الدراسات الثقافية

“معرض برارُغ”: مساحة للكتاب العربي في الصومال

يتعرض الكتاب العربي للتجاهل منذ سنوات طويلة من قبل أوساط القائمين على العمل الثقافي الصومالي، مثل تظاهرة معرض هرجيسا الدولي للكتاب، التي تقام مرة في كل سنة، إذ يغيب عنها الكتاب العربي بشكل تام، مما يوحي بوجود سياسة ممنهجة ترفع شعار مقاومة اللغات الأجنبية وإحياء ثقافة محلية، لكن دعوتهم تلك ليست جذرية كحال الكيني واثيونغو الذي توقف عن الكتابة بالإنكليزية منذ السبعينيات، بل تقتصر مقاومتهم اللغوية على تشغيل صافرات إنذار نشاز تحذر من التعريب واللغة العربية حصرًا. فما الأسباب الخفية لتلك المخاوف؟

قبيل ذلك، لنتذكر “التمايز” الحاصل لسكان القرن الأفريقي في تجربتهم، في ما يخص تجارب التعريب التاريخية في أماكن أخرى، حيث أن من وفد إلى القرن الأفريقي من ناشري الإسلام ما لبثوا أن اختلطوا بالسكان المحليين، بدون تغيرات لغوية حقيقية. وبوجه أعم بقي سكان القرن الأفريقي شبه منعزلين عن الحضارة العربية الإسلامية وتفاعلاتها، ولم ينصهروا في مزيج تلك الحضارة ولغتها بعد دخول الإسلام إليهم، على عكس حالات سكان شمال أفريقيا والحواضر الشامية والمصرية وما تلا من سلطات متمثلة بمماليك ترك وكرد وألبان وقفقاسيين من إثنيات مختلفة، امتزجوا جميعا تحت مدنية ولغة واحدة.

  • ماذا يعني الكلام اليوم عن “تعريب” حديث؟

يتعلق سجال التعريب الذي يثار من فينة لأخرى بمسألة انضمام الصومال (في تجربة الوحدة) لجامعة الدول العربية، وبحسب ما يلاحظ الباحث والشاعر الصومالي، محمود محمد، في مقال له موسوم بـ”لا يمكن الحديث وادّعاء الاستماع في آن.. إنها المسألة الصومالية يا صديقي”، فإن هذا الانضمام إلى الكيان السياسي العربي ينضوي على تناقض بنيوي، فبالإضافة إلى شرط مؤسسة الجامعة بأن تكون الدولة العضو دولة أغلبية سكانها تتحدث باللسان العربي، راح النظام الاشتراكي في منحى آخر في فترة الانضمام إلى الجامعة العربية، وتبنّى سياسة قومية لغوية، إذ بدأ في حينه موجة صوملة المناهج الدراسية وكذلك الإعلام وترجمة الكتب، واعتمد في حينه تدوين اللغة الصومالية بالحرف اللاتيني، واستبعد الحرف العربي من الكتابة الصومالية، والذي كان من شأنه أن يضيف على تماسك ثقافي أكبر مع العالم العربي.

يخلص محمود محمد في مقالته تلك إلى أن ما وراء الانضمام إنما كان بحثاً عن وهم ما، عن أمن ما مفترض مشترك، بل أكثر من ذلك، كان الأمر ضرورة براغماتية لما يسمى نظريًا بالأمن القومي العربي. ويكتب محمود معلقا: “سعى النظام الدكتاتوري الصومالي مع المنظومة السياسية العربية، إلى خلق مقاربة مختلفة لذلك الارتباط القديم بشكله المستحدث، في سبيل البحث عن مخرج من الحصار الذي كان فيه الصومال، نتيجة للتقسيم الذي على أساسه تم استقلال البلاد، بحيث لم يكن يجد المحللون العرب أي غضاضة في الحديث عن الانضمام الصومالي للجامعة العربية، كضرورة براغماتية محضة تحقق حدًا أدنى من الإيجابيات في سباق جمع الأوراق التي يمكن استخدامها أمام (دول الجوار بالنسبة للصومال) و(الكيان الصهيوني والغرب بالنسبة للعرب)، في حال تصاعد الأوضاع وتم الاحتياج إلى ذلك”.

  • أسلمة أم تعريب؟

يجد أصحاب التوجه الرافض للتعريب موجات الأسلمة والأخونة والوهبنة، التي عملت على تجفيف كل ما له علاقة بإسلام محلي، مطية لتنميط العربية وثقافتها، وحصرها على تلك المتداولة في الفضاء الديني.

وهنا من المفيد أن نورد ملاحظة للفرنسي أوليفييه روا في معرض حديثه عن السياسات اللغوية للتيارات الأصولية والسلفية في العالم المسلم غير العربي، تشير إلى أنهم يستخدمون اللغة العربية كمَعْلَم ديني ينفع في ضبط إيقاع الخطاب بلغتهم الأجنبية، وهم يخلطون تعابير وجملا غير مترجمة.

لكن لنسأل: ماذا كان أشكال حضور العربية في الصومال، قبل عصر السلفية؟ لا شك في أنها هي الأخرى كانت ترتبط بشكل جوهري بالدين، فالعربية لغة القرآن، والقرآن مكتوب باللغة العربية، إنها إذن لغة المقدس، لغة الإنشاد الشعري والمدح النبوي. في خارج ذلك، لن نجد غير اهتمام علماء الصوفية في تدارس اللغة العربية وفنونها، من نحو وصرف إلى آخره.

وحتى نعود إلى الجدل المنتشر حاليا عما إذا كانت هنالك توجهات رامية للتعريب، يتبين لنا أنه ليس ثمة شيء من هذا القبيل، بل إن الأمر برمته مجرد إشاعة تتكرر بسبب إرجاع اللغة العربية إلى خاصيتها المقدسة، وبالتالي إبقائها لغة دينية غير دنيوية. وبالتالي يسود سوء تقدير لمكانة اللغة العربية وآدابها، والترجمات الحديثة التي تصلها من شتى حقول المعارف.

  • المعرض الأول للكتاب العربي

تختلف تصورات جيل الشباب عن الجيل الأقدم منه والمتأثر برؤى التيارات السلفية، سواء بالتسليم أو الرفض، إنه جيل واعٍ لضرورة الانفتاح على العربية، ليس بدافع الفضول العلمي فحسب، وإنما أيضًا بدافع الضرورة ومن أجل أن يستمر في البقاء، وهو في ذلك يخالف القارئ العربي الذي بإمكانه أن يستغني عن الإنتاج الأدبي الصومالي من غير كبير خسارة. إنها حالة معكوسة عن حال القارئ العربي والقارئ الأوروبي، كما كتب في إحدى المرات عبد الفتاح كيليطو.

وفي بادرة هي الأولى من نوعها، انتظم في يومي الرابع والخامس من الشهر الحالي في هرجيسا، عاصمة صوماليلاند، أول معرض للكتاب العربي، تم فيه عرض إصدارات أهم الناشرين العرب، بعد أن تم الشراء والشحن من بلد عربي بجهود شخصية. وقام بهذا المعرض منتدى “برارُغ”، وهو منتدى شبابي يعرف نفسه بأنه مهتم بالثقافة والفكر عامة.

  • ندوات المعرض

شارك بعض الكتاب والباحثين بإلقاء محاضرات عامة في عدة ندوات مختلفة، على مدى اليومين الذي استمر فيهما المعرض.

ألقى الشاعر والباحث، محمود محمد حسن عبدي، محاضرة عنوانها “التاريخ القديم للصوماليين، كيف نقرأ الطروحات المتباينة؟”. وقد طرحنا عليه السؤال حول ما الذي يعيق تقديم تاريخ مستقر للصوماليين حتى الآن؟ وكيف نقرأ الطروحات المتضادة حول ذلك الشأن؟ فجاء رده:

“من الضروري أن نخرج أنفسنا باكرًا من حالة التضاد أو التناقض بين من نحن ضمن مجموع بشري أكبر يمتد – جينيا – جنوبًا إلى جنوب أفريقيا وشرقًا حتى أفغانستان وشمالًا حتى ألمانيا وغربًا حتى موريتانيا، وكذلك من نحن لغويًا من بلاد الرافدين شرقًا حتى المغرب الأقصى ومن سفوح الأناضول حتى سهوب تنزانيا لغويًا، وفي بقعتنا التي تحتضننا بلغتنا الخاصة وتقاليدنا وتراثنا القريب، وبين كوننا كتلة حية تؤثر وتتأثر بالمحيط، وتحمل الحد الأدنى من التميز والفرادة، بحيث يمكننا حين امتلاكنا هذا الوعي المستنير والمتسامح أن ننقل لأبنائنا وأحفادنا تصورنا الأنبل عن أنفسنا، مهما كانت الظروف الآنية التي نعيشها اليوم. إننا نستحق أن نكون ممتنين ومقدرين – دون فخر سطحي – لما نمثله ونكون عليه، دون أن نعرض وجودنا للمساومات التي يفرضها وضع لبنات وجودنا في مهراس صراع مدمر، يهواه من يستذل بمذلة الحصول على الفتات لقاء إقعائه أمام محسن أجنبي يلقي إليه بالفتات”.

من جانب آخر، ولإيجاد حل للعزلة المضنية التي تمر بها الثقافة الصومالية، تحدث الكاتبان، حمدة محمود حسين وليبان عيسى، عن دور الترجمة، والحاجة إليها في الوقت الراهن.

معروف أن الصوماليين ليست لديهم دولة تجمعهم، والصومال المنهار يستعيد عافيته ببطء، ولا يبدو قادرا على الاهتمام بالثقافة، وصوماليلاند هي الأخرى مشغولة بتثبيت أقدامها كدولة مستقلة، أما جيبوتي الأوفر حظا من صوماليلاند بحيازتها الاعتراف الدولي، فهي الأخرى لا تقدم الكثير بهذا الخصوص، فقد اعتمدت قبل سنوات قاموسا مرجعيا للكلمات الصومالية، لكن يبدو غير كافٍ في ظل التطور السريع لكل ما حولنا من العالم.

 

صهيب عبد الرحمن

كاتب من أرض الصومال. مهتم بقضايا الفكر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى