حجاز المغاربة: تسجيلاً وتخيّلاً
حينما يتحدث المغاربة عن “الرحلة الكبرى” يكون المقصود هو رحلة الحج إلى الحجاز. عنها وعلى امتداد التاريخ الطويل ألّف رحّالتهم عشرات الكتب: “تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار” لابن جبير، و”الرحلة العياشيّة إلى الديار النورانية الشهيرة” بـ “ماء الموائد” لأبي سالم العياشي، و”الرحلة الناصرية” لابن ناصر الدرعي، ورحلة محمد بن عبد الوهاب المكناسي “إحراز المعلى والرقيب في حج بيت الله الحرام وزيارة القدس الشريف والتبرك بقبر الحبيب”، و”الرحلة الحجازية” لابن الطيب الشرقي الفاسي، وغيرها من أمّهات الرحلات المغربية إلى الحج.
هذا من دون أن ننسى ابن بطوطة رحالة المغرب الأشهر الذي طاف البلاد العربية من أقصاها إلى أقصاها قبل أن يتوغل في أدغال أفريقيا ويستكشف آسيا عابراً الهند والصين وبلاد التتار. لكن الرحالة الطنجي سيسجل في مقدمة كتابه الفريد “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” أن الهدف الأول والأهم لرحلته كان “حج بيت الله الحرام وزيارة قبر الرسول”.
ولأن هذا التقليد متجذر في الثقافة والأدب المغربيين فقد حافظ عليه المعاصرون. هكذا أصدر الأنثربولوجي المغربي عبد الله حمودي رحلته الحجّية الخاصة في كتاب مشوق عن دار النشر الفرنسية (سوي) سنة 2005 قبل أن ينقله إلى العربية المترجم عبد الكبير الشرقاوي، لتصدر الترجمة عن “دار الساقي” تحت عنوان “حكاية حج: موسم في مكة” سنة 2010.
وإضافة إلى توثيق السفر في مختلف مراحله، تعامل حمودي مع الحج في هذا الكتاب باعتباره موضوعا أنثروبولوجيا، وشعيرة قدسية ممتلئة بالرموز، وكمجال لتشابك الديني بالتجاري والإيديولوجي، ومحطة لتبادل الثقافات واللغات والمعاني والنظم الرمزية. وهو ما لا يشكل استثناء، لأن الرحلات الحجية القديمة كانت بدورها تحتضن الكثير من الأشعار والتراجم والنوازل الفقهية والمطارحات الأدبية، مما جعلها تبدو أشبه ما يكون بموسوعات.
مؤخرا أصدر الأديب أحمد المديني، رحلته الحجّية هو الآخر، تحت عنوان “الرحلة إلى بلاد الله”، والكتاب يتضمن تدويناً عيانياً سردياً لحج المؤلف إلى مكة المكرمة خلال موسم 2009. والطريف أن الكاتب أعاد إصدار رحلته في طبعة جديدة جاءت تحت عنوان “الرحلة إلى بلاد الله، يليها: الرحلة إلى رام الله”، وهكذا أخلص المديني مرة أخرى للتقليد المغربي الذي يجعل من التوقف في أرض فلسطين وزيارة القدس الشريف جزءا لا يتجزأ من الرحلة الحجية الكبرى.
تقليد الرحلات الحجية سيتجاوز لدى المغاربة مقام التوثيق والتسجيل إلى فضاء الإبداع والتخييل. يكفي أن نقرأ “تغريبة العبدي” للروائي المغربي عبد الرحيم لحبيبي، وهي الرواية التي بلغت اللائحة القصيرة لجائزة البوكر العام الماضي، وفيها يروي لحبيبي أهوالا متخيلة صادفها بطل روايته “العبدي ولد الحمرية” في رحلته إلى بيت الله الحرام، لنتأكد من ذلك.
ومن الإبداع الأدبي إلى الإبداع السينمائي، سيحوّل المخرج المغربي إسماعيل فروخي هذا التقليد المغربي الرّاسخ إلى الشاشة هذه المرة من خلال فيلمه “الرحلة الكبرى” الذي أنتجه سنة 2004، وهو الفيلم الذي حصد العديد من الجوائز العالمية، منها جائزة “أسد المستقبل” بمهرجان البندقية.
في هذا الفيلم الذي لعب بطولته الممثلان المغربي محمد مجد والجزائري نيقولا غزالي يحكي إسماعيل فروخي قصة أب مغربي مقيم في فرنسا قرر أن يصطحب معه في رحلته إلى الحج ابنه المولود في فرنسا والمترعرع هناك، ما جعله ينفصل تماما عن جذوره العربية الإسلامية.
ويحكي هذا الفيلم المُشوّق العديد من الوقائع الطريفة والمُصادفات الغريبة التي واجهت الحاج المغربي وابنه في طريقهما إلى مكة عبر تركيا والبلقان وسورية فالأردن، وصولا إلى البيت الحرام.