“تيري إيغلتون” وفكرة الثقافة
نشر الناقد البريطاني المتحدر من أصول إيرلندية تيري إيجلتون سنة 2000م كتابا عن الثقافة بعنوان: (فكرة الثقافة)، وأتبعه في سنة 2016م بكتاب آخر عنوانه: (الثقافة)، بهذه الخطوة يكون إيغلتون قد ضم الثقافة إلى حقله الدراسي المشتمل على مفاهيم: النقد والنظرية والنظرية الأدبية والأيديولوجيا والحداثة، ومصطفا إلى جانب أولئك المعروفين بدراسة فكرة الثقافة وتحليل حقلها الدلالي.
ما بين الكتابين المذكورين اللذين يفصل بينهما ما يزيد على عقد ونصف عقد من الزمان، وبعد الفحص والمراجعة وقفت على مجموعة مفارقات لافتة، يأتي في مقدمتها أن إيغلتون وبطريقة غير مفهومة، ونادرة الحدوث، لم يأت قط في الكتاب الثاني على ذكر الكتاب الأول لا اسما ولا تلميحا، ولم يعرف به على غير عادة الكتاب وسيرتهم في التأليف والنشر.
لم يأت إيغلتون على ذكر الكتاب الأول لا تنكرا له وجحودا، ولا انقطاعا عنه وانفصالا، ولا تفاضلا عليه وعلوا، ولا بقصد أن يحل الكتاب الثاني مكان الكتاب الأول ويغطي عليه، أو يكون ناسخا له جزئيا أو كليا، فليست هناك دلائل أو قرائن تشير لمثل هذه الحالات أو توحي بها لا حدسا ولا استنباطا.
والقدر الذي أشار إليه إيغلتون في هذا الشأن، ولم يكن متخيلا بالنسبة إلي، جاء على إثر سؤال وجهه إلى إيغلتون الكاتب الأمريكي ديفيد إيبوني بعد صدور الكتاب الثاني مستوضحا عن: كيف تغير أو تطور مفهومه إلى الثقافة منذ نشره كتابه الأول (فكرة الثفافة)؟ وكانت إجابة إيغلتون: أنه لم يطالع كتابه (فكرة الثقافة) منذ فترة من الزمن، وقد تقصد عامدا ألا يطلع عليه في الوقت الذي كان فيه منهمكا بتأليف كتاب (الثقافة).
المفارقة الثانية، والتي تحتاج إلى تفسير من إيغلتون، هي أن جميع محتويات الكتاب الثاني من قضايا وإشكاليات وجدليات كانت مضمنة وحاضرة بشكل جلي في الكتاب الأول، ليس هذا فحسب، بل لعل ما لم يلتفت إليه إيغلتون وقد يكون محرجا له، أو أنه حدث بخلاف رغبته وتوقعه، أن ما افتتح به الفصل الأول في السطر الأول من كتاب (الثقافة)، هو نفسه تماما ما افتتح به الفصل الأول في السطر الأول من كتاب (فكرة الثقافة)!
ومن أجل المطابقة والبرهان نشير إلى كلا النصين بحسب ترجمتهما العربية، فقد افتتح إيغلتون الفصل الأول من كتابه (فكرة الثقافة) قائلا: (يقال إن كلمة الثقافة هي واحدة من بين الكلمتين أو الكلمات الثلاث التي يكتنفها أشد التعقيد في اللغة الإنجليزية)، ورد هذا النص بحسب ترجمة الكاتب السوري ثائر ديب الذي نشر ترجمة إلى الكتاب في سوريا.
وفي ترجمة أخرى، ترجع إلى الكاتب المصري شوقي جلال الذي نشر ترجمة أيضا للكتاب في مصر، ورد النص على هذا النحو: (يقال إن الثقافة كلمة من بين أكثر كلمتين أو ثلاث تعقدا في اللغة الإنجليزية).
هذا النص نجده حاضرا بتمامه في الفصل الأول وفي السطر الأول من كتاب (الثقافة)، إذ كتب إيغلتون قائلا: (الثقافة مفردة معقدة على نحو استثنائي، فقد شاع إدعاء بأنها المفردة الثانية أو الثالثة في ترتيب الكلمات الأكثر تعقيدا في اللغة الإنجليزية)، رجعنا في هذا النص إلى الكاتبة العراقية لطفية الدليمي التي نشرت ترجمة لكتاب (الثقافة) سنة 2018م.
والتغير الحادث بين النصين، تحدد في أن النص الوارد في كتاب (الثقافة) ذيله إيغلتون بإحالة إلى كتاب الناقد البريطاني رايموند وليامز (1921-1988م) الموسوم بعنوان: (الكلمات المفاتيح)، في حين غابت هذه الإحالة عن النص الوارد في كتاب (فكرة الثقافة).
ومن وجه آخر، انقلبت هذه الصورة بين الكتابين من جهة الإحالة والتوثيق، تحدد في مورد الحديث عن المعاني الأربعة إلى الثقافة، حيث غابت الإحالة في هذا المورد من كتاب (الثقافة)، وحضرت في كتاب (فكرة الثقافة).
فحين أشار إيغلتون في مطلع الفصل الأول من كتاب (الثقافة) إلى هذه المعاني الأربعة التي تقرن بمفردة الثقافة، حددها قائلا: يظل ثمة أربعة معان رئيسة يمكن إقرانها بمفردة الثقافة هي: تراكم من العمل الفني والذهني، الصيرورة التي يحصل بها الارتقاء الروحاني والذهني، القيم والعادات والمعتقدات والممارسات الرمزية التي يوظفها الرجال والنساء في الحياة، الطريقة الكلية المعتمدة في الحياة.
هذه المعاني الأربعة التي ذكرها إيغلتون من دون إحالة ولا انتساب، واتخذ منها موضوعا للفصل الأول من كتاب (الثقافة)، كان قد أشار إليها بتمامها من قبل مع تغير لغوي طفيف في كتابه (فكرة الثقافة) منسوبة إلى رفيقه رايموند وليامز في كتابه الشهير (الثقافة والمجتمع)، ناصا عليها قائلا:
إن رايموند وليامز قد قدم (في كتابه الثقافة والمجتمع أربعة معان متميزة – أو متمايزة- للثقافة هي: الثقافة بوصفها طبعا عقليا فرديا، والثقافة بوصفها حالة من التطور الفكري الذي يصيب مجتمعا كاملا، والثقافة بوصفها الفنون، والثقافة بوصفها طريقة حياة كلية لمجموعة من البشر).
المفارقة الثالثة، حدث فارق بين الكتابين على مستوى الأطروحة كان بحاجة إلى بيان وتفسير، فأطروحة كتاب (فكرة الثقافة) كانت قائمة على أساس تخطي تصورين للثقافة هما: التصور الواسع للثقافة، والتصور الصلب للثقافة، بينما أطروحة كتاب (الثقافة) كانت قائمة على أساس مقاربة مفهوم الثقافة من زاوية المنظورات المختلفة، وهذه الأطروحة الثانية ليست بعيدة من التصور الواسع للثقافة الذي حاول إيغلتون تخطيه في الكتاب الأول.
ولبيان الأمر تثبتا ونصا، فقد تحدث إيغلتون عن أطروحة الكتاب الأول قائلا: (ما يحاول هذا الكتاب أن يبينه هو أننا عالقون في هذه اللحظة بين تصورين للثقافة، أولهما واسع وفضفاض إلى درجة العجز، وثانيهما صارم وصلب إلى درجة الإزعاج، وأن ما نحتاجه أشد الاحتياج في هذا المجال هو أن نتخطى هذين التصورين كليهما).
أما أطروحة الكتاب الثاني، فقد أشار إليها إيغلتون قائلا: (الثقافة مفهوم متعدد الأوجه، الأمر الذي يفاقم صعوبة اعتماد مفهوم موحد بالغ التحديد والصرامة بشأن الثقافة، يضحي هذا الكتاب تأسيسا على الفكرة السابقة بأي شكل من أشكال التوحيد الصارم لما يعنيه مفهوم الثقافة، ابتغاء لمقاربة هذا المفهوم من زاوية عدد من المنظورات المختلفة).
الشاهد أن ما كان يريد إيغلتون تخطيه في الكتاب الأول حول المفهوم الواسع للثقافة، رجع إليه في الكتاب الثاني مرتكزا عليه في مقاربة مفهوم الثقافة من منظورات مختلفة، علما أن إيغلتون في الكتاب الأول قدم مناقشة تحليلية، لكنه لم يتمكن من تخطي التصورين المذكورين للثقافة، التصور الواسع إلى درجة العجز، والتصور الصارم إلى درجة الازعاج حسب وصفه.
المفارقة الرابعة، بدل أن يتجه إيغلتون في الكتاب الثاني إلى التصورات الحديثة المستجدة عن الثقافة، مواكبا لها ومناقشا على طريقته الجادة والفاحصة، بدل ذلك اتجه إلى قضايا قديمة ترجع إلى القرن الثامن عشر الميلادي متوسعا فيها ومسهبا، والمثال البارز على ذلك حديثه الموسع عن الكاتب والسياسي الإيرلندي إدموند برك (1729-1797م) مستغرقا أكثر من اثنين وعشرين صفحة من الكتاب،
مع أنه لم يستعمل كلمة الثقافة بحسب قول إيغلتون نفسه، ولا يذكر أبدا في المناهج الدراسية المتعلقة بحقل الدراسات الثقافية.
لم يكن برك وثيق الصلة بالثقافة فكرة وموضوعا، مع ذلك تقصد إيغلتون توسعة الحديث عنه بذريعة أن ليس من مفكر مثله هضم فكرة الثقافة وتمثلها على نحو رائع، باعتبارها لاوعيا اجتماعيا، ولكي يعطي كتابه نكهة إيرلندية مفارقا بهذه النكهة عن كتابه السابق.
المفارقة الخامسة، جاء عنوان الكتاب الثاني لافتا من جهة صيغته المفردة المتجردة من الإضافة والتركيب متحددة في كلمة واحدة هي: (الثقافة)، بخلاف الكتاب الأول الذي جاء عنوانه مركبا بصيغة ثنائية متحددة في كلمتين هما: (فكرة الثقافة).
توحي هذه المفارقة، كما لو أن كتاب (الثقافة) قد تملك الحديث عن الثقافة، وبه اكتمل الحديث عن الثقافة، ولسان حال المؤلف في مثل هذه الحالة أن يرفع صوته قائلا: هذه هي الثقافة وكفى، ليست لها تتمة ولا إضافة تلحق بها.
هذا ما يوحي به العنوان في جانبه الدلالي، وليس بالضرورة أن يكون دالا على حقيقة مقاصد المؤلف، علما أن إيغلتون خبير بهذا الشأن الدلالي وضليع، لكونه أستاذا للنقد والنظرية الأدبية والدراسات الثقافية، وهي المجالات التي تتصل بها معظم أو جميع مؤلفاته تقريبا التي فاقت أربعين كتابا.
ما دعاني إلى هذه المفارقة ولفت الانتباه إليها، هو أنني وجدت، وأكاد أن أكون جازما، أن الكتاب الأول (فكرة الثقافة) هو أكثر أهمية وقيمة وتفوقا من الكتاب الثاني (الثقافة)، وعند الموازنة بينهما يمكن القول إن الكتاب الأول يمثل المتن متن الكلام في الثقافة، بينما الكتاب الثاني يمثل الهامش هامش الكلام على متن الكلام السابق.
وكان الأصح من إيغلتون أن يعنون الكتاب الثاني إما بعنوان: (مقدمة في الثقافة)، أو (الثقافة: مقدمة) على وزن عنوان كتابه: (النظرية الأدبية: مقدمة)، أو أن يكون بعنوان: (في النقد الثقافي)، أو أي عنوان آخر يتسم بالإضافة والتركيب، لا أن يكون مفردا بعنوان: (الثقافة).
ومع أهمية كتاب (فكرة الثقافة) إلا أن من المبالغة جدا والإسراف، ما ذهب إليه شوقي جلال في مقدمة ترجمته للكتاب معتبرا أن الكتاب (هو بحق إنجيل الثقافة على مشارف القرن الواحد والعشرين، لا نجد عبارة واحدة فيه هي من نوافل القول، وإنما كل فكرة هي مبحث ورؤية لا غنى عنهما للقارئ، فهي تأريخ ونظرة تحليلية، وكشف لزوايا لا تغيب عن مفكر فيلسوف نافذ البصيرة مثل تيري إيغلتون).
هذه مبالغة لا نحتاج إليها، وليست في مكانها، ولعل ضررها أكثر من نفعها بالنسبة إلى الكتاب نفسه، فقد غلب إيغلتون على الكتاب حسه النقدي، وعلينا أن نغلب عليه كذلك حسنا النقدي.
د – زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة.