعجب الجمهور. هل تراه فاشلا؟
غودار: لا أعتقد كذلك. لأن كثيرا من الناس قد أحبه. إن “تروفو” كما يُعرفُ مخرج ومنتج، يعمل تاجرا في النهار بينما يعمل في المساء فنانا.
ولذلك يضطرّ أن يُشغل باله كثيرا في الجمهور. علينا أن نُنتج افلاما تعجب الناس إلى أقصى حد، هذا هو رايي ايضا. ولكن مشاهدي “فيفرا سا في” و Paris Belongs to us لـ جاكوس ريفيتيه (Jacques Revette) يكون عددهم كما تَعرِف أقل من عدد مشاهدي فيلم “بن هور” (Ben Hur).
صحيح علينا أن نتيقن ممّا نصنع من الأفلام أنها للجمهور. الجمهور هم الذين نستهدفهم من خلال أعمالنا السينمائية. حين صنعتُ أفلامي الأولى لم أفكر هل الجمهور يتفهمها. ولكنني الآن سوف أفكر به جادا. إنّ هيتشكوك إذا خالجه شك في أن مشهدا من مشاهد فيلمه لم يفهمه المشاهدون لا يتردد في قطعه من فيلمه.
وفي نفس الوقت علينا المُضيّ قدما من حالتنا الراهنة. لا شك في أن النور سيأتي بعد زمن. علينا التميُّز بالضبط عما نقوم به. لأننا إذا تقدمنا دون أن نبالي مدارك عامة الناس سنخطو خطواتنا إلى متاهات. أعتقد أن المشهد الأول في فيلم “فيفرا سا في” كان ناتجا من فكرة جريئة إخراجية مع أنه يُتيح للمشاهد فرصة قوية لسوء الفهم.
ولكن المشاهد إذا ظهر أمامه مشهد غير عادي سيبذل قصارى جهده ليفهمه. وإنْ فهِمه أيضا ستستمر جهوده لمزيد من الفهم. إنْ عرضنا عليهم مشهدأ يشرب فيه رجل الشايَ أو يُودّع الناسَ سيسألون فورا لما ذا يشرب الشاي؟ لم يعجب المشاهدين عملي السينمائي ” المرأة هي المرأة”. لأنهم لم يفهموا قصدي وراء ذلك الفيلم.
في الحقيقة إنني لم أقصد به شيئا. إذا رؤوا باقة من الأزهار على طاولة سيحاولوا لمعرفة سبب وجوده على تلك الطاولة. قد لا يكون وراء ذلك قصد خاص. كنت لم أقصد من ذلك الفيلم إلاّ أن يستمتع به الناس.
أردت منه تصوير تناقض. العواطف التي لا يلتصق عموما بعضها مع بعض إذ وضعناها جنبا إلى جنب ستكون النتيجة التناقض. هذا ما أردت من ذاك الفيلم، فيلمٌ تتصاعد بمشاهد تختلط فيها السعادة مع الكآبة. هذه حالة لم تتعود عليها الأفلام عموما.
توم: هل لديك إهتمام بالقيام بتحرير أفلامك؟
غودار: حين أقوم بـإخراج فيلمٍ أهتم بثلاث محطات هامة: الأولى منها فترة ما قبل تصويره. والثانية منها خلال تصويره. والثالثة منها بَعد تصويره فعلا. ألمخرجون أمثال “هيتشكوك” سيقومون بترتيب جميع الأشياء تماما حتى اللحظات الأخيرة من تصوير المشاهد.
ولذلك لم تُهمّهم عملية التحرير بقدر مذكور. أماّ فيلمي “Breathless” كانت عملية التحرير فيه مهمّة جدا. كان يجري في نصف ساعته الأولى بسرعة عالية وفي الثانية بسرعة متوسطة وفي الثالثة بسرعة فائقة مرة أخرى.
أفكر على هذه الطريقة فقط قبل إخراج الفيلم مباشرة. وذلك أيضا في شكل متوسط. وأمّا “فيفرا سا في” فلا يوجد فيه تحرير بشكل كافٍ. وُضِعت فيه الصُور بالترتيب، صورة بعد صورة. جميعها مكتلمة بنفسها. والغريب فيه أن عامة الناس يراه فيلمًا تم تصويره بعناية بالغة بأخذ قدر كاف من الوقت.
بينما هو فيلمٌ تمّ تصويره بسرعة فائقة، مثل مقالة مكتوبة بدون تصحيحات لازمة. تم إنتاجه بالتفادي عن تكرار تصوير المشاهد. كنت قد اتخذت قرارا على إخراج الفلم بدون تكرار. بالرغم عن ذلك اضطررت لتصوير مشهد أو مشهدين مُكرّرة. استطعت فيه أن أقوم بما أحتاج إليه بصورة جيدة. إنه فيلم واقعي.
وفي نفس الوقت إذا قاربناه بطريقة أخرى نجده إلى حدّ كبير فيلمًا غير واقعيا. تم إنتاجه بنظام كامل. توجد فيه رسوم عريضة وكثير من مبادئ أساسية. كنت أواجه فيه شخصيات فيلمي مباشرة كالشخصيات في لوحات الفنان “ماتيس” (Matisse) أو “براك”(Braque).
توم: اللقطات الطويلة نادرة في أعمالك السينمائية. هل السبب وراء ذلك رغبتك في أن تكون شخصيات الفيلم بقربك؟
غودار: قد يكون كذلك. عموما أُفضِّل اللقطات المتوسطة. اللقطات الطويلة صعبة. إنْ كانت اللقطات القريبة جيدة ستكون مفيدة. السبب في فشل أفلام المخرج الإيطالي روسسيليني أيضا كان كثرة اللقطات الطويلة المستخدمة فيها.
يُصوِّرأفلامه وهو يعتقد أنها هي العنصر الهام في الأفلام. ولكن الشخصيات في مسافة بعيدة لا يتم تصويرهم جيدا في الفيلم. إنني إنما أُحاول تصوير الشخصيات في أفلامي من خلال ملامح شعورهم الداخلية.
ويمكن المشاهدون من خلالها إستيعابهم والإندماج فيهم. فيلمي الأول ألذي تحتل به مجموعة من الممثلين في المكان المركزي فيه هو “الجنود” (Lse Carabiniers).
توم: هل للإرتجالية أي دور في اعمالك السينمائية؟
غودار: بما أنني أنخرط في العمل حتى لحظته الأخيرة ليس للإرتجالية أي دور في أعمالي. دائما أنا أقوم بالتصوير مبنيّا على المادة المكتوبة سابقا. قد تكون هذه المادة مكتوبة قبل دقيقتين أو ثلاث دقائق من التصوير.
وممثلوا أفلامي غير مستعدون مسبقا لأداء أدوارهم. كان الفيلم ” المرأة هي المرأة” إستثناءا من ذلك، لأنهم استعدوا لذلك قليلا. في اللحظات الأخيرة أكتب المادة. ولذلك لا يتوافر لهم قسط من الوقت للإستعداد.
لأنني لست مخرج الممثلين مثل “رينوير”(Renoir) أو “كوكور” (Cukor) الذان يعصران فن التمثيل الأمثل من النجوم السينمائية بعد تدريبهم أحسن التدريب. إن بداية “فيفرا سا في” كانت من نقطة أختتام “اللاهث” (Breathless).
نرى الممثلة “باتريشيا” في “اللاهث” في أكثر الأحيان من وراء ظهرها. إنما تواجهنا في صورتها الكاملة في الفيلم مرة واحدة فقط. ولذلك قرّرت أن أبدأ “فيفرا سا في” بحيث يرى المشاهدون البنت فيه من وراء ظهرها. لما ذا؟. مجرد فكرة خطرت في بالي، هذا ما أعرف عنه، ولذلك لم أستطع أن أشرحه للممثلة “أناّ”.
وهكذا بدأتْ “أنّا” أن تلعب دورها في الفيلم. ظللتُ أبدِّل قراراتي كي تمثل “أناّ” وغيرها بموجبها.
توم: ما هي خُطتك المستقبلية؟ هل إتخذت أي قرار في هذا الشأن؟ كمخرج سينمائي كيف ترى أن تنطلق إلى الأمام؟
غودار: على كل حال قد عملت بما يكفي. قد قمت بإخراج أربعة أفلام خلال ثلاث سنوات. وقد تعبتُ. أُريد أن آخذ قسطا من الراحة إلى فترة. وما يقلقني الآن أنني لا أفكر الآن في السينما شيئا. هل هذا لمصلحة أم لمفسدة؟ لا أدري.
عند إخراج “اللاهث” إضطررت لتصوير لقطة تخص الممثلة “سيبرغ” على طريقة سينمائية كاملة بحيث يأتي رأسها في زاوية بشكل منضبط. ذاك الوقت كان قد أقلقتني شكوك في ضبط تلك الزاوية. ولكن الآن لا يقلقني كون الشيئ سينمائيا أو غيرَ سينمائي. وفي الحقيقة لا ادري هل هذا جيد أم لا.
V. Abdul kabeer
“”Arunima””, P.O.Marikkunnu
Kozhikode- 673012, Kerala
INDIA,091 9074318223(M)