واقع الصحافة الورقية في العالم العربي
في ظل الإمكانات الهائلة التي أتاحتْها التكنولوجيا الرقمية “الشابِكة[i]” للصحافة الإلكترونية، إلا أن نظيرتَها الورقية في العالم العربي ماتزال تعيش في الماضي شكلاً ومضموناً ومُمارسة، ويزداد انحصارُها يوما بعد آخر.
إذ تعاني الصحافة الورقية في بلادنا العربية من مشاكل وأزمات كثيرة ومركبة، يمكن أن نُجملها في المستوى التشريعي؛ مستوى البنية العامة؛ الإطار المهني؛ المؤهلات التكنولوجية؛ وفئات الجمهور المستهدَف.
فعلى المستوى التنظيميّ؛ لا تزال النظم الإدارية القديمة والبائدة هي نفسُها من تُسيّر وتُشرف على صدور كثيرٍ من الصحف في العالم العربي، دون أن تبدل مجهودا يُذكر للتجديد وتجاوز الإطار التقليدي الذي هيمن عليها لعقود طويلة، وإبداعِ طُرقٍ وآليات جديدة في الكيْف والمحتوى؛ تتناسب مع التطور الكبير والمتسارع الذي يعرفه الإعلام عموما؛ والصحافة الورقية على وجه الخصوص. مما تَسبَّب في إضاعة الكثير من الجهد والوقت والمال، وإضاعة قطاع عريض من القُراء أيضا، وانتهاءً إلى بيع الجريدة، أو إغلاقِها وإعلان الإفلاس.
إلى جانب المشكل الإداري والتنظيمي، يأتي المشكل القانوني كأحد أكبر المشاكل وأكثرِها تقييدا وتحجيما للحرية الصحافة في الوطن العربي، إذ ورغم مرور الصحافة في العالم بأسرِه إلى نموذج الألفية الجديدة، طبعا مع الإكراهات والانتهاكات الجمة التي تعيشها الصحافة عالميا، خصوصا في مناطق الصراعات والاضطرابات والنزاعات السياسية والعسكرية.
إلا أنها عززت موقعَها كسلطة رابعة فعَّالة ومراقِبة لكل السلطات الأخرى. ودافعت بشكل مستميثٍ عن حقِّها ورسالتِها في توصيل الخبر وتبصير الرأي العام بالحقيقة، وانتزعتْ نطاقات وهوامش أخرى لحرية الصحافة. فأصبح الإعلام صانعا للرأي العام وموجها له، وليس فقط معبرا عنه أو ناقلا له. وعلى النقيض تماما؛ فإن التشريعات والقوانين المنظمة لحقل الصحافة في العالم العربي.
لا تزداد إلا انكماشا وتضيقا لهامش الحريات الضيق أصلا. خصوصا مع صدور تقرير مقياس حرية الصحافة حول العالم لسنة 2017، الذي صنف جزر القُمر الأولى عربيا، و ـ 44 عالميا، وتراجعت دول عربية كانت الصحافة فيها عموما والورقية على وجه الخصوص إلى الأمس القريب؛ تعيش ما يمكن أن نسميّه أزها أيامِها رغم كل العراقيل التنظيمية والمحدِّدات التشريعية والقانونية التي تضيِّق وتكبِّل الصحافة وتحد من حريتِها؛ مقارنة مع حالتِها البئيسة اليوم. ونخص بالذكر هنا السودان؛ مصر ؛ العراق؛ سوريا؛ البحرين، الإمارات؛ السعودية؛ والمغرب.
لقد أضرَّ الجمود السياسي والانقلابات المتتالية والمتعاقبة في غالبية البلدان العربية على الصحافة وحريتها، وتم تدجين هذا الميدان ليصبح مجرَّد مرآة لتزيين الوجه القبيح للسلطة، وتسويِقِ منجزاتِها الوهمية داخليا وخارجيا، والتسبيح بحمد الحاكم.
أما فيما يخص النزر القليل من الصحف العربية التي تتسم ببعض المهنية وأغلبُها مستقلة والبعض منها محسوبٌ على المعارضة؛ والتي تصدُر من أوروبا وأمريكا، فإنها تعاني ما تعانيه من إكراهات الطباعة والتوزيع، وغالبتها محظورٌ دخولُها إلى بعض الدول العربية. ولكنها مؤخرا استفادت من التكنولوجية الرقمية، واستبدلت جُبَّتها الورقية المكلِّفة والمتعِبة إلى النموذج الإلكتروني السهل والعملي والفعال.
من الإكراهات الأخرى التي تعيشُها الصحافة العربية، وفي ظل ما يعرفُه العالم من انفجارٍ هائلا في المعلومات، يُعاني الصحفيون العرب من صعوبة الوصول إلى المعلومة؛ خصوصا ما يتعلَّق بالوثائق الرسمية والأرشيفية. في غياب التكوين الجيد للصحفيين وكذا غياب جهات ومصادر متنوعة ومستقلة للمعلومة. واستفحال الصحف الموالية؛ التي باتت مُشكلا مؤرقا للصحف المستقلة والمهنية على نُدرتِها.
إذ أصبحت هذه الصحف تساهم بشكل كبير في تخدير الرأي العام وإلهائه بمواد وموضوعات تافهة لا تحمل أي مضمون إعلامي أو معرفي حقيقي ومفيد. أما الصحف التي لم تجد صيغة توافقية مع السلطة، ولم تقبل بالدخول في جُبَّتِها؛ فقد كان مآلها الحرمان من الدعم ووضع العقبات أمامَها، وبعضها كان مصيرُه التغريم وسجن الصحفيين؛ وصولا إلى الإغلاق النهائي والحرمان من ممارسة مهنة الصحافة.
يجرُّنا هذا التحليل إلى ربط الصحافة بالأحزاب السياسية، فالضعف الذي تعيشه الحياة السياسية الحزبية في العالم العربي، هو نفسُه الذي تعيشها الصحافة، فكما هو معلوم؛ فإن الصحافة المكتوبة هي صوت الأحزاب، خصوصا الصحف السياسية اليومية. فجل الأحزاب العربية تقريبا متماهية مع السلطة، سواءً أكانت ملكيات أو جمهوريات أو أنظمة عسكرية في غطاء جمهوري.
في حين نجد عددا قليلا جدا من الصحف المستقلة التي تصدر بشكل أسبوعي، وهي في الغالب صحف نُخبوية تهتم بالرياضة أو الاقتصاد أو الفن والثقافة، يقرؤها نفرٌ محدود من الناس؛ إما بحسب الانتماء الإيديولوجي أو بمستوى النضج والوعي الفكري والسياسي. هذه الفئة من القُرَاء آخذة في الانحصار بشكل ملحوظ؛ بسبب استفحال كل أنواع الأمية بدءًا بالأمية الهجائية وانتهاءً بالأمية المعلوماتية.
فيما يخص الفئات المستهدفة من الصحافة العربية، فيمكننا أن نقول إن صحافتنا غير موجهة نهائيا، فهي تصدر لأجل الصدور فقط، فهي لا تعرف جمهورها، كما لا تعرف الجمهور الذي تريد أن تتوجه إليه بموادها الصحفية.
كما أن القضايا المهمة والمصيرية تم إزاحتها والتمويه عليها بعناوينَ مُفخخة ومنفوخة وخدّاعة لمواضيع وقضايا تافهة وفارغة. كما أن وعي القارئ العربي لم يتطور مثلما تطور نظيرُه الغربيّ لاعتبارات ولأسباب عديدة معروفة.
فالقارئ العربي والصحيفة أيضا؛ ما زالا تحكمُهما قاعدة؛ أن المواضيع المهمة هي تلك التي تتصدّر الصفحات الأولى في الصحيفة، وأن المواضيع الثانوية هي تلك التي تتوزع في الصفحات الأخير من الصحيفة. في حين تم تجاوز هذا الأمر، فالصحافة الورقية في الغرب (مثلا) تعتبر كل الموضوعات مهمة جدا، فهي موضوعات موجهة وتستهدف جمهورا موجودا معروفا ومتطور ومتزايدا.
وبالتالي فالصحيفة تراعي هذا الجمهور، وتعطيه موادّاً وموضوعات لائقة وعلى درجة كبيرة من الجودة والمنفعة، فعلى سبيل المثال، نلاحظ في الصحف الورقية الغربية تزاحم المواضيع الثقافية والفنية مع المواضيع السياسية والاقتصادية على غلاف الصحيفة.
إذ كلها بالنسبة للصحيفة على قدر واحد من الأهمية، تبعا لتشكيلة جمهور الصحيفة. فكل فئة ستتوجه إلى المواد التي تُفضلها وتتابعها. في حين ينعدم هذا الأمر تماما في الصحف العربية، فمازالت الصحف تسوق الموضوعات التافهة الفارغة على الصفحات الأولى للصحيفة وبعناوين ضخمة ومغرية وخدَّاعة.
وغالبيتها تتعلق بأنشطة الحاكم. في حين يتم القذف بالمقالات والموضوعات التي فيها بصيص من الأهمية والفائدة؛ كملاحق ثقافية وفنية واقتصادية في الصفحات الأخيرة من الصحيفة. هذا دون أن نتطرَّق إلى الأخطاء اللغوية والنحوية والإملائية؛ التي اجتاحتْ الصحافة العربية بسبب تطفل محدودي الكفاءة على هذا المجال الهام والصعب والمحفوف بالمخاطر.
كل هذه العوامل وغيرُها كثير ، حوَّل الصحافة العربية المكتوبة إلى مجرد روتينٍ يومي يستهلك المِداد والورق ووقود مواصلات التوزيع، ليقتنيَ القراءُ بعضاً من نسخِها إدمانا وليس اهتماما بمحتواها الإعلامي، وتنتهي ألاف النسخ الأخرى في مصانع إعادة تدوير الورق.
[i] الشابكة؛ هو المصطلح الذي وضعها مركز تنسيق التعريب كمرادف عربيٍّ علميّ للفظة الأنترنت.