الهوية في زمن العولمة
الحركة العامة الرامية إلى إزالة الحواجز بين المجتمعات «العولمة» مصحوبة باحتدام وتأجيج الهويات الخاصة سواء كانت عقائدية أو قومية أو إثنية… وتتطلب تباينات تلك الظواهر العقلانية الاستيهامية في الوقت نفسه أن نتفهم بقدر أكبر دوافع العولمة ونقيضها المتمثل في الاحتماء بالهوية من كتاب جان فرانسوا بايار «أوهام الهوية».
الهوية هي وجود وماهية غير أنها لا تمثل جوهرًا ثابتًا ومتعاليًا على الزمان والمكان، بل حال متحركة ومتداخلة، إنها «صيرورة» بالمعنى المجازي والتاريخي الذي يتيح تضمينها إشكاليات وأزمات هي لازمة لها، والهوية من حيث هي كذلك،
هو ذلك الكل من العلاقات والصلات (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والثقافية) وهي ترتبط باللغة والتاريخ والمصير الواحد والمصالح المشتركة، والمحددة بأبعادها وعلاقاتها التي تتمثل في علاقة الأنا (الذات) بالأنا، وعلاقة الأنا بالواقع (العمل، المعرفة، الأفكار) في سيرورته، وعلاقة الأنا بالآخر، غير أن هذه الأبعاد ليست انشطارات منعزلة بل تحكمها علاقة جدلية مترابطة ومتحركة.
الاحتكاك الأول أو الصدمة الحضارية التي مثلها الغرب (في عصوره الحديثة) إزاء الهوية العربية المنكسرة تمثل في احتلال نابليون لمصر في أواخر القرن الثامن عشر، وبداية الاتصال بالغرب عن طريق البعثات التعليمية والإرساليات التبشيرية المسيحية،
ثم السيطرة الاستعمارية (الكولينيالية) الغربية على تركة الرجل المريض المتمثل في الخلافة العثمانية، بعد إفشال وإجهاض إقامة الدولة العربية الكبرى، وهو ما شكل عامل تحدٍّ خطير، وحفز الهوية العربية– الإسلامية المنهكة والسقيمة والمتوترة بفعل قرون من الجمود والتخلف الذي ساد المجتمعات العربية– الإسلامية،
في ذات الوقت الذي استيقظت فيه أوربا من سباتها، وولجت عصر النهضة (القرن السادس عشر) وفكر الأنوار والثورات وخصوصًا الثورة الفرنسية (القرن الثامن عشر) والثورة الصناعية في بريطانيا (القرن التاسع عشر) وما أعقبها من تحولات اجتماعية وسياسية عميقة، إزاء هذا الوفد الجديد والقوي والمتحكم الذي هو الغرب فإن الهوية العربية– الإسلامية المرتبكة والحائرة اتخذت ثلاثة توجهات وَسَمَتْ ما سُمِّيَ بعصر النهضة العربية.
الاتجاه الأول هو الممانعة والرفض عبر الانكفاء على مفهوم محدد وثابت لهوية (القومية والدين) قائمة تستحضر الماضي التليد باعتباره المستقبل المنشود حيث يكون الحاضر هو المستقبل الماضي كردِّ فِعلٍ استيهاميٍّ دفاعيٍّ وارتكاسيٍّ إزاء الانتهاكات والسيطرة والاستلاب الذي مارسه الآخر المتمثل في الأجنبي، المستعمر الأوربي، المسيحي الملحد، المنتصر، المتفوق، المتعالي، المدنِّس،
هذه الصور المتداخلة والمتناقضة للآخر تمثلت في أعمال وكتابات وأطروحات العديد من رجالات عصر النهضة. وقد عبر جمال الدين الأفغاني رغم كتاباته التنويرية عن هذه الهواجس حيث نادى بضرورة قيام «الجامعة الإسلامية» كردٍّ على محاولات السيطرة والهيمنة الاستعمارية الغربية التي عَدَّها الخطر الرئيس والمباشر.
الاتجاه الثاني تمثل في السعي للمواءمة ما بين الأنا والآخر وقد عبر عنها رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وذلك من خلال المصالحة بين الدين (الأنا- نحن) والعلم (الآخر) ونادى محمد عبده بالدولة المدنية في كتابه «الإسلام بين العلم والمدنية»،
في حين رفض علي عبدالرازق الدعوة إلى إحياء الخلافة وأكَّدَ على مدنية الدولة في الإسلام وذلك في كتابه «أصول الحكم في الإسلام»، وناهض عبدالرحمن الكواكبي انطلاقًا من «الأنا» العروبية «أي عمومية إسلامية» استبدادية، والجدير بالذكر أن من ذكرت كلهم رجال دين (أزهريون) كبار.
- الاندماج في الآخر
الاتجاه الثالث دعا إلى الاندماج الكلي أو الجزئي في الآخر وتمثل ثقافته وحضارته باعتبارها ظاهرة إنسانية شاملة (فرح أنطوان وسلامة موسى) أو من خلال الاحتكام إلى العقل والعقلانية وتوطينها ضمن مكونات الهوية الوطنية باعتبارها ظاهرة محايدة توجد في الحضارات والمجتمعات الحية كافة (طه حسين).
إذًا إزاء الآخر نشطت هويات مفترضة مشرقية وعربية وإسلامية ووطنية تعايشت وتساكنت مع هويات فرعية (ثاوية) قوية تمثلت في الهويات الإثنية والقبلية والدينية والطائفية والمذهبية، وتصدرت ثنائية العروبة والإسلام في تحديد هوية السكان العرب،
حيث أخذ القوميون العرب والإسلاميون يسبغون مواصفات ثابتة هي أصل وجوهر مثل العروبة أولًا، وأن العرب مادة الإسلام، أو الإسلام أولًا وأن الإسلام روح العروبة، وفي الواقع إن الصراع حول الماضي في حقيقته هو صراع حول الحاضر والمستقبل، أي حاضر ومستقبل نريد؟
وأخذت تتصدر الثنائيات والمقابلات المصطنعة ما بين الأصالة والمعاصرة، القديم والجديد، الخصوصية والكونية، النقل والعقل، وبين هذا وذاك عُدَّ الغرب (الاستعماري) مصدرَ كل الشرور التي عاينها الشرق والعرب والمسلمون،
وهذا صحيح جزئيًّا، غير أنه لم يجر في المقابل الالتفات إلى الواقع المزري (التخلف والجهل والأمية والفقر والاستبداد) الذي ساد المجتمعات العربية– الإسلامية قرونًا عدة، كما غاب أو غُيِّبَ الجوهري والأساسي في الحضارة الغربية وهو تقديمها للهوية السياسية على ما عداها من هويات فرعية،
حيث أقامت رابطة وهوية جديدة على أساس مفهوم الدولة – الأمة المستند إلى المبادئ الدستورية والقانونية (العقد الاجتماعي) والتميز والفصل بين المجالين الديني والمدني، والتأكيد على مفهوم المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، وترسيخ منظمات ومؤسسات المجتمع المدني التي تستوعب وتحترم المكونات (الهويات) الفرعية الأُخَر كافة.
إننا في سياق زمن يتسم بكونية الثقافة وعالميتها، ومع أن هذه العملية منجز إنساني حقيقي لا يمكن تجاهله فضلًا عن العجز عن مواجهته، فلا بد هنا من الإشارة إلى الجوانب المتناقضة لهذه العملية خصوصًا في عصر العولمة حيث يتم ذلك على حساب تهجين وتطويع واستتباع الهويات والثقافات الوطنية الأخرى،
وتمييع خصائصها ومقوماتها لصالح ثقافة استهلاكية سائدة يجري استنباتها عن طريق استخدام معطيات الثورة العلمية- التكنولوجية خصوصًا في مجال الاتصال والتوصيل، وتجري عملية تجنيس وإعادة صياغة للتفكير والسلوك والمفاهيم والذائقة ونمط الحياة والمعيشة بما يتناسب مع مصالح مراكز التحكم والسيطرة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية بكل ما يتضمن تلك الثقافة الاستهلاكية من استلاب وتغريب وتهميش للهويات المختلفة.
- تشظي الهوية
واجه المشروع النهضوي العربي (منذ بداياته في منتصف القرن التاسع عشر) بتياراته وروافده المختلفة رغم الجهود والإسهامات المميزة لرجال النهضة وفكر التنوير طريقًا مسدودًا، وأُجْهِضَ، وبالتالي لم يتسنَّ لمشاريع الإصلاح (الفكري– السياسي) ولقيم الحرية والعقلانية والتنوير والتقدم أن ترسخ وجودها، في ظل عوائق وعقبات موضوعية وذاتية تمثلت في بنية اجتماعية أبوية (بطريركية) متخلفة،
وفي الهيمنة الاستعمارية، وطبيعة الأنظمة العربية التابعة لها، ومحدودية مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وهو ما وسم تلك المشاريع بالعجز عن توليد نسق من المفاهيم والمقولات الجديدة التي تستجيب لخصائص وظروف تشكل وتطور المجتمعات العربية.
موقف العرب من الغرب كان ملتبسًا ومتناقضًا منذ البداية فهو من جهة الغرب القوي والمتطور صناعيًّا وعلميًّا وحضاريًّا وتسود مجتمعاته قيم الحرية والديمقراطية ومن جهة أخرى فهو الغرب الاستعماري المتعالي الذي مارس سيطرته واستبداده بحق الشعوب العربية ونهب واستباح خيراتها وحدَّ وعرقل من تطورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي،
كما أجهض تطلعاتها في التوحد القومي في إطار دولة عربية واحدة في أعقاب تفكك السلطة العثمانية، ووقوع معظم البلدان العربية تحت السيطرة والهيمنة (الغربية) الاستعمارية، وهو الأمر الذي حفز المزاج الشعبي الرافض لا للحالة الاستعمارية فحسب بل لنظمه وقيمه،
وبخاصة أن الظروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية التي تشكلت من خلالها البرجوازية والفئات الوسطى في المجتمعات العربية طبعتها بطابع المحافظة والازدواجية والانتقائية، أضف إلى ذلك مستوى وعي وإدراك الناس ونفسيتهم الاجتماعية وتراثهم والأسطورة والترميز المتحكم في وجودهم وذاكرتهم التاريخية الممتدة إلى تفاصيل حياتهم وتفكيرهم وسلوكهم.
مما تقدم تبين لنا كيف أن المشروع النهضوي واجَهَ منذ بداياته أزمته البنيوية التي هي جزءًا من أزمة الواقع العربي بمستوياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فقد أدى كفاح الشعوب وحركة التحرر في البلدان العربية لنيل استقلالها وتحقيق سيادتها الوطنية إلى بروز ومن ثم ترسيخ الدولة (القطرية) الوطنية، ومع موضوعية وضرورة هذه العملية تاريخيًّا
فإنها شكلت بداية الانتكاس للمشروع القومي العربي؛ إذ أصبحت العلاقة الملتبسة ما بين الهويات الوطنية المتشكلة والهوية القومية (العروبة) المحور الرئيسي الذي تتمفصل حوله مشاريع العمل العربي المشترك كافة، والصراعات والتناقضات أيضًا كافة،
وبذا تحققت عملية قطع تاريخي منعت وعاقت قيام وتبلور الهوية (الأمة) العربية في أطار دولة واحدة خلافًا لما تم في مناطق عديدة من العالم قديمًا وحديثًا، فالأمة العربية هي من الأمم القليلة التي لم تحقق وحدتها القومية بعد، غير أن هناك تجربة تاريخية متميزة وناجحة تمثلت في عملية توحيد معظم شبه الجزيرة العربية (منبع العرب والعروبة والإسلام) التي قادها الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود.
لقد توطدت وترسخت مواقع الدولة الوطنية في موازاة ضمور المشروع القومي، وبخاصة بعد إخفاق المحاولات الوحدوية لأسباب عديدة أبرزها إغفال وتجاهل التمايزات والتباينات القطرية والقفز عليها، وفرض وتحقيق المشاريع الوحدوية بأساليب فوقية (تسلطية) واستعراضية، وتجاهل المبادئ الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان،
بما في ذلك حقوق الأقليات الإثنية والدينية والمذهبية، ولا ننسى بالطبع تدخلات الاستعمار والقوى الغربية والصهيونية وإسرائيل لإجهاض وإفشال تلك التجارب. كما أن التجمعات القومية (الجامعة العربية) والإقليمية للتعاون العربي فشلت هي الأخرى في تحقيق الحد الأدنى من التنسيق والتكامل وهو ما أصاب مجمل النظام العربي بالترهل والوهن والعطب،
وليس أدل على ذلك من إقدام النظام العراقي السابق على احتلال دولة الكويت (2 أغسطس 1990م) وإرهاب وتشريد شعبها تحت شعار عودة الفرع إلى الأصل وتطبيقًا لمفهوم الإقليم– القاعدة، إلى جانب تهديد دول الخليج العربي الأخرى،
وهو ما شكل حالة فريدة وشاذة ضمن معطيات العصر الراهن من حيث التوسل بالعامل القومي للتغطية على سياسات قطرية بل ممارسات (ذات منحى عشائري– طائفي) متطرفة تتسم بالفردية والتسلط والاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان والإرهاب إزاء شعبه وجيرانه في آنٍ واحد.
مثل هذه المواقف والسياسات المتهورة وجهت ضربة قاصمة لمفهوم الأمة العربية وللنظام العربي، وعمَّقت ظاهرة الاستقطاب والانقسام ليس بين الأنظمة العربية فقط، بل على مستوى الشعوب ونخبها وتياراتها المختلفة،
وهو ما أخلّ وأضرّ بالعلاقة الجدلية المفترضة ما بين الوطني والقومي، وأضعف الموقف العربي برمته إزاء التحديات الإقليمية والدولية، وتعمق الارتهان والتبعية للخارج وعلى جميع المستويات، وانعكس ذلك في ضمور وتآكل شرعية الدولة العربية التي فاقمها الفشل في تحقيق أي من الشعارات والأهداف الوطنية والقومية الكبرى التي رفعتها.
كل ذلك أدى إلى تشظي الهوية الوطنية والقومية، وتصدر الهويات (الإثنية والمناطقية والقبلية والدينية والمذهبية) الثانوية القاتلة، في حرب الجميع ضد الجميع، أو المأكلة الكبرى وفقًا للفيلسوف البريطاني توماس هوبز.
نجيب الخنيزي – كاتب سعودي