الدراسات الثقافيةصحافة وإعلام

التنوع الثقافي في الخطاب الإعلامي التمظهرات والدلالات

تقوم وسائل الإعلام بدور أساسي في حماية الثقافة ونقلها وتغييرها أيضًا، وهي ذات وظيفة تنموية تعمق الهوية الثقافية قوميًا ووطنيًا وتقاوم الغزو الثقافي؛ إن وسائل الإعلام هي أدوات ثقافية تساعد على دعم المواقف أو التأثير فيها، وعلى تعزيز ونشر الأنماط السلوكية وتحقيق التكامل الاجتماعي، وهي تلعب دورًا أساسيًا في تطبيق السياسات الثقافية وإضفاء طابع ديمقراطي على الثقافة.


إن علاقة الإعلام بالثقافة هي في جوهرها علاقة النوع بالكل إلا أنهما كثيرًا ما يتداخلان إلى حد التطابق، يشهد على ذلك التطابق الشديد بين السياسات الإعلامية والسياسات الثقافية.

إن العلاقة بين الخطاب الإعلامي والتنوع الثقافي، تنفتح على أكثر من مشغل وحقل فكري من انثروبولوجيا الاتصال إلى الأثنوجرافيا ومن الدراسات الثقافية إلى أركيولوجيا المعرفة، ومنها أيضًا إلى علوم الإعلام والاتصال في شكلها العام بما هي دراسة وتقص للمضامين والمنظومات والتمظهرات الإعلامية والبحث في سياقات الانتاج وميكانيزمات التلقي.


ومن ثمة لا يمكن الفصل بين ما هو ثقافي وما هو إعلامي، على الرغم من تفرع التعريفات وتعدد للثقافة والإعلام فلا شيء يفصل بين الاثنين، وذلك أن الإعلام هو مرآة عاكسة لديناميكية الحياة الاجتماعية بكل تفرعاتها.

إن العلاقة بين الخطاب الإعلامي والتنوع الثقافي سمة أخذت في البروز في بحوث الإعلام، حيث أن وسائل الإعلام تستمد الإطار العام لعملها من الثقافة المحيطة بها، كما أنها بدورها تعد من أهم أدوات الثقافة لأي مجتمع، فهي تقوم بوظيفة غرس القيم الثقافية في المجتمعات المختلفة.

وفي هذا السياق، تشهد الثقافية المغربية خلطًا كبيرًا في وسائل الإعلام بمختلف مرتكزاتها التقنية بخصوص معنى التنوع الثقافي لنسبة كبيرة من المهتمين بهذا المجال، مما ينعكس على واقع حال الممارسات الثقافية كما تعبر عنها وسائل الإعلام وعلى غموض وارتباك في المحتوى الثقافي، فالعرض المقدم لمختلف شرائح الجمهور غالبًا ما يكون نتاجًا مبادرات لا تمتلك ما يلزم من شروط الوعي بالرهانات الثقافية مما يكون له تأثير على الارتقاء بالذوق ونشر الوعي الثقافي.


وبالتالي، فإن القول بأن العلاقة بين الإعلام والثقافة في عصر العولمة هي علاقة تبادلية فيها نوع من المغالطة، فالأصل أن الخطاب الإعلامي في هذا العصر هو المنفذ الأساسي لتدفق المضمون الثقافي من اجل تعميم نمط ثقافي واحد تستخدم فيه كل التقنيات الحديثة وعلى رأسها تقنية الصورة، مما خلق ظاهرة الاختراق الثقافي في ضوء المفاهيم المعاصرة للهيمنة الثقافية العالمية؛ فما هو حاصل اليوم في ظل العولمة الإعلامية والثقافية، أن تكنولوجيا الصورة شكلت تهديدا للتنوع الثقافي والتعددية الثقافية وعدونا سافرا لمبدأ احترام الهوية الثقافية للشعوب المختلفة.


وسنعمل من خلال هذه المقالة الإجابة عن بعض الاشكاليات التي تهم طبيعة الدور الذي يمكن أن يلعبه الخطاب الإعلامي بشكل الخاص والمنظومة الإعلامية بشكل عام في الاعتراف بالتنوع الثقافي وتثمينه، واستنطاق العلاقة القائمة اليوم بين الخطاب الإعلامي والتنوع الثقافي بما يتداخل فيها من رهان محلي وإقليمي ودولي؛ وسنعتمد للإجابة عن هذه التساؤلات المنهج الوصفي التحليلي لسبر أغوار الموضوع وتحليله من مختلف الجوانب.


  • أولاً: دور وسائل الإعلام في تعزيز التنوع الثقافي

يعتبر الإنسان بطبعه ميالا إلى الكشف عن ذاته واكتشاف العالم من حوله من خلال المعرفة المتعددة والابتكارات التي يتم إنجازها، فالاختلافات القائمة بين المجتمعات الإنسانية في الأنماط والقيم الثقافية السائدة فيها ظواهر ثقافية شاهدة على قدرة الإنسان على الإبداع والابتكار 5.

لا شك أن هويتنا وطرائق رؤيتنا للواقع مشروطة بمرجعياتنا الثقافية التي تؤثر على نظرتنا لأنفسنا، وكيفية تعاطينا مع الأخرين وتفاعلنا مع العالم؛ ونتيجة لذلك، تؤثر علينا وسائل الإعلام تأثيرًا كبيرًا لا يشمل فقط تفكيرنا وإنما كذلك يمتد إلى تصرفاتنا.

وفي هذا الإطار، يتجلى دور الإعلام من منظور مجتمع الرقميات في تصحيح المسار أو النظرة لإيجابيات التنوع الثقافي والتقريب بين الثقافات المتعددة، والمتمثلة في احترام القيم الدينية والثقافية والاجتماعية والحضارية لدى الأقليات وتوظيف أهم الوسائل الحديثة لنشر أفكار التسامح والتعايش داخل فضاء يتقبل تشكيلة العالم بتكويناته اللامتناهية، بهدف خلق حوار خلاق يحترم كينونة الإنسان ووجوده6.


إضافة إلى ذلك، فوسائل الإعلام هي النافذة التي يطل منها الإنسان على العالم ويرى من خلالها ثقافته وحضارته وتقدمه؛ وقد كانت وما تزال هذه الوسائل تشكل العامل الأهم والأبرز في تكوين اتجاهات ومواقف الفرد باعتبارها الطريق إلى المعرفة والأداة الفعالة في تنمية وتطوير الوعي7.

ويجدر التأكيد في هذا المقام أن التنوع الثقافي، جزء من نظام الكون وسننه التي لا يمكن العيش من دونها والتعدد والاختلاف من مصادر الثراء الثقافي ومن محركات التفاعل الثقافي البناء بين الشعوب، ولابد من محاولة تفهم الآخر وتقبله كما هو من دون أن يعني ذلك تطابق جميع الآراء والاتجاهات أو الموافقة عليها، إذ أن التواصل الإيجابي يتطلب احتفاظ كل ثقافة بخصائصها، وإلا انتفت روح التنوع والحق في الاختلاف8.

وانطلاقًا من ذلك، فإن استخدام وسائل المعلومات والاتصال يهدف إلى فسح المجال أمام مختلف الثقافات للتعبير عن نفسها بكل حرية، أمر لابد منه لترسيخ أسس التفاهم بين الشعوب والحوار بين الثقافات، وتمتلك وسائل الإعلام القدرة على تيسير هذا الحوار من خلال التصدي للمواقف السائدة والمزاعم، حيث يمكن لوسائل الإعلام أن تتجاوز التصورات النمطية الموروثة وتبدد الجهل الذي يغذي سوء الظن بالأخرين وينمي الحذر منهم، ومن ثم تعزيز روح التسامح والقبول بالاختلاف، بحيث يصبح التنوع فضيلة وفرصة للتفاهم.


وعليه يمكننا القول أن الخطاب الإعلامي، ليس إقناع الآخرين بالتخلي عن انتمائهم وخصوصياتهم الثقافية لتبني ثقافة أخرى أو محاولة تعميم وفرض نمط ثقافي معين، فذلك يعوق كل مشاريع التعاون والسلام بين الثقافات؛ فالحقيقة موزعة على كل البشر وليست حكرًا على أمة واحدة ودين واحد وثقافة واحدة، وهذا من شأنه أن يجعلنا نؤمن بتعدد الرؤى وتعقد العالم وبضرورة تجديد مختلف الثقافات لرؤاها ومرتكزاتها حتى نتمكن من خلق حوار ثري وفعال بين مختلف الثقافات9.

وفي هذا السياق، فإن الفيلسوف الفرنسي (روجيه غارودي) يرى أن فكرة حوار الحضارات تحارب التقوقع حول الأنا الضيقة وتركز اهتمامها على الحقيقة الفعلية للأنا، باعتبارها قبل كل شيء علاقة مع الآخر وعلاقة مع الكل.

وأخيرا نستطيع القول أن احترام الخصوصية الثقافية والمحافظة في الوقت نفسه على حرية التعبير، أمر سيبدو على الدوام بمظهر توتر يتعين مناقشته والتداول بشأنه في أي مجتمع ديمقراطي؛ وهناك أمر أخر بالغ الأهمية هو الاعتراف بالتنوع الثقافي، فهذا الأخير يعزز القيم الإنسانية يقيم أرضية مشتركة، إذ لا يمكن لأي ثقافة أن تدعي الفضل على سائر الثقافات ورغم أن التنوع بإمكانه إثارة الفرقة والتعصب والعنف، لذلك فوسائل الإعلام إن كانت حرة وتعددية ومهنية ستوفر منتدى للتفاوض السلمي بشأن هذه الاختلافات.


وبموجب ذلك فالتنوع الثقافي أصبح حقًّا من الحقوق التي تطالب بها المجموعات المختلفة، وصدرت العديد من الوثائق والمرجعيات التي تكرس الحقوق الثقافية واللغوية، مما يوفر أرضية خصبة للحق في التنوع الثقافي كمقوم من مقومات حقوق المواطنة.

وبالتالي، فالتنوع الثقافي في الخطاب الإعلامي يطرح تحديات جديدة نحو شبكات الاتصال والمعلومات، إذ أصبح هناك تزايد التداخل والتشابك بين الاقتصاديات الوطنية وتطور الأسواق والتوسع في الصلات بين الثقافات على تنوعها، فقد أدت العولمة إلى اندماج التبادلات المتنوعة المتعددة الثقافات، وتخفيف الارتباط بين الظاهرة الثقافية وموقعها الجغرافي من خلال نقل الأحداث والتأثيرات والتجارب البعيدة إلى جوارنا مباشرة10.

وتأسيسًا على ذلك، سعت اليونسكو إلى تضمين مبادئ إبراز التنوع الثقافي في المضامين الإعلامية والاتصالية للإعلام العمومي على أساس المساواة وحسن تمثيل التعبيرات الثقافية واللغوية والدينية في المجتمعات؛ ذلك أن التعدد هو مركب ضروري في كل مجتمع، ومهمة وسائل الإعلام هي بلورة هذا التعدد وكشفه من أجل تربية أفراد المجتمع على ثقافة الاعتراف بالآخر المختلف وضمان التعايش المشترك بين كافة الثقافات المكونة للمجتمع الواحد11.


وفي هذا الإطار، مثلت قضايا تدبير التنوع الثقافي في المشهد الإعلامي محور تجار عديدة في التعديل والتعديل الذاتي تبنتها عدد من البلدان مثل، كندا وأستراليا وبلجيكا وسويسرا والمغرب والجزائر، التي تعتمد بشكل من الأشكال مقاربة أعلمة التنوع الثقافي وتطوير ميكانزمات الإنتاج الرمزي للرصيد المادي وغير المادي لمختلف الاثنيات والأقليات12.

وأخيرًا، يمكننا القول أن الجدل الفكري الذي تطرحه طبيعة الدور الذي تلعبه المنظومات الإعلامية والاتصالية في الاعتراف بالتنوع الثقافي وإثرائه؛ مما يصبح معه استنطاق العلاقة القائمة والمفترضة بين الخطاب الإعلامي والتنوع الثقافي يتداخل فيها الراهن المحلي والإقليمي والدولي والرهانات المعرفية والرمزية.


  • ثانيًا: واقع التنوع الثقافي في الخطاب الإعلامي المغربي

يعد المغرب بلدًا غنيًا من حيث تنوعه الثقافي واللغوي منذ أقدم العصور، حيث تفاعلت في إطاره حضارات عريقة تعاقبت على أرضه، كما شهد انطلاقًا من موقعه الجغرافي المنفتح على العمق الإفريقي وعلى البوابة المتوسطية والشرق الأوسط وأوروبا تفاعلاً حضاريًا كبيرًا بين مكونات عديدة ساهمت جميعها في تشكيل حضارته وشخصيته الثقافية المتعددة13.

وإذا كان هذا التنوع قد ظل مجهولاً ومهمشًا لعقود طويلة بعد الاستقلال، فقد خصص الدستور المغربي لسنة 2011 حيزًا هامًا للتنوع الثقافي بالمقارنة مع دستور 1996، وبذلك فإن السمة التي أضافتها ديباجة دستور 2011 تتمحور أساسًا حول دسترة التعدد الثقافي للمغرب في إطار هويته الوطنية الموحدة، وإدراج مكونات أخرى للهوية الثقافية للمغرب المتمثلة أساسا في الأمازيغية والصحراوية والحسانية، إضافة إلى  الهوية العربية- الإسلامية، علاوة على الإقرار بالبعد الكوني في الثقافة المغربية من خلال الانفتاح على الاعتدال والتسامح والتبادل الثقافي والحضاري.


واستنادًا إلى هذا المنطق، راهن المغرب من أجل المضي قدمًا في مشروع الدمقرطة بشكل رئيسي على إصلاح قطاع الإعلام والاتصال عبر سياسات هدفت إلى إعادة هيكلة وتقنين وسائل الإعلام على ضوء المستجدات والتطورات الراهنة لعصر المعلومات وفتح المجال أمام المبادرة الخاصة، وتحديد دور القطب العمومي وضمان التعددية الإعلامية والتنوع في الاتجاهات والأفكار؛

لذلك انخرطت البلاد في مشاريع عدة منها، تحرير الصحافة المكتوبة والتصديق على قانون رفع احتكار الدولة في مجال البث الإذاعي والتلفزي، وهيكلة وتقنين القطاع السمعي البصري وإحداث الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، مما ساهم في تناسل القنوات التلفزيونية العمومية وأيضًا الإذاعية الخاصة والعمومية والدوريات المستقلة14.


وهكذا، نجد أن وسائل الإعلام اندمجت منذ ظهورها في سياق التحولات الديمقراطية والإصلاحات الحقوقية التي عرفها المغرب، فما كان لوسائل الإعلام إلا أن تواكب هذا المخاض الإنساني التي تعاقب عبر التاريخ، والذي يشتعل فتيله في عصرنا الحالي كلما ازداد إيمان ووعي المواطنين والمواطنات بشرعية التعبير عن آرائهم15؛ وهو ما قاد وسائل الإعلام نحو عكس طبيعة العلاقة القائمة بين المؤسسات المجتمعية والأفراد، من خلال باقة متنوعة من المواد الإعلامية التي تقدمها لجموع المتتبعين بهدف تقريبهم من المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي.

إلا أننا عندما نتحدث عن التنوع الثقافي في الخطاب الإعلامي بالمغرب، فإننا نتحدث عن وسائط تمنحنا الثقافة بمعنى أخر فنحن نتكلم عن مادة مهمة تشكل أهم لبنة في الحضارة؛ وبالتالي فإن المنتوج الثقافي بمختلف تجلياته الإبداعية والفكرية لن يحقق قيمته المضافة وغاياته التثقيفية والترفيهية على المستوى الرمزي والمعنوي بمعزل عن هذه الوسائط التواصلية16.

وفي خضم ذلك، نرى أن الثقافة المغربية تشهد خلطًا كبيرًا في وسائل الإعلام بمختلف مرتكزاتها التقنية بخصوص معنى الثقافة بالنسبة لنسبة كبيرة من المهتمين بهذا المجال، مما ينعكس على واقع حال الممارسات الثقافية كما تعبر عنها وسائل الإعلام والاتصال، وعلى غموض وارتباك المحتوى الثقافي التي تنتجه بوجود استثناءات قليلة؛ فالعرض المقدم لمختلف شرائح الجمهور غالبًا ما لا يكون نتاج مبادرات تمتلك ما يلزم من شروط الوعي بالرهانات الثقافية17.


ومن جهة أخرى، نلاحظ أن اللغتين العربية والأمازيغية تعانيان من مشكلات كبرى في الخطاب الإعلامي المغربي، والتي تتمثل في الانتشار الكبير والاستعمال المتنامي للحرف اللاتيني في الكتابة والتواصل من خلال اللوحات الرقمية والهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي؛ ولعل المشهد الفسيفسائي للخطاب الإعلامي المغربي بمختلف مستنداته التقنية يعكس هذا الواقع اللغوي.

إضافة إلى ذلك، نجد أن الأدبيات التي تناولت إصلاح قطاع الإعلام في المغرب  تؤكد على إخفاق سياسة الدولة في تحقيق الرهانات المنشودة للرقي بهذا القطاع حتى يتمكن من لعب دوره الرئيسي في دفع عجلة التحديث والدمقرطة والتنمية، حيث يتم تبني منظومة إصلاحات شكلية لقطاع الإعلام لاسيما في تعاملها مع حرية واستقلالية هذا القطاع،

مما يؤدي إلى أحادية في عمليات بناء الخطاب الإعلامي الرسمي، وهو ما يكون له عظيم الأثر على المكونات الاجتماعية والدلالات الرمزية والخلفيات الفكرية والسياسية والمرجعيات القيمية للإعلام المغربي، في ظل سياقات سياسية واجتماعية وثقافية للمجتمع المغربي المعاصر وتداعياتها على تشكيل الرأي العام.

وانطلاقات مما سبق يمكننا القول أن الاستراتيجية الثقافية الجديدة في الخطاب الإعلامي المغربي، بلغت أعلى مستوياتها في الإعلام المرئي المسموع واعتمدت بشكل كبير على الثقافة الاستهلاكية بالتركيز المفرط على متطلبات الحياة اليومية على حساب المتطلبات الأخرى (حق في التعبير عن الرأي، الحق في التنوع، المشاركة السياسية، التظاهر،….)18.


إلى جانب ذلك، نسجل ومن خلال رصد التجارب المهنية لمختلف المنابر الإعلامية المغربية المختلفة أن هناك محاولة لخلق خطاب إعلامي متنوع ثقافيا إلا أنه يعاني تارة من التفاهة والتحقير تارة أخرى، إضافة إلى الوضع المتردي للمادة الثقافية ضمن الحضور العام لباقي المواد الإعلامية19.

هذا ويظل الحضور الثقافي في البرامج التابعة للإعلام المرئي متواضعًا، ونتحدث بالخصوص عن القناتين الرسميتين الاولى والثانية لأنهما الأكثر مشاهدة رغم وجود قناة موضوعاتية (القناة الثقافية) إلا أنها لا تعرف نسبة مشاهدة كبيرة؛ على الرغم من أننا نجد في دفتر تحملات القناتين أن الأهداف العامة للخدمة العمومية في المادة الثانية منه” إشعاع الثقافة والحضارة المغربيتين ورفع تنافسية الانتاج السمعي البصري”.

وهو ما يطرح تساؤلات حول الخطوط التحريرية للمنابر الإعلامية ومدى اهتمامها بالمنجز الثقافي المغربي، علمًا أن طفرة كبيرة تعرفها الساحة الثقافية المغربية سواء على مستوى الاصدارات في الفكر والشعر والقصة وغيرها، أو على مستو الأنشطة ذات الصبغة الثقافية في كل مناطق المغرب20.


وفي نقطة أخرى لاحظنا أن الخطاب الإعلامي المغربي، يشهد حالة من الارتباك اللغوي يطال كل المستويات التواصلية، بدءًا بمصادر الإنتاج وهوية من يقوم بوضع تصوراته وبالمضامين والقيم الثقافية التي يعمل المنتجون على صياغتها، وبالعدة الاتصالية المستعملة لنقل هذه المضامين وكذلك بنوعية ومدى التأثير الذي يتوقع حصوله على الثقافة العامة للجمهور المتلقي21.

هذا وتؤثر وسائط الاتصال المختلفة على طرق التواصل والتبادل وعلى بنية اللغة، ويبدو النزوع الظاهر لاستعمال العاميات المبتذلة في الإذاعات العامة والخاصة والقنوات التلفزية وفي مواقع التواصل الاجتماعي؛ وكأن العربية الفصحى محكوم عليها بالتهميش وبفقدان ريادتها الثقافية والرمزية، وخصوصا في أوساط الشباب الذين ازدادوا مع الإنترنت والأطفال الذين فتحوا أعينهم وحواسهم على الهواتف الذكية واللوحات الرقمية22.

إضافة إلى ذلك، فواقع اللغتين العربية والأمازيغية في الإعلام من حيث هما خزان رمزي للإبداع وليستا مجرد أداة للتعبير عن الانشغالات الثقافية، ومن حيث هما عرضة في التواصل الإعلامي اليومي لكل أشكال الانتقاص من قواعدها وألفاظها وأنماط تداولها؛ علما بأن اللغة هي جسم حي يتغير بتغير المجتمع وبقدرة مستعمليها على التطور 23.


وعليه لا شك أن الخطاب الإعلامي يواجه مشكلة المضامين الثقافية التي يتعين الاشتغال عليها، حسب اختلاف الوسائط التواصلية وصياغتها بأشكال ترتقي بالجمهور وتمتلك ما يلزم من الجاذبية وشروط التفاعل مع هذه المضامين والتفكير في رافعات إبداعية وآليات تواصلية، كفيلة بجعل الناشئة والشباب ينخرطون في المجهودات الثقافية المعروضة وضخ الوسائط الإعلامية بمواد ثقافية وفكرية وتربوية تساهم في نشر قيم العقل والمبادرة والعمل والإبداع والتسامح، ومواجهة كل أشكال النكوص والتعصب ودعوات العنف24.

وانطلاقًا مما سبقت إليه، نستطيع القول أن وسائل الإعلام والاتصال المغربية تتفاوت في نوعية برامجها في تقديم خطاب إعلامي متنوع ثقافيا بمضامين ثقافية وترفيهية هادفة قادرة على جذب المشاهد المغربي، والظاهر أن استهلاك أغلبية المغاربة لبرامج القنوات العربية والأجنبية في مجال التلفزيون يعود بالدرجة الأولى إلى البحث عن مادة إعلامية ذات جودة، بسبب الضعف الكبير في البرامج والمضامين التي تبثها القنوات المغربية25؛ لذلك فإن المؤاخذات الرئيسية على الخطاب الإعلامي خاصة السمعي البصري ذي الوظيفة العامة كما الموضوعاتية تعود إلى كونه لا يستجيب لتطلعات المتلقي المغربي26.


  • خاتمة:

إن تطوير مجال الإعلام في المغرب يحتاج إلى جهود من الدولة والقطاع الخاص المتشبع بمبادئ المواطنة، من خلال اعتماد مقاربة استراتيجية لموضوع التنوع الثقافي في الإعلام المغربي، تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية،

بأهداف ثقافية تتماشى مع حاجات وتطلعات المواطن المغرب، وإيلاء العناية للتراث الثقافي والأنشطة الثقافية والممارسات الجديدة في هذا المجال27، والعمل على تأهيل الكفاءات والاعتماد على التجديد والابتكار في العمل الإعلامي والاستفادة من الإمكانيات التي تتيحها التكنولوجيات الرقمية.

ومن جهة أخرى، لبد من تبني سياسات ثقافية من خلال إحداث تحول جذري في المشهد الثقافي المغربي ومأسسة ومهننة الثقافة، وذلك بإعادة هيكلة وتنشيط المؤسسات الرسمية، وأن تُسند هذه السياسة الثقافية خطة إعلامية قوية تهدف نشر الثقافة المغربية على المستوى الإقليمي والعالمي، تسلط الضوء من خلالها على تاريخ البلاد وتراثها ومآثرها ونمط العيش المغربي من أجل خدمة مصالح المغرب السياسية والاقتصادية.


الهوامش:

1 – يشير هذا المصطلح عمومًا إلى الاختلافات القائمة بين المجتمعات الإنسانية في الأنماط الثقافية السائدة، ويتجلى هذا التنوع من خلال أصالة وتعدد الهويات المميزة للمجموعات والمجتمعات التي تتألف منها الإنسانية، أي أن التنوع الثقافي هو التراث المشترك للإنسانية.

2 – هو منتج إعلامي يأتي في إطار بنية اجتماعية محددة، وهو شكل من أشكال التواصل الفعالة في المجتمع له قدرة على التأثير في المتلقي وإعادة تشكيل وعيه.

3 – هو القيام بإرسال أو الإخبار، هو بث وإعطاء وتبادل للمعلومات سواء كانت مسموعة أو مرئية بالكلمات والجمل أو بالإشارة والصور والرموز.

4 – هي مجموعة من العقائد والقيم والقواعد التي يقبلها أفراد المجتمع وتربط بينهم من خلال وجود نظم مشتركة، إضافة إلى أن الثقافة تعمل على الجمع بين الأفراد عن طريق مجموعة من العوامل السياسية والاجتماعية والفكرية والمعرفية وغيرها.

5 – فارس محمد العمارات، “الاتصال الرقمي ودوره في التنوع الثقافي”، دراسات، أكتوبر 2019،

 www.new-edu/studies.com

 (30 ديسمبر 2019.)

6 – المرجع نفسه.

7 – عبدالكريم علي الدبيسي، “دور وسائل الاتصال الرقمي في تعزيز التنوع الثقافي”، مجلة الاتصال والتنمية، العدد 6، أكتوبر 2012، دار النهضة، بيروت، ص.3.

8 – محمد السعدي، دور الثقافة في بناء الحوار بين الأمم، سلسلة محاضرات الإمارات، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، الطبعة الأولى، 2012، ص ص،27-26.

9 – محمد السعدي، دور الثقافة في بناء الحوار بين الأمم، مرجع سابق، ص.27.

10 – فوزي عمارة، “التنوع الثقافي كمصدر خلاق للإبداع”، ورقة مقدمة إلى المؤتمر الدولي الثامن: التنوع الثقافي، 21-23 ماي 2015، طرابلس، ص.16.

11 – معهد الصحافة وعلوم الإخبار، “الإعلام والاتصال والتنوع الثقافي”، الملتقى العلمي الدولي، 4-5 أبريل 2019، تونس.

12 – المرجع نفسه.

13 – خديجة عزيز، “التنوع الثقافي بالمغرب رافعة للتنمية وضمان الاستقرار”، هسبريس، www.hesspress.com

(19 ديسمبر 2019).

14 – حسناء حسين، “الخدمة العمومية للإعلام الرسمي بالمغرب: استراتيجياته ورهاناته”، مركز الجزيرة للدراسات، سبتمبر 2015، ص.3.

15 – زينب فيلالي صدوق، “التعددية ووسائل الإعلام”، العمق المغربي، فبراير 2016، www.maghress.com

(17 نوفمبر 2019).

16 – عبده حقي، “أزمة الإعلام الثقافي الرقمي في المغرب”، المغرب اليوم، ماي 2017، www.almaghribtoday.net ، (18 يناير 2020).

17 – لجنة مجتمع المعرفة والإعلام، “المضامين الثقافية والإعلام”، تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، يوليو 2018، ص.15.

18 – حسناء حسين، “الخدمة العمومية للإعلام الرسمي بالمغرب: استراتيجياته ورهاناته”، مرجع سابق، ص.12.

19 –  أحمد المريني، “الحضور الثقافي في الإعلام المغربي”، ديوان العرب ديسمبر 2018، www.diwanalarab.com  (17 فبراير 2020).

20 – عبداللطيف بن الطالب، “الثقافة في الإعلام المغربي…التغطية غير متواصلة”، مركز الجزيرة، يوليو 2019، www.institute.aljazeera.net ،27 فبراير 2020.

21 – لجنة مجتمع المعرفة والإعلام، “المضامين الثقافية والإعلام”، تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، مرجع سابق، ص.17.

22 – المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

 -23La commission chargée de la société du savoir et de l’information, contenus culturels et médias, rapport, conseil économique social et environnemental, 2018, p.17.

24 – المرجع نفسه، ص. 18.

25 –  La commission chargée de la société du savoir et de l’information, contenus culturels et médias, op.cit., p p.29-30.

26I – bid.p, 29.

27 – لجنة مجتمع المعرفة والإعلام، “المضامين الثقافية والإعلام”، تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، مرجع سابق، ص.30.

لائحة المراجع:

1 – محمد العمارات، فارس، “الاتصال الرقمي ودوره في التنوع الثقافي”، دراسات، أكتوبر 2019، www.new-edu/studies.com ، (30 ديسمبر 2019.)

2 – الدبيسي، عبدالكريم علي، “دور وسائل الاتصال الرقمي في تعزيز التنوع الثقافي”، مجلة الاتصال والتنمية، العدد 6، أكتوبر 2012، دار النهضة، بيروت.

3 – السعدي، محمد، دور الثقافة في بناء الحوار بين الأمم، سلسلة محاضرات الإمارات، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، الطبعة الأولى، 2012.

4 – عمارة، فوزي، “التنوع الثقافي كمصدر خلاق للإبداع”، ورقة مقدمة إلى المؤتمر الدولي الثامن: التنوع الثقافي، 21-23 ماي 2015، طرابلس، ص.16.

5 – معهد الصحافة وعلوم الإخبار، “الإعلام والاتصال والتنوع الثقافي”، الملتقى العلمي الدولي، 4-5 أبريل 2019، تونس.

6 – عزيز، خديجة، “التنوع الثقافي بالمغرب رافعة للتنمية وضمان الاستقرار”، هسبريس، www.hesspress.com

(19 ديسمبر 2019).

7 – حسين، حسناء، “الخدمة العمومية للإعلام الرسمي بالمغرب: استراتيجياته ورهاناته”، مركز الجزيرة للدراسات، سبتمبر 2015.

8 – صدوق، زينب فيلالي، “التعددية ووسائل الإعلام”، العمق المغربي، فبراير 2016،  www.maghress.com

(17 نوفمبر 2019).

9 – حقي، عبده، “أزمة الإعلام الثقافي الرقمي في المغرب”، المغرب اليوم، مايو 2017، www.almaghribtoday.net ، (18 يناير 2020).

10 – لجنة مجتمع المعرفة والإعلام، “المضامين الثقافية والإعلام”، تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، يوليو 2018.

11 – المريني، أحمد، “الحضور الثقافي في الإعلام المغربي”، ديوان العرب ديسمبر 2018، www.diwanalarab.com ، (17 فبراير 2020).

12 – بن الطالب، عبد اللطيف، “الثقافة في الإعلام المغربي…التغطية غير متواصلة”، مركز الجزيرة، يوليو 2019، www.institute.aljazeera.net  ، 27 فبراير 2020.

13  – La commission chargée de la société du savoir et de l’information, contenus culturels et médias, rapport, conseil économique social et environnemental, 2018.


فاطمة لمحرحر: باحثة في الدراسات السياسية والقانون العام، كلية الحقوق- فاس- المغرب


مجلة فكر الثقافية

فاطمة لمحرحر

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى