الأمازيغية في شمال إفريقيا
قررت السلطات الجزائرية بتاريخ (27 ديسمبر 2017) إعلان تاريخ 13 يناير الذي يوافق بداية السنة الأمازيغية، عيدا وطنيا ويوم عطلة مؤدى عنه. وطبعا، كان متوقعا أن يُحدث هذا القرار أثره ليس فقط لدى الاتجاهات الأمازيغية بالجزائر والجمعيات منها وفعالياتها، ويشيع الارتياح لديها، ويخفف من التوتر الذي تعرفه منطقة القبائل جراء المطالب الهوياتية، بل أن يبلغ صداه في المغرب، فيبعث الحَمية في الحركة الأمازيغية به، ويحرج السلطات المغربية، في سياق تعرف فيه المناطق الناطقة بالأمازيغية تذمرا وبخاصة في الريف والجنوب الشرقي، أو أسامّار.
وليست الغاية هنا استعراض أوجه الحركة الأمازيغية في شمال إفريقيا أو في كل بلاد على حِدة، مما لا يتسع له هذا الحيز، ولكن الوقوف على أمرين، أولا هو التنافس بين السلطتين في كل من المغرب والجزائر، في التعاطي مع ملف الأمازيغية، أي أن ما تُقدم عليه سلطة ما، في البلدين، من انفراج أو استجابة لمطالب الحركة الأمازيغية ليس بالضرورة نابعا عن اقتناع، بقدر ما هو محاولة لاستباق الأسوأ، أو إحراج الآخر.
ومن الضروري ها هنا أن نُذكّر بما سبق أن كتبه واحد من كبار الصحافيين العارفين لشؤون بلاد المغرب، بحكم كونه متحدرا من موريتانيا واشتغل صحافيا في جريدة الشعب الجزائرية، وعانق الحركة الوطنية بالمغرب، المرحوم محمد باهي، في أعقاب أول لقاء للكونجرس الأمازيغي في أكتوبر 1995، بسان رومان ديدولان، بفرنسا، من أن الأمازيغية في العُشريات المقبلة ستطبع مسار كل من المغرب الأوسط، (كذا)، والمغرب الأقصى (كذا). طبعا لم تكن التسمية بريئة، لأنه أراد أن يدلل من خلال إضفاء الصفة، على الوحدة، وهو عمق الخطاب الأمازيغي.
وأما الأمر الثاني، وهو أن الحركة الأمازيغية لم تعد ثقافية، وهو ما يفسر الإسراع إلى تلبية بعض مطالبها، وأضحى الجانب السياسي الذي كان مستترا في عباءة الثقافي، بيّنا للعيان، مما ليس موضوعه في هذا المقال.
- الربيع الأمازيغي ومنطق التنافس
حين اندلع ما يعرف بالربيع في أبريل 1980 بتيزي وزو الجزائرية جراء منع محاضرة كان يعتزم الكاتب الكبير المرحوم مولود معمري أن يلقيَها، بلغ أريجه أو صداه المغرب، واستبق المرحوم الحسن الثاني الأمر، في ظل علاقات متوترة جراء نشوب نزاع الصحراء، وأعلن في ندوة صحافية (باللغة الفرنسية)، أن مشكل الأمازيغية غير مطروح في المغرب، وأضاف أن “البربر”، وهو المصطلح المستعمل آنذاك، عوض الأمازيغ، هم العرب العاربة، وفق المصطلحات المتداولة عن العرب البائدة، والعاربة فالمستعربة، ولو أنْ لا شيء علميا يؤكد ما ذهب إليه الملك الراحل، ولا شيء يثبت أن “البربر أتوا من اليمن عبر الحبشة ومصر”.
والمهم، سياسيا، هو أن الملك استبق الأمر، وأتاح هامشا ضيقا من خلال مجلة كانت تصدر بالفرنسية اختار لها أصحابها عنوان “أمازيغ”، ترأسها واحد من المقربين من المخزن، المحجوبي أحرضان، وضمت في هيأة تحريرها الأكاديمي محمد شفيق الذي كان يشغل آنذاك منصب مدير للمدرسة المولوية، أي المدرسة الأميرية التي تخرج منها الملك الحالي، محمد السادس، ودرس بمعيته كاتب هذه السطور، وكان من ميزات هذه المدرسة تلقين تعليم متين باللغة العربية وآدابها وتاريخها وصنوف متونها، إلى جانب امتلاك ناصية اللغة الفرنسية،
وكان محمد شفيق، فضلا عن مسؤولياته الإدارية والبيداغوجية في تعليم من يُهيأ لتولي مقاليد الحكم، يُدرّس الترجمة من العربية إلى الفرنسية، ومن الفرنسية إلى العربية thème et version، وإلى ذلك يُقدّم درسا في الآداب مُستقى من مصنف “قصص العرب”، أي أن مُنظِّر الحركة الأمازيغية في المغرب عارف للغة العربية وآدابها، لا يُشق له فيها غبار. وهو بذلك، من خلال نموذجه، ينسف النظرة النمطية، للسياسية البربرية الفرنسية، من “عملاء” لها لا يعرفون العربية ويمقتونها عن جهل ويرفضونها عن قولبة استعمارية.
ولكن تجربة الانفتاح هذه التي نهجها المخزن في أعقاب الربيع الأمازيغي لم تُعمّر، إذ بمجرد صدور الصيغة العربية لمجلة أمازيغ، وتضمينها لمقال حول رؤية ديمقراطية لتاريخ شمال إفريقيا (ويمكن أن يُعبر عنه بتعبير آخر، رؤية موضوعية لتاريخ شمال إفريقيا)، للمرحوم علي صدقي أزايكو، توقفت المجلة، وأودع صاحب المقال السجن، وأقيل محمد شفيق من المدرسة المولوية،
ودخل المحجوبي أحرضان ما أسماه في ديوان له بالأمازيغية في عمق العتمة، “أكّونْ نْ تيلاّسْ” (الكاف مشمسة على غرار الجيم المصرية)، والتقى النظامان، المغربي والجزائري، في التضييق على الأمازيغية، وفي الأحكام الجاهزة، من قبيل حفدة ليوطي، المقيم العام الفرنسي الأول، ودعاة الظهير البربري، في المغرب، وحزب فرنسا بالنسبة للجزائر.
دخلت الأمازيغية إثرها مرحلة من السُّبات، أو ما أسماه الروائي المغربي الصافي مومن، بالليالي الباردة، لقبيل فقدوا شمسهم فشملهم الصقيع، وأخذوا يبحثون عن نجم يستظلون به، لا يستطيع في جميع الحالات، وقد غابت شمسهم، أن يمنحهم الدفء، أو يشيع النور.
انتعشت الأمازيغية بعد سقوط حائط برلين، واهتزت كثير من “اليقينيات” الموضوعة، وبخاصة في الجزائر مع أحداث 5 أكتوبر 1988، وبرزت المطالب الأمازيغية هنا وهناك، وأُنشئ حزب بمرجعية أمازيغية في الجزائر، هو حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية من قِبل الناشط سعيد سعدي، وهو من مُحرّكي الربيع الأمازيغي، وترأس الزعيم التاريخي حسين آيت أحمد في ديسمبر 1989 تجمعا ضخما في الجزائر العاصمة، وقد عاد إليه بعد المنفى، وحمل المتظاهرون بالأمازيغية شعار “فلندافع عن حقوقنا” كتبت بالأمازيغية “أنْ نَوّتْ خْفْ إزْرْف نخ” بحروف لاتينية.
وحينما أقدم نشطاء أمازيغ من المغرب في الجنوب الشرقي في مايو 1994 على رفع لافتة بحروف تيفيناع تمت محاكمتهم بدعوى تهديد أمن الدولة، والتآمر الخارجي (وُجدت لديهم مجالات تصدر من تيزي وزو)، ولكن الملك الحسن الثاني أدرك طبيعة الظرف، والسياق الوطني والإقليمي والدولي، وأصدر عفوا عن المعتقلين، ووعد بتدريس “اللهجات” الأمازيغية.
ولم تُدرّس اللهجات، وكان يبدو أن الأمر لم يزد سوى أن يكون عبارة عن أثر إعلان كما يقال بالفرنسية، أو خدمة الشفاه بالإنجليزية، أي كلاما حلوا لا غير، وأنه مثلما أسر لي مؤرخ المملكة السابق المرحوم عبد الوهاب بن منصور (وهو بالمناسبة من أصول جزائرية، من عين الحوت قرب تلمسان) أثناء زيارة الملك الحسن الثاني لواشنطن في مارس 1995، أنه إعلان نوايا لا غير، وأنه لإحراج الجزائر.
كان من العسير عليّ بعدها، من الناحية النفسية، أن أجد ذاتي في جبة مؤرخ المملكة، وأقنع بموظف الخدمة، كما في الأدبيات الاستعمارية “Le suppôt de service”، ولذلك استنكفت عنه.
- قيادات جديدة وتوجس دائم
في أبريل 1999، تولى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة مقاليد الحكم، وفي يوليوز من نفس السنة خَلَف محمد السادس والده، وكان عبد العزيز بوتفليقة، جراء مرجعيته المنبثقة عن حرب التحرير، قد أعلن في أغسطس من سنة توليه الحكم بتيزي وزو، في سياق جولاته للترويج لبرنامج الوئام المدني، أنه لن يعترف بالأمازيغية لغة وطنية.
وسيدفعه تطور الأحداث في أعقاب ما عرف بالربيع الأسود، إلى التراجع عن موقفه في زيارة لمنطقة القبائل، والصدع بآية قرآنية في أسلوب يُذكر بالحسن الثاني: “ربِّ اشرحْ لي صدري، ويَسِّر لي أمري” الآية.
كان الموقف المغربي مختلفا نسبيا، وقد سبق للسلطات الجزائرية أن عبرت عن استيائها من تعيين أول ناطق رسمي للقصر، كاتب هذه السطور، الذي لم يُخف قط دفاعه عن البعد الأمازيغي في الثقافة المغاربية، واللغة الأمازيغية، ولم يتخندق قط في فهم ضيّق لها، أو في عداء للغة العربية أو الإسلام،
وكان يصدر حينها من منطق الدولة ومصلحتها ويدرك الفيصل ما بين الآراء الشخصية والتوجهات الفكرية وقواعد الدولة ومنطقها، ولكن المواقف المسبقة، هنا وهناك، كانت تقوم بديلا عن النظرة الفاحصة، وقد اعتبرت السلطات الأمنية كاتب هذه السطور ضالعا في استصدار ما سمي بالبيان الأمازيغي في مارس 2000.
ومعرفته بأصحابه ليست دليلا على ضلوعه. وكان ذلك كافيا لوضعه موضع شبهة وتوجس. ولم يكن في البيان ما يثير سوى أنه جاء بعد رسالة لشيخ جماعة العدل والإحسان المرحوم عبد السلام ياسين، “لمن يهمه الأمر”، هي عبارة عن فتح للنار على العهد الجديد، ولعل القرينة التي استند لها الأمنيون ومن يتحلق حولهم، وهم من أصحاب الشقشقات الصحافية والتكوين الأكاديمي الضحل،
هو رسالة دكتوراه الدولة لكاتب هذه السطور عن الحركات الاحتجاجية، الحركة الإسلامية والحركة الأمازيغية. والثابت أن السلطات المغربية لم تُقدم على الاعتراف بالثقافة الأمازيغية وإنشاء معهد يُعنى بها ولغتها إلاّ جراء ما عُرف بالربيع الأسود في الجزائر في مايو من سنة 2001، عقب مقتل الناشط الأمازيغي ماسينسا كرماح.
كانت إصابةً في شباك النظام الجزائري، ولذلك رد النظام الجزائري بعدها، من خلال الاعتراف بالسنة الأمازيغية، وبخاصة أن عناصر من السلطات الجزائرية سبق لها أن اتهمت السلطات المغربية بتأجيج الاحتجاجات بغرضاية. والمؤكد كذلك أن دبلوماسيا مغربيا من منبر الأمم المتحدة طالب بحق الشعب القبايلي في تقرير المصير.
ويبدو من وجهة نظري أن النظامين يريدان أن يلتفا على طبيعة المطالب الأمازيغية، وتضييقها في حيز الثقافية، وأنهما من خلال تراشقهما يعبثان بالنار. فما يمنع النظام الجزائري وقد جاهر دبلوماسي مغربي بموقف أرعن، أن يرد الصاع صاعين؟ هي لعبة غير مُؤمَّنَة العواقب، في سياق مضطرب، من دون أن يعني ذلك من جانبي الالتفاف على مطالب الحركة الثقافية الأمازيغية أو تبخسيها.
الاعتراف بالسنة الأمازيغية هو بلا مراء مكسب لساكنة شمال إفريقيا عامة. بيد أن عمق خطاب الحركة الأمازيغية هو الوحدة والبُرء من كل أشكال الاستلاب والحِجْر الثقافي والسياسي، أَأتى من الغرب أم من الشرق.