الترجمة والتعدد اللغوي والثقافي مابعد بابل
- تقديم
تعبر حكاية بابل في المجتمع القديم لبلاد الرافدين عن إشكالية ميلاد التعدد اللغوي و الترجمة، بحيث تشير إلى مدينة بابل العظيمة التي كانت تتكلم لغة واحدة، وسكانها يتواصلون بها في حياتهم اليومية بشكل جيد. لكن حين بنوا برج بابل العالي تعبيرا عن طموحهم نحو اكتشاف السماء، انهار البرج و تعرضت ألسنتهم “للبلبلة”.
وأصبحوا يتكلمون عدة لغات؛ جعلت من الترجمة أمرا ضروريا قصد الحوار والتواصل بينهم. وستعرف المجتمعات الإنسانية فيما بعد صراعات وحروب، زادت من حدة الفرزالحضاري و الثقافي واللغوي المتعدد والمختلف. جعلت من الترجمة أداة أساسية لتقريب الغريب والتعرف عليه، لغة وفكرا وثقافة قصد التعايش و التنافس والتطور والوصول إلى الريادة.
- 1- التعدد اللغوي و الثقافي ما بعد بابل
يقول جاك دريدا في كتابه “أبراج بابل” :” اللغة التي تعني بابل محالة على هذا الكم الهائل وحتى المتنافر من اللغات جراء الصراعات التي غيبت المكان داخلها.” إن اللغات تبحث دوما عن ريادتها العالمية بالتواصل و التنافس فيما بينها، عبر العصور، وبسط سيطرتها على باقي المجتمعات، خدمة لثقافتها وحضارتها. وتكون اللغة قوية و غنية كلما كانت حاملة للفكر والعلم والمعرفة، وتلقى الاهتمام المتواصل من طرف الناطقين بها.
في هذا السياق، يعطي جاك دريدا أمثلة للتنافس المحموم بين اللغات الأوروبية بين الإغريقية واللاتينية. وبعد ذلك بين اللغات الأوروبية كالايرلندية والفرنسية والألمانية والاسبانية. كما يوضح كيف عمل الغزاة الأوربيين على إبادة اللغات والثقافات المحلية للسكان الأصليين للقارة الأمريكية بحيث يقول :” إن عملية الغزو المستمرة انطوت على كيفية تطويع قارة بأكملها وتنحية لغاتها الأصلية بالكامل.
إلى جانب دمهم من خلال لغاتهم، والمعرف بهم طارئين على التاريخ الذي يحمل الطابع الأوربي، وما في ذلك من استمرار النزعة الاحتوائية، وجعل الترجمة في اتجاه واحد غالبا، والذي يتجاوب مع التقديرات الأوربية، وإلزام السكان الأصليين بالتحدث بلغة الغزاة، ليتسنى لهم البقاء ولو في ظلهم.”.
هذا الوضع، يبين ما آلت إليه المجتمعات البشرية ما بعد بابل، حين تعددت لغاتها وتبلبلت. وأصبح الصراع والحروب آلية من آليات السيطرة والهيمنة على الآخر، وإخضاعه قصد النهب والاستغلال سواء في العصور القديمة أو الحديثة من خلال الحملات الاستعمارية وما أفرزته من ظلم واضطهاد.
أدت إلى تباعد الدول والشعوب بثقافاتهم ولغاتهم. وبذلك تعمقت الجراح بالكراهية والعنصرية بين الأفراد والمجتمعات وبين الأنا والآخر. إذ زاد التباعد حدة وتقلص الحوار والتواصل بسبب المركزية الأوربية وما أنتجته من أزمات؛ عرقلت إمكانية إرساء أسس السلم والعدل والتضامن الإنساني.
لكن الترجمة الحقيقية و الهادفة كانت دوما تساهم في بناء عالم ممكن، مبني على التعاون والمصالح المشتركة بين الدول و الشعوب، لإرساء أسس العيش المشترك، اعتمادا على التواصل بين اللغات والثقافات و مد جسور الحوار، من أجل التقارب و التفاهم مع الآخر، مع الحد من الانغلاق والتمركز على الذات و ما يحدثه من تباعد و كراهية وعنصرية بين الدول والمجتمعات.
- 2- الترجمة ما بعد بابل
لقد أصبحت للترجمة أهمية قصوى في التقريب بين الدول والمجتمعات ما بعد بابل. كما ساهمت في التقريب بين لغاتها وثقافاتها بالحوار والتواصل وتدبير الاختلاف. وهذا العمل يفترض الاعتراف والإنصاف لتجاوز جراح الماضي، بنبذ الكراهية والعنصرية والتركيز على ثقافة العيش المشترك، في إطار من التكافؤ اللغوي والثقافي؛ يرسي علاقات متوازنة، متحررة من السيطرة والهيمنة والإقصاء المتبادل.
بهذا الشكل، تستوعب الترجمة درسها التاريخي والقيام بدورها الريادي في تغيير العالم نحو الأفضل وتصحيح انحرافاته وبناء المجتمع الإنساني المنشود.
يقول جاك دريدا في كتابه ” ما بعد بابل ” : ” إن الحصاد الاعتباري والجمالي نفسه لفعل بلبلة الألسنة وما وجه به البشر حينذاك، على صعيد علم الاجتماع البشري يضفي على البلبلة بعدا ارتقائيا، إذ لولا هذه البلبلة لما عرف الاختلاف أصلا، لولا البلبلة لما أدرك البشر أنهم في نطاق ما هم عليه”.
لقد شكلت الحضارة البابلية تقدما وازدهارا في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية والقانونية. وضمت لغات وثقافات متعددة جعلت من الترجمة ضرورة ملحة للتواصل اليومي وأثناء السفر والمعاملات التجارية. وهو ما عبرت عنه المآثر التاريخية التي تؤكد أن بلاد مابين النهرين تعتبر مهد الحضارة الإنسانية باختلاف لغاتها وثقافاتها.
إن بلبلة الألسنة أدت إلى صراع اللغات والثقافات والبلقنة؛ جعلت من الترجمة الحل الممكن في التواصل بين اللغات والثقافات و بين الأنا والآخر، وتقريب المسافات بين مختلف الحضارات : الإغريق، الرومان، الحضارة العربية الإسلامية ، الأوربية والأمريكية و الأسيوية.
وفي السياق العربي الإسلامي، عرفت الترجمة تطورا وازدهارا، حيث استطاع المجتمع العربي في العهد الأموي والعباسي أن يحقق نهضته الفكرية والعلمية، اعتمادا على ترجمة الكتب الفلسفية والعلمية لفلاسفة الحضارة اليونانية.
وقد وصل كل من ابن رشد وابن سينا والرازي والفارابي أوج إبداعهم بإسهاماتهم المعرفية في مختلف ميادين المعرفة والعلم، من فلسفة ومنطق والرياضيات والطب والهندسة. كما استفاد الفلاسفة والعلماء العرب بدورهم من ترجمة المعرفة الفلسفية اليونانية في العهد العباسي بشكل رسمي، بإنشاء ” بيت الحكمة ” في بغداد في القرن الثامن الميلادي. و اشتغل المترجمون على إنجاز الترجمات في مختلف الميادين العلمية والفكرية.
وكذلك تدريس وتكوين تراجمة تحت إشراف حنين ابن إسحاق. فازدهرت الترجمة نظرا لتوسع الدولة العباسية على حساب عدة دول وثقافات، منها الفارسية والهندية، بلغاتها المتعددة والمختلفة. جعلت من الترجمة والتواصل حتمية فكرية واجتماعية واقتصادية وسياسية، قصد التواصل وتدبير الاختلاف بين الثقافات في المجتمع العربي الإسلامي للدولة العباسية.
وفي السياق الأوربي، تمكن المجتمع الأوربي من حمل مشعل المعرفة والعلم بفضل ترجمة الكتب الفلسفية والعلمية العربية إلى اللاتينية، بمدرسة طليطلة للترجمة بالأندلس في القرن الثاني عشر الميلادي.
وقد تأسست هذه المدرسة خلال حكم ألفونسو السابع (1126-1157م). كما يعود الفضل في تأسيسها، أيضا، إلى كبير الأساقفة في طليطلة دون رايموندو مارتين آنذاك. وشملت الترجمة مختلف المجالات العلمية من علوم الفلك والهندسة والطب والكيمياء والفيزياء، وكذلك الفلسفة والمنطق والرياضيات.
ومن بينها كتب ابن سينا و ابن رشد وبداية العقلانية الأوربية، لاحقا، مع رونيه ديكارت الذي اعتمد على عقلانية ابن رشد لصياغة مشروعه الفلسفي العقلاني الذي اتخذ من الشك المنهجي كأداة للوصول إلى الحقيقة، مرورا بفلسفة عصر الأنوار في القرن الثامن عشر و تطور العقلانية كتصور فلسفي. إذ أصبح العقل الأوربي يطرح أسئلة التطور والتقدم بأبعادها الفكرية و الاقتصادية والسياسية والقانونية والاجتماعية.
- 3- الترجمة و جدلية التفكيك والتأويل للغات و الثقافات
يعتمد تصور التفكيكية للترجمة على رؤيتها للنص. ويرى جاك دريدا أن : ” كل نص أدبي هو في خلاصته تأليف لعدد من الكلمات، والكلمات هذه سابقة للنص في وجودها.
كما أنها قابلة للانتقال إلى نص آخر، وهي بهذا كله تحمل معها تاريخها القديم والمكتسب. ومن هنا جاءت التفكيكية لتؤكد قيمة النص وأهميته. وأنه محور النظر ولا وجود لشيء خارج النص، ولأن لاشيء خارج النص فإن التفكيكية تعمل من داخل النص، لتبحث عن الأثر وتستخرج من جوف النص السيميولوجيا المختفية فيه والتي تتحرك فيه كالسراب.”
ويلتقي تصور جاك دريدا مع تصور رولان بارت من حيث إعادة الاعتبار للنص في علاقته بالمتلقي وقراءته مع ما يتطلب ذلك من فهم وتفسير وتأويل لإعادة بناء المعنى والكشف عن دلالات العلامات اللغوية.
لذلك فقضايا تأويل النص مركبة ومتعددة، لأن المترجم يجد نفسه أمام تحدي حجم التأويل وسمكه وأبعاده وأشكاله الذي يفرضه النص. وأيضا تفرضه قصدية المتلقي، وكلها تحديات وعوائق تقف أمام الفهم العميق للنص من أجل تفكيكه و ترجمته.
والتفكيك هو تأويل مضاعف ومتعدد يتوخى الإمساك بأبعاد النص بمختلف بنياته الدلالية بمنهجية جدلية تنفذ إلى المعنى العميق والمتعدد و الكامن في البنية العميقة للنص، وربط المتحقق بالضمني. كما أن المعنى يكشف عن نفسه داخل السياق الذي تتحكم فيه فرضيات القراءة والفهم والتأويل، في علاقة مع الإحالات للوصول إلى المعنى بهدف ترجمته في اللغة الهدف.
و قد حاول جورج مونان، من جهته الإجابة عن إشكالية الترجمة الأدبية قائلا :” إن الأمانة في الترجمة الشعرية لنص ما ليست في الحقيقة أمانة آلية لجميع المشكلات المعنوية، وليست أمانة نحوية أو قواعد آلية، وليست أمانة للجمل والعبارات مائة في المائة وليست أمانة علمية لصوتيات النص : بل هي الأمانة لشاعرية هذا النص”.
وهذا يعني أن دور المترجم يكمن في فهم اللغة وشعرية النص الشعري و ترجمة المعنى في اللغة و الثقافة الهدف. وحسب جورج مونان لا يجب ترجمة الكلمات الخالية من المعاني بل الكلمات التي تعبر عن الأفكار الرئيسية. كما لا يمكن ترجمة جميع التراكيب النحوية في القصيدة والاكتفاء بالتراكيب التي لها قيمة تعبيرية وشعرية.
ويقول بول ريكور في كتابه ” عن الترجمة ” : ” تقودني هذه الاعتبارات إلى القول بأن مهمة المترجم لا تمرّ من الكلمة إلى الجملة، إلى النصّ، إلى المجموع الثقافي، بل على العكس : يعيد المترجم النزول من النص إلى الجملة وإلى الكلمة منغرسا بواسطة قراءات موسعة لفكر الثقافة.
ويتعلّق الفعل الأخير، إن جاز القول، أي القرار الأخير، وضع مسرد مصطلحات على صعيد الكلمات؛ فاختيار هذا المَسرد هو آخر اختبار حيث يتبلور على نحو دقيق ما يجب أن يكون استحالة ترجمة.” و يرى الباحث إيدمون كاري أن الترجمة التي تبدو، في فترة من الفترات، ترجمة استنساخية، قد يتم طرحها جانبا، بعد مضي خمسين سنة من وضعها، بدعوى خيانتها للأصل.
ومن جهته، يقدم لنا جاك دريدا في كتابه ” أبراج بابل ” تصوره للغة و الترجمة في علاقتهما بالفهم، بحيث يقول “: لا تكون اللغة إلا حيث يكون الناس. وبقدر ما يكون هؤلاء متوادين، أي يلتقون على حب ويفترقون على حب، تمارس اللغة في توطيد العلاقات… وحين يتم التركيز على دور الفهم، في بناء علاقات سليمة بين الناس و الشعوب و الأمم و الأفراد والجماعات، فإن في قلب الفهم يكون المفتاح السحري “الترجمة”، فلا ترجمة إلا حيث يكون الفهم.
إذ على مقدار الفهم تحضر الترجمة، وكل كلمة، كل عبارة، كل نبرة، تنبض بحياة ما تخص الآخر، كما أنها تشير إلينا. وعلى قدر الفهم تسهل عملية الترجمة، ومن هنا كان الربط بين الترجمة والفهم، وكل الأعمال الكبرى في الأدب والفن والفكر وحتى مساعي العلماء، إنما قامت بغية إبراز دور الفهم في التقريب بين الناس …”.
بهذا الشكل، واعتمادا على الفهم و التفسير والتأويل، يمكن للترجمة المساهمة في التواصل العلمي و الثقافي والحضاري بين الشعوب، لتحقيق النهضة الفكرية والعلمية و التقدم والازدهار. وخصوصا حين تتوفر الإرادة الفعلية للنخب المثقفة للنهوض بالبحث العلمي والاجتهاد، قصد بناء وتطوير المعرفة والعلم عبر سيرورة متواصلة الحلقات، تجمع بين النظرية والتطبيق لخدمة المجتمع في مختلف الميادين من هندسة وطب وفلك ورياضيات والعلوم الإنسانية.
- خاتمة
لقد أصبحت للترجمة أهمية قصوى في التقريب بين الدول والمجتمعات عبر التقريب بين لغاتها وثقافاتها، بالحوار والتواصل وتدبير الاختلاف. وهذا العمل يفترض بناء ثقافة الاعتراف والإنصاف، لتجاوز جراح الماضي بين اللغات والثقافات، بنبذ الكراهية والعنصرية والتركيز على ثقافة العيش المشترك في إطار من التكافؤ اللغوي والثقافي؛ يرسي علاقات متوازنة، متحررة من السيطرة والهيمنة والإقصاء المتبادل.
بهذا الشكل، تستوعب الترجمة درسها التاريخي والتواصلي والقيام بدورها الريادي في تغيير العالم وتصحيح انحرافاته وبناء المجتمع الإنساني المنشود. و كلما ازدهرت الترجمة وتعددت، كان ذلك مؤشرا ايجابيا لتطور المعرفة والعلم، وعلامة على تأسيس المجتمع العلمي الذي يرتكز على الإبداع والاجتهاد، لتحقيق النهضة الفكرية والعلمية ومعالجة مشاكل المجتمع و مواجهة تحديات العصر.
* المراجع :
1- جاك دريدا. 1985. أبراج بابل. ترجمة صبحي دقوري، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، سوريا.
2 – نفس المرجع، ص. 47
3- نفس المرجع، ص. 48
4 – أحمد عبد الحليم عطية. 2010 . جاك ديريدا و التفكيك، دار الفرابي، بيروت، لبنان.
5 – مونان جورج. 1976. علم اللغة والترجمة، ترجمة أحمد زكريا إبراهيم، المجلس الأعلى للثقافة, الطبعة الأولى، 200
6 – بول ريكور. 2003 . عن الترجمة، منشورات بيار بريس، باريس، فرنسا.
7- جاك دريدا. 1985. أبراج بابل. ترجمة صبحي دقوري، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، سوريا.
8- أمبرتو إيكو. 2016. التأويل بين السيميائيات و التفكيكية. ترجمة سعيد بنكراد. الطبعة الثالثة،. المركز الثقافي العربي
9 – سوزان باسنك .(1980 ). دراسات في الترجمة، ترجمة فؤاد عبد المطلب، 2012 ، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب. دمشق، سوريا.
10- غادمير هانز جورج، فلسفة التأويل، الأصول، المبادئ، الأهداف، ترجمة محمد شوقي الزين، المركز الثقافي العربي.2006.
11- أمبرتو إيكو.(2012) .أن نقول نفس الشيء تقريبا. ترجمة أحمد الصمعي. المنظمة العربية للترجمة. بيروت . لبنان.
12- Paul Ricœur.2003. Sur la traduction. Bayard presse. Paris. France.
Lederer Marianne. (1994), La traduction aujourd’hui, Modèle interprétatif. Hachette 13- Paris, France.
MOUNIN, George. (1963). Les Problèmes théoriques de la traduction, Gallimard 14-
15- GUIDÈRE, Mathieu. (2008). Introduction à la traductologie, Penser la traduction : hier, aujourd’hui, demain, Bruxelles, De Boeck, coll. Traducto