نقد

“نظرية الأدب” من وجهة نظر “تيري إيغلتون”

تحتل قضية العلاقة المتبادلة بين الشكل والمضمون مكانة خاصة فى نظرية الأدب المعاصرة، وهى لا تزال خلافية. وفى هذا السياق سأنظر فى تأويل الناقد البريطانى تيرى ايغلتون لهذه العلاقة.


يعتبر ايغلتون واحداً من أهم وابرز نقاد الادب فى العالم الناطق باللغة الانكليزية فى العصر الحديث حسب صحيفة العرب اونلاين. من بين الكتب النقدية الصادرة له نذكر على سبيل المثال لا الحصر:


1 ــ الجسد بوصفه لغة، 2 ــ منفيون ولاجئون، 3 ــ وظيفة النقد، 4 ــ النقد والايديولوجية، 5 ــ النظرية الادبية، 6 ــ ضد الذوق وغيرها من الدراسات.


وهنا، سأكتفى بتقديم عرض لفصل”الشكل والمضمون”الذى ورد فى كتابه”الماركسية والنقد الادبي”وذلك لاهيمته من جهة، ومن جهة ثانية لان النقد الادبى العربى المعاصر ما يزال يطرح قضية الشكل والمضمون، ولم ينته حولها النقاش، بل اعتقد انها ما تزال مشكلة كبرى لم تحسم فى المشهد النقدي العربى المعاصر، وتمثل عقبة معرفية امام كثير من نقادنا وطلابنا فى صفوف اقسام الدراسات العليا بالجامعات.


  • التاريخ والشكل

فى البداية نجد ايغلتون يناقش قضية الشكل والمضمون من منظور ماركسى مستعيدا اراء مفكرين امثال هيغل، وماركس وجورج لوكاتش وذلك تمهيدا للمناقشة التى سيجريها فيما بعد. ففى رأيه، فان ملاحظة الناقد الهنغارى جورج لوكاتش التى سجلها عن مفهومه للشكل كانت غير متوقعة منه كمفكر ماركسي.

وتقول الملاحظة: “ان العنصر الاجتماعى حقيقة هو الشكل”ويعلل ذلك بان”النقد الماركسى تقليديا قد وقف ضد كل انماط الشكلانية الادبية، بدعوى انها توظيف لتقنيات تسلب الادب دلالته التاريخية، وتختزله الى لعبة جمالية”.

وبهذا الخصوص يشير ايغلتون الى ماركس نفسه الذى”اعتقد انه ينبغى على الادب ان يكشف عن وحدة الشكل والمحتوي”ولكن ماركس قد حذر من الكتابة الشكلانية المسرفة مبرزا بان”الشكل لا قيمة له اذا لم يكن شكلا للمضمون”.

ويلاحظ ايغلتون ان مفهوم ماركس لوحدة الشكل والمضمون يكشف على نحو واضح”اخلاصه لما ورثه عن التقليد الهيغلي”. حيث ان هيغل حاجج فى كتابه عن”فلسفة الفنون الجميلة”بان”كل مضمون محدد يقرر شكلا ملائما له”.

من المعروف لدى دراسي فلسفة هيغل المثالية ان فلسفة التاريخ والجمال عنده ترتكز على الغائية بمعنى ان الروح المطلق هى الشكل النهائى للحرية، وان الوصول الى تحقيق ذلك يمر بمراحل.

ففى تقديره فانه فى”المرحلة المبكرة للتطور التاريخى فان الروح ــ العالم لا يجد تحققا شكليا ملائما”. وفيما يتعلق بعلاقة ماركس بهيغل يلاحظ ايغلتون بان ماركس لم يتبن جميع اطروحات هيغل الجمالية بل نجده قد قدم نقدا للعناصر المثالية فيها ولكنه من جهة اخرى يشترك معه فى الاعتقاد بان الشكل الفنى ليس مجرد خاصية عند الفنان الفرد.

فالاشكال محددة تاريخيا بنوع المضمون الذى يجب ان تسجده انها تغير، وتحول، وتفكك، وتثور حالما يتغير المضمون نفسه. والمضمون بهذا المعنى ليس سابقا للشكل”. ان هذا الفهم للجمالية الادبية فى رأى ايغلتون يتشاكل مع النظرية الماركسية بخصوص علاقة البنية التحتية بالبنية الفوقية وفقا للمادية التاريخية فان”المضمون المادى للمجتمع، واسلوب الانتاج هما المحددان لشكل بنيته الفوقية”.


  • مقترح غرامشي وألتوسير

وفى السجال الفكرى بخصوص التأثير المتبادل بين البنية التحتية والفوقية نجد انطونيو غرامشى يقترح نظرية راديكالية وتتلخص فيما يدعوه بالكتلة التاريخية المتضادة مع النزعة الاقتصادية المتكئة على النظرية التى تفصل بين البعد الاقتصادى وبين البعدين الاجتماعى والسياسي.

وتمارس النزعة الاقتصادية عنفا معرفيا حينما تحاجج بان علة البعد الاجتماعى والبعد السياسى هو الشرط الاقتصادي. ونجد المفكر الفرنسى لوى التوسير ينتقد النزعة الاقتصادية بقوق وذلك حين يقترح نظرية “التظافر” Overdeermination بين البنية التحتية وبين البنية الفوقية.

ويتكيء ايغلتون على مفكر ماركسى امريكى معاصر وهو فريدريك غميسون حيث يلاحظ ان هذا الاخير قد ناقش علاقة الشكل بالمضمون فى كتابه”الماركسية والشكل”وتوصل الى هذه النتيجة فالشكل نفسه ما هو الا تحقق للمضمون فى مملكة البنية الفوقية وبسرعة يستدرك ايغلتون ان هذا المفهوم لدى غميسون لا يختلف من حيث الجوهر عن مفهوم هيغل الذى قال بان المضمون”ما هو الا تحول الشكل الى مضمون وان المضمون ليس بشيء سوى تحول المضمون الى شكل”.

ومع ذلك فان ايغلتون يوافق من جهته على امكانية الفصل بين المضمون والشكل فى التطبيق والممارسة وانهما متمايزان نظرياً وفقا للنظرية القائلة بامكانية الفصل النسبى بين البنية الفوقية والبنية التحتية. وبسبب ذلك فاننا”نستطيع ان نتحدث عن علاقات متنوعة بينهما، وهى علاقات من الصعب الامساك بها”ويلخص الموقف فى ان”النقد الماركسى ينظر الى ترابط الشكل والمضمون عل ينحو جدلي”.

ولكنه يؤكد فى النهاية اسبقية المضمون فى تحديد واقرار الشكل”. ففى قراءته لكتاب رالف نوكس”الرواية والشعب”استخلص ايغلتون منه ما يلي:”رغم ان الاسبقية هى لجانب المضمون، ولكن الشكل يؤثر في المضمون ولا يبقى سلبياً أبداً”. وكما استنتج بان التأكيد على العلاقة الجدلية الرابطة بين هذين القطبين، ومنح الشكل بعض الدور فى العملية الابداعية يستهدفان الهجوم على المدرسة الشكلانية”الممثلة فى الشكلانيين الروس فى العشرينات من هذا القرن”.

حيث ان المضمون بالنسبة لهم ما هو الا مجرد وظيفة الشكل. ويستهدف ايضا”نقد الفكرة الماركسية المبتذلة والقائلة بان الشكل الفنى ما هو الا مجرد أداة. ان اعتبار الشكل محض اداة ناتج اساسا من افتراض ان الأديب محكوم بايديولوجية معطاة سابقا، حيث ينظر الى ايديولوجيته كسلسلة من الافكار الواعية واللاواعية التى تكون محتوى يسعى المبدع الى تجسيده فى اشكال فنية.

وبطبيعة الحال فان هذا التوجه يفترض ايضا ان مهمة العملية الابداعية هى ايجاد وسائط فنية قادرة على تبرير وتنويع المعطى الايديولوجي. ومما لا شك فيه ان هذا النوع من الافتراضات قد افرز مجموعات من المشكلات الجمالية والاخلاقية وفى مقدمتها حرية التعبير، وحرية اختراق السياسة وتصور الممكن الذى يقع خارج هيمنة الايديولوجية.

ومن هنا نفهم معاناة الأدباء فى المجتمعات التى يتحكم فيها الحزب الواحد الذى يسن للجميع حدود ما يعبر عنه وما لا يسمح بالتعرض له فى النحت، والشعر، والرواية، ومختلف الاجناس الفنية والادبية.
وهكذا نجد الموقف الايديولوجى السائد فى تلك المجتمعات ينحو نحو الاحتفال بالجماعى النمطى اللاغى بعنف للذاتية كبعد من ابعاد الحرية.


  • وصفات الايديولوجية

وبخصوص علاقة الايديولوجية بالشكل الفنى يتساءل ايغلتون ماذا يعنى القول بان الشكل الأدبى هو ايديولوجي؟ ويجيب عن هذا السؤال عن طريق قراءته للموروث الماركسي، انه يلفت نظرنا الى تنظيرات ليون تروتسكى الذى يعتقد بان”العلاقة بين الشكل والمضمون تقرر بواسطة واقع ان الشكل الجديد يكتشف ويعلن عنه ويستنبط تحت ضغط الحاجة الداخلية للمطلب الجماعى النفسي..

وانه مثل اى شيء اخر له جذوره الاجتماعية”. ويعلق ايغلتون على مقولة تروتسكى هذه بان”التطورات الدائمة فى الشكل الادبى ناتجة عن التغييرات الهامة فى الايديولوجية”. ويضيف موضحا ان هذه التغييرات والتطورات”تسجد طرقا جديدة فى ادراك الواقع الاجتماعي، وعلاقات جديدة بين الفنان والجمهور”.

