الدراسات الأدبية

القراءة البطيئة

 

صار من المعروف والمتداول بسبب التطور الذي عرفته الدراسات اللسانية والأدبية، أن النص متعدد الدلالات. لكن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو: هل الكاتب الذي يؤلف النص يدرك أن نصه متعدد الدلالات، أم أنه حين ينبري للكتابة يسعى إلى تقديم دلالة معينة تعبر عن رؤيته للأشياء، وهو يعمل على توفير كل مستلزمات وقواعد الكتابة ليجعلها قابلة لأن يصل إليها القارئ؟ بدون إجهاد النظر في التأمل بقصد الجواب عن هذا السؤال يمكننا الجزم أن الكاتب يرمي عادة إلى تقديم صورة محددة لما يريد أن يكتبه أو يقوله. يُسلمنا هذا الجواب إلى تأكيد أن النص متعدد دلالات القراءة، وليس الكتابة.

قد يجهد الكاتب نفسه أحيانا، لسبب من الأسباب التاريخية، فيلجأ إلى اعتماد أساليب وحيل، أي تقنيات، لإخفاء مدلول ما يريده أمام نوع معين من القراء، أو قد يجعله متواريا لغايات ومقاصد معينة.

إن النص متعدد دلالات القراءة، وكل قارئ يتعامل مع النص وفق الطريقة التي اعتاد عليها في قراءة النصوص، أو تعود عليها من خلال ما تلقاه في المدرسة، أو تعلمه الذاتي، وتكونت لديه، بسبب ذلك، مهارة خاصة به في فك شيفراتها، والعمل على الوصول إلى أبعادها المختلفة، بل إن هذا القارئ نفسه قد يقرأ نصا بعينه قراءات مختلفة ومتعددة، بحسب تطور ملكاته وقدراته العقلية. إن قراءتنا لشعر طرفة في الثانوي يختلف عