المراقبة الشاملة: رصد الجميع من الأعلى
أصيبت شارون واينبرجر بالصدمة عند اطّلاعها على كتاب يُسلط الضوء على تقنية تهدف إلى رصد جميع تحركات الأفراد.
أنتجت هوليود عام 1998 فيلمًا من أفلام الإثارة يحمل اسم «عدو الدولة» Enemy of the State، يُصوِّر تعقُّب إحدى وكالات التجسس غير الشرعية لرجل بريء (يؤدي دوره ويل سميث)، باستخدام القمر الصناعي المتطور «بيج دادي» بهدف رصد جميع تحركاته.
نجح الفيلم -الذي عُرض قبل أن يكشف إدوارد سنودن عن وجود شبكة مراقبة عالمية بخمسة عشر عامًا- في جذب قاعدة من المعجبين الذين استحوذت عليهم فكرته.
غير أن الأمر كان أكبر بكثير من مجرد استشرافٍ للمستقبل؛ فقد كان كذلك مصدر إلهام، بل ونموذجًا أوَّليًا لواحدة من أقوى تقنيات المراقبة التي ابتكرها الإنسان.
هذا ما يعتقده آرثر هولاند ميشيل، الكاتب والباحث في المجال التقني في كتابه الرائع «عيون في السماء»، إذ يُشير إلى أن باحثًا (لم يُحدَد اسمه) بمختبر لورانس ليفرمور الوطني في ولاية كاليفورنيا.
شاهد الفيلم في العرض الأول له، وقرَّر أن “يستكشف -من الناحية النظرية في بداية الأمر- كيف يمكن إلحاق تقنية التصوير الرقمي الناشئة بأحد الأقمار الصناعية” لابتكار شيء شبيه بالقمر الصناعي المتطوّر «بيج دادي»، على الرغم من «السيناريو المرعب» الذي تمخَّض عنه هذا الابتكار في الفيلم.
ويشير هولاند ميشيل مرارًا إلى هذا التناقض بين ما يحمله العلماء العسكريون من نوايا طيبة وتقنيةٍ قائمة على حبكة درامية قدمتها هوليوود تُصوِّر واقعًا مريرًا.
يتتبع هولاند تطوير الجيش الأمريكي لهذه التقنية التي تحمل اسم تصوير الحركة واسع النطاق (ويطلق عليها اختصارًا WAMI وتُنطق «وامي») بدايةً من عام 2001. عن طريق كاميرا فائقة الأداء، يمكن لتقنية «وامي» أن تلتقط صورًا لمساحات واسعة، تصل في بعض الأحيان إلى مدينة كاملة.
وقد شهدت هذه التقنية انطلاقتها الحقيقية بعد عام 2003، في الفترة التي سادتها الفوضى في أعقاب غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة، حين أصبحت القنابل المصنوعة بالمنازل -العبوات الناسفة بدائية الصنع (IED)- القاتل الأبرز للقوات الأمريكية وقوات التحالف.
ونتيجة لذلك، بدأ المسؤولون بوزارة الدفاع الدعوة إلى مشروع على غرار مشروع مانهاتن لرصد مواقع هذه العبوات والتعامل معها.
في عام 2006، تبنَّت وكالة مشروعات الأبحاث الدفاعية المتطورة (DARPA) والمعهود إليها بمهمة الابتكار العسكري في الجيش الأمريكي البحثَ المستوحى من السينما. (D. Kaiser Nature 543, 176-177; 2017) فقد قدَّمت الوكالة التمويل اللازم لتصنيع كاميرا محمولة على طائرة تبلغ سعتها نحو ملياري بيكسل.
وقد أطلقت القوات الجوية اسم «جورجون ستير» على المشروع، تيمُّنًا باسم الوحوش ذوي العيون الثاقبة في الأساطير الإغريقية القديمة، الذين يتحول من يرقب مظهرهم المرعب إلى حجارة.
(أطلقت وكالة مشروعات الأبحاث الدفاعية المتطورة اسم «آرجوس» على برنامجها وهو اسم كائن أسطوري آخر في صورة عملاق له 100 عين).
يلجأ بعض الكتب إلى أفلام الحركة الرائجة لإظهار الإمكانات المرعبة للتقنيات أو التهويل من شأنها. يظهر هنا فيلم «عدو الدولة» على نحوٍ متكرر بوصفه جزءًا لا يتجزأ من مشروع «جورجون ستير».
فقد دأب الباحثون على عرض مقاطع منه في مواجيزهم الإعلامية، إذ يقارنون تقنيتهم بتقنية «بيج دادي» (رغم أن الكاميرا التي ابتكروها توجد، حتى الآن، على الطائرات فقط وليس على الأقمار الصناعية).
ومن المذهل أنهم التمسوا المشورة، في مرحلة ما، من الشركة المسؤولة عن التصوير الجوي للفيلم. (دفعني هذا إلى التساؤل: أي مختبر من المختبرات الحكومية القائمة يعكف حاليًا على ابتكار «نجم الموت» المستوحى من سلسلة أفلام «حرب النجوم» Star Wars؟).
كتاب هولاند ميشيل ليس الأول الذي يُسلِّط الضوء على التقنيات الطامحة إلى الإحاطة بكل شيء، ولكنه من بين أفضل الكتب التي تناولت هذا الموضوع. كثيرًا ما تجد الكُتّاب الذين يدرسون نقاط التقاء التقنية والخصوصية يُكرِّرون تعبيرات مجازية عفا عليها الزمن، مُدَّعين أن كل ابتكار هو نسخة جديدة من «الأخ الكبير».
لكن كتاب «عيون في السماء» نادرٌ من نوعه: دراسة استقصائية عميقة التناول محكمة الصياغة، تسعى إلى فهم الآثار المترتبة على استخدام تقنية معينة ودوافع من ابتكروها. يشير هولاند ميشيل إلى التوترات القائمة بين مفهومي الأمن والخصوصية من غير مبالغة بشأنها.
وقد نجح في إقناع المسؤولين عن بناء تقنية «وامي» بالتحدث إليه بصراحة، بل وبطريقة صادمة في بعض الأحيان.
وكمثالٍ لذلك، ضابط الجيش الأمريكي السابق الذي يعمل على ترويج «مزايا» الإخضاع الاستعماري للهند (والذي يدِّعي على نحو شديد الغرابة أن مثل هذا الإخضاع قد أدى إلى استتباب النظام بين مختلف الجماعات العرقية في البلاد) بُغية تبرير المراقبة الشاملة في الولايات المتحدة.
أصبحت إمكانية المراقبة الشاملة محليًا إحدى النقاط الجوهرية. فمع تطور أحداث القصة، يبدأ القائمون على ابتكار «وامي» في البحث عن طرق لاستخدام التقنية العسكرية محليًا: فبعد أن فرغوا من ابتكارهم الجديد، يبحثون عن مزيد من أوجه الاستفادة منه.
وهنا، تبدأ القصة في اتخاذ منعطف أكثر رعبًا. يستخدم جون أرنولد، «أحد المليارديرات قليلي الظهور بوسائل الإعلام»، أمواله الخاصة سرًا في الاستفادة من تقنية «وامي» لمعاونة الشرطة على تعقُّب المشتبه بهم في مدينة بالتيمور بولاية مريلاند التي ترتفع فيها معدلات ارتكاب الجرائم.
كان أرنولد، الذي قدَّم تمويلًا من أجل «تقنيات أخرى جديدة لمكافحة الجريمة»، قد علم باستخدام تقنية «وامي» خارج حدود الولايات المتحدة لأول مرة عند استماعه إلى أحد الملفات الصوتية (البودكاست) وقرّر أن يبدأ استخدامها داخل البلاد. يكتب هولاند ميشيل قائلًا: “لقد أخفوا الأمر حتى عن عمدة المدينة نفسه”.
- مصالح خاصة
هل هذا هو مستقبلنا؟ عالم يموِّل فيه المليارديرات أجهزة الشرطة لرصد مدن بأكملها من أعلى؟ هكذا تتخذ الحبكة منعطفًا أقرب إلى فيلم «باتمان» Batman منه إلى فيلم «عدو الدولة»، على الرغم من أنه من الصعب أن نعرف مَنْ البطل.
(فعلى الأقل، جاء تمويل القمر الصناعي التخيلي «بيج دادي» من الكونجرس حتى إن اضطر داعموه لقتل أحد المشرّعين المعاندين لإتمام المهمة).
هذا يكفي لدفعنا إلى الحصول على قبعات من رقائق القصدير ستكون مفيدة في الوقاية مما يحذّر هولاند ميشيل من حدوثه في المرحلة التالية: عمليات تصوير بالأشعة تحت الحمراء يمكنها رصد الأفراد داخل منازلهم.
فحال استخدام تقنية «وامي»، فإن لديها بالفعل القدرة على تتبع تحركاتك وخط سيرك اليومي والسماح لمراقبيك بإعادة اقتفاء خطواتك على مدى أيام أو أسابيع.
ويُحسَب لهولاند ميشيل أنه نقل مقابلاته التي أجراها مع اختصاصيّي تقنية المراقبة مصحوبةً بسياقاتها لكن دون تعليق، مما يتيح للقراء استخلاص استنتاجاتهم الخاصة.
وفي واقعة أشير إليها باقتضاب، كشف هولاند ميشيل -بعد أن أميط اللثام عن مشروع بالتيمور- أن مالك الشركة التي أنشأت تقنية «وامي» ونشرتها هناك، قدَّم الهدايا «شخصيًا» لأحد المنسقين المجتمعيين.
وكان المنسق المجتمعي يعمل على إقناع قاطني مدينة بالتيمور أن «أخًا أكبر» يرصدهم من أعلى ربما يعمل لصالحهم.
أحد الأسئلة التي لم تجد إجابة بعد، والتي قد لا تكون لها إجابة، تتعلّق بمدى نجاح تقنية «وامي» في تحقيق الغرض الأصلي منها وهو الحيلولة دون وقوع هجمات العبوات الناسفة من جانب المتمردين في العراق وأفغانستان.
هولاند ميشيل غير متأكد بهذا الخصوص، لأن الإجابة سرية. ويذكر أنه على الرغم من أن الاستثمار في تقنية «وامي» “متواصل وبكثافة”، فإن “القوات الجوية رفضت طلبات متكررة للحصول ولو على مؤشر تقريبي لتأثير تقنية «وامي» في ساحة القتال”.
ما نعلمه بالفعل أن أفغانستان آخذة في الانزلاق نحو مزيد من الفوضى، رغم كونها من أكثر بلدان العالم خضوعًا للمراقبة. ولا يمكن إلقاء اللوم في ذلك على تقنية «وامي»، لكن هذا يشير بالتأكيد إلى أن هذه التقنية ليست نسخة معاصرة من مشروع مانهاتن.
ثمة عدد آخر من الأسئلة التي تطرح نفسها: هل يغفل هولاند ميشيل عن الصورة الكلية بتركيزه على تقنية بعينها؟ وهل التهديد الأكثر خطورة هو وصول الحكومات والشركات إلى أجهزتنا الإلكترونية؟ الإجابة على كلا السؤالين هي «لا»،
لأن هولاند ميشيل يُبيّن كذلك كيف أن الربط بين تقنية «وامي» وأجهزة استشعار أخرى، بما يشمل تلك الموجودة في الهواتف الذكية، سيخلق في نهاية المطاف “مدينة مرصودة بالكامل” بحيث “لا يصبح هناك مكان للاختباء”.
في نهاية الأمر، يتجاوز كتاب “عيون في السماء” عنوانه باستخدام مشروع «جورجون ستير» نافذةً تطل على مستقبلنا. وتبدو هذه الصورة قاتمة موحشة.
عندما يكتمل مشروع «جورجون ستير»، يطرح مايكل ميرمانز، وهو مدير تنفيذي في شركة سييرا نيفادا (الشركة الكائنة في مدينة سباركس في ولاية نيفادا والتي أنشأت المشروع) على نفسه سؤالًا مجازيًا عما إذا كانت المهمة قد انتهت.
والإجابة لا، بطبيعة الحال. يقول ميرمانز: “حينما يتعلّق الأمر بعالم جمع المعلومات وخلق المعرفة، فإنه لا يمكنك التوقف أبدًا”.
شارون واينبرجر مؤلفة كتاب «مبتكرو الحروب».
البريد الإلكتروني: [email protected]