وبتعبير آخر فان ايغلتون يرى ان الادب مرتبط اصلا بالتاريخ كتحول حيث ان التحولات فى الرؤية الادبية، وفى الاشكال الفنية مرهونة بالعلاقات الجديدة التى تفرزها مرحلة اجتماعية تاريخية معينة. ويضرب ايغلتون مثلا بانتقال الأدب الفرنسى فى القرن الثامن عشر من النموذج الكلاسيكى الى الكوميديا حيث يرى ان هذا الانتقال يمثل خروجا عن التقاليد الارستقراطية الى تقاليد القيم البرجوازية،

ويرصد ايضا الانتقال من الطبيعة الى التعبيرية فى المسرح الاوروبى ناظرا اليه كتحول فى القيم داخل البنية العميقة للمجتمع الاوروبي.

ومع ذلك فان ايغلتون منتبه الى مسألة مهمة وهى ان العلاقة التماثيلية بين التغييرات فى الشكل الادبي، وبين التغييرات فى الايديولوجية ليست بسيطة، وتبسيطية انما تتميز بالتعقيد. ومما لا ريب فيه ان ايغلتون يولى هنا أهمية لقضية العلاقة بين البنية التحتية، وبين الوعي،

حيث يفترض جدلا بانه لا يوجد تأثير متبادل ميكانيكى بينهما اذ ان تغيير البنى التحتية لا يستدعى دائما وعلى نحو حتمى تغييرا مماثلا فى الوعى او حتى فى العلاقات الاجتماعية. اذ نجد على سبيل المثال ان القيم الخرافية والاسطورية قائمة وفاعلة فى مجتمعات مصنعة وما بعد صناعية،

يعنى هذا ان العقلانية التكنولوجية المتطورة لم تقض دفعة واحدة على الخرافة والشعوذة. ومن الامثلة على ذلك تخصيص كبريات الصحف البريطانية لاركان”الحظ والنجوم”. وتوجد كذلك فى المجتمع الامريكى جمعيات تحتكم الى الغيبات فى تفسير الظواهر الاجتماعية المادية.

والحال انه يوجد فى هذه المجتمعات نتاج فنى يستلهم الافكار الغيبية، ويوظفها منتجوها لفهم العلاقات بين الناس، واستشفاف المصير البشرى فى الكون.

وهكذا فان قضية علاقة الاشكال الفنية بالايديولوجية ليست ميكانيكية دائما، بل ثمة اختراقات وتجاوزات للايديولوجى خاصة اذا اخذنا بعين الاعتبار ان مبدعى النصوص يملكون ذواتا ويمارسون النقد للراهن، وللمهيمن ولعلاقات القوة.

وبهذا الصدد فان لحظة الكتابة الابداعية فى مرحلة تاريخية معينة تستهدف”تغيير الايديولوجية وبالتالى زحزحة العناصر الجمالية التى تبشر بها، او توظفها لكى تخلق ما يمكن تسميته بالعصبية الايديولوجية التى تنتج بنية المشاعر التى تحدث عنها الناقد البريطانى رايموند وليامز.

وحينما يتعرض ايغلتون لدراسات جورج لوكاتش للشكل الادبى فانه يستنتج بان لوكاتش قد عالج هذه المسألة بشكل دقيق. وهنا يرى بان لوكاتش قد انتبه الى ان المقولة السائدة بان الرواية هى”ملحمة البرجوازية”فى حاجة الى نقاش خلافي.

بمعنى ان الرواية ليست بالضرورة شكلا فنيا لتبرير وترسيخ المجتمع البرجوازى بقيمه واساليب انتاجه وجماليته انما تجد الرواية التى هى افراز للمجتمع البرجوازى غير متصالحة معه بل تحاول ان تنتقده. وحسب تعبير ايغلتون فان هذه الملحمة”الرواية”تكشف عن”تشرد واغتراب الانسان فى المجتمع”.

وهذا يعنى ان الرواية لا تثبت معطيات وفلسفة البرجوازية انما تتجاوز ذلك الى سبر التشويهات التى تلحقها العلاقات والاخلاقية البرجوازية بالانسان المعاصر بما فى ذلك الاديب الذى يعيش ويكتب ضمن مجتمع حيث الخاص والعام، والمفهومى والحسى والاجتماعى والفردي. فالاديب العظيم”يرسم هذه الامور معا فى كلية معقدة”. وهذا يعنى تحديدا ان الاديب”يعكس فى شكل بوصفه صورة عن العالم، التعقيد الكلى للمجتمع نفسه”.


ويقرر ايغلتون بان لوكاتش يعتبر بان”العمل الادبى الواقعى غنى على نحو معقد وشامل بما فيه من شبكة علاقات بين الانسان والطبيعة، والتاريخ، وتجسد هذه العلاقات وتكشف عن ما هو نموذجى للماركسية فيما يخص مرحلة معينة من التاريخ”.


عن / الحوار المتمدن

ازراج عمر

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى