“السيطرة على الإعلام”.. كيف لا نقرأ هذا الكتاب لتشومسكي؟!
كيف لنا ألا نقرأ كتاب السيطرة على الإعلام للفيلسوف والمفكر الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي، لنكتشف الوجه الآخر للإعلام المتواري عنا، ولنعي الصورة الحقيقية والمتوحشة للإعلام الأمريكي على عكس الصورة البديهية المزينة التي تبدو للغالبية منا، وحتى نزيل تلك الغشاوة التي طالما حجبت عنا جوهر الحقيقة وماهية الأمور من حولنا، وكيف أن الدعاية أو البروبكندا هي من تتحكم في زمام أمور العامة وإدارة الرأي العام، ورغم أن أمريكا تبدو في ظاهرها تلك الإمبراطورية الراعية للديمقراطية وحقوق الإنسان عبر العالم، إلا أن حقيقتها بعيدة كل البعد عن هذه الصورة المزيفة التي سوقتها اعتمادا على قوة إعلامية هائلة متحكمة في العقول وموجهة للجمهور.
وهنا يعرض تشومسكي كيف أن هيئة كريل للدعاية والمكونة من كبار الشخصيات الأمريكية استطاعت في عهد الرئيس ويلسون تحويل الرأي العام الأمريكي من مناهضة الحرب ضد ألمانيا إلى الاستعداد الكامل لدخول الحرب العالمية الأولى بهستيريا وتعطش، وأورد تشومسكي في كتابه حجم النفاق الذي يقف وراء إمبراطورية الإعلام العالمي وتحديدا الإعلام الأمريكي، القادر على تغيير أنظمة وإبادة شعوب وإشعال حروب طاحنة عن طريق الترويج لأخبار كاذبة ونشر دعايات لا أساس لها من الصحة، لتشكل بها ما يشبه الصدمة الكبرى تجعل المتلقي على استعداد كامل لتصديق أي شيء يُعرض عليه.
نقطة ضعف الإعلام هو الإعلام نفسه، بمعنى أن الإعلام يفضح بعضه البعض، ويظهر هذا جليا في البلدان الديمقراطية التي تتنافس فيها المؤسسات الإعلامية محاولة إظهار الحقيقة وفضح الطرف الآخر |
ويسير الإعلام جنبا إلى جنب مع السياسات المتبعة للولايات المتحدة الأمريكية، بحيث يسهر على تقديم المبررات والذرائع اللازمة التي من شأنها تعزيز موقف واشنطن تجاه أي قرار اتخذته أو حرب شنتها، رغم أن هذه المبررات غالبا ما تكون واهية وصبيانية.
وهذا بالضبط ما حصل مع صدام حسين إبان حرب الخليج وكيف أن الإعلام الأمريكي تمكن وفي فترة وجيزة جدا من تغيير صورة زعيم العراق من حليف قوي للولايات المتحدة الأمريكية إلى حاكم ديكتاتوري متمرد على قيم الديمقراطية.
يلعب الإعلام دورا مهما في صناعة الخطر المحدق بالشعوب، وهذا الخطر يستلزم بالضرورة التحرك عاجلا لوقفه وتقديم كل التضحيات في سبيل ذلك، هنا تتبلور فكرة السيطرة على الشعوب التي نعتها تشومسكي في كتابه بقيادة القطيع الضال المنساق وراء إملاءات السلطة الحاكمة، ليتحول مع الوقت إلى كراكيز ساكنة تكتفي بالمشاهدة للعملية الديمقراطية فقط لكنها لا تشارك فيها.
ثم يختتم تشومسكي كتابه صغير الحجم بحكاية الصحفي القادم من المريخ، والذي أراد به أن يوجد فاعلا محايدا يتخذه حكما على تناقضات الولايات المتحدة الأمريكية في حربها على الإرهاب، في حين أنها تغمض الطرف عن جرائم ومذابح ضد الإنسانية كانت طرفا رئيسيا فيها، لتظهر نواياها المبيتة تحت غطاءِ هذا المبرر السخيف لشن حربها المُخطّطِ لها مسبقا مثلما فعلت مع ألمانيا والشيوعية.
وكما نقلت أمريكا الحرب إلى خارج حدودها ورمت بها في أفغانستان والعراق وسوريا، قامت أيضا بالموازاة مع ذلك بإدارة الصراع الإعلامي خارج حدودها، وذلك بالضغط على الأنظمة الاستبدادية ليسير إعلامُها وفق الأجندات التي تُحدّدها، على عكس الدول الشمولية التي تتحكم في إعلامها الداخلي لكنها تفتقدُ السيطرة على الإعلام الخارجي الذي يحركها كيف يشاء، فينشر فضائحها إذا دعت الضرورة لذلك، ويتغاضى عن تجاوزاتها لنفس السبب.
ويمكن القول أن الضجة التي عرفها كتاب السيطرة على الإعلام لتشومسكي بعد صدوره سنة 2003 لم تكن لتحدث لولا أن الشعب الأمريكي بعيد كل البعد عن مستنقع السياسة الآسن، وقد حصل معه ما يشبه الصدمة القوية دفعته إلى طرح تساؤلات من بينها: هل تفعل الولايات المتحدة الأمريكية كل هذا دون أن نشعر؟
في حين أن كل ما جاء به الكتاب لا يشكل جديدا بالنسبة للشعوب العربية التي يعرف صغيرها قبل كبيرها وجاهلها قبل متعلمها أن أمريكا طالما مارست وتمارس الكذب بشكل يشبه إلى حد بعيد شغفاً متوارثا، وهي لا تولي اهتماما كبيرا للرأي العام الداخلي الذي يعيش حالة من الترف ومن السذاجة السياسية بقدر ما يؤرقها تشبع الشعوب العربية بالفكر السياسي وإدراكها الكبير لماهية الأمور في المنطقة.
وهذا حال الشعوب المتخلفة، تجري فيها السياسة مجرى الدم، في حين نجد في الدول المتقدمة أن شغلهم الشاغل مثلا هو تنمية الذات والحفاظ على رشاقة الجسم وممارسة الرياضة وما إلى ذلك، وأكثرهم لم يسمع بحرب العراق أو سوريا ولا يعرف حتى موقعهما من الخريطة.
أعتقد أن نقطة ضعف الإعلام هو الإعلام نفسه، بمعنى أن الإعلام يفضح بعضه البعض، ويظهر هذا جليا في البلدان الديمقراطية التي تتنافس فيها المؤسسات الإعلامية محاولة إظهار الحقيقة وفضح الطرف الآخر، وهذا لا نجده طبعا في الدول الشمولية التي لا تقوم أصلا على أسس ديمقراطية، بحيث تميل كلها إلى تكريس قطبية الإعلام، وعدم فتح المجال أمام المنافسة الإعلامية التي تحسن من جودة المعلومة وترفع من نسبة مصداقيتها.
كما أن الدول الشمولية تسعى دائما إلى تتفيه الإعلام وتسفيهه وجعله سطحيا إلى ابعد حد، يُسلط الضوء فقط على قضايا تافهة متناسيا القضايا المصيرية التي تهم الشعوب، حتى ينفرَ الناس منه، ويُعرضون عنه تماماً، وبالتالي يُفسحُ المجالُ أمامه واسعا لاقتياد القطيع المتبقي بالطريقة التي يريدها.
وإعلام الدول الشمولية لا يخرج عن دائرة إعلام اللحظة، أو إعلام الفوضى، فتجده ثابتا على وتيرة واحدة حتى إذا ظهر مستجد شمر على ساعديه ونشط وتحرك وارتفع منسوبه الإعلامي، ودافع ونقّب عن الذرائع والمبررات، ثم في الأحوال العادية سرعان ما يعود إلى روتينه الممل، ورغم تعدد المنابر الإعلامية العربية إلا أنها فاقدة لرسالة الإعلام النبيلة، كونها تقبع تحت وصاية رجال الأعمال والأحزاب السياسية ويحتدم على أثيرها التراشق بالشتائم والكلمات البذيئة، لتضيع قيمة الخبر والمعلومة، وخير دليل على هذا ما يجري اليوم في الإعلام المصري الذي فقد كل أوراقه الإعلامية، وتحول إلى شيء آخر لا يمتّ للإعلام بصلة.
إن كتاب السيطرة على الإعلام لتشومسكي عزز من فضيحة سيطرة أمريكا وهيمنتها على الإعلام الداخلي والخارجي، وأمريكا لا تلتفت لانتقادات المؤسسات الإعلامية الدولية، فلتقل ما تشاء، المهم لديها أن تسير قدُما في تفعيل مخططاتها على أرض الواقع، لتتحول صدماتها السياسية مع مرور الوقت إلى واقع معاش يتقبله الجميع، أما الإعلام العربي فهو أمام تحديات كبيرة تفرض عليه إعادة هيكلة المنظومة الإعلامية برمتها، وتحويلها من إعلام هدام ينشر التفاهة بين الجمهور ويعمق الهوّة، إلى إعلام هادف يحل الأزمات ويقرب وجهات النظر.
عادل أعياشي: مدون مغربي مهتم بقضايا الإنسان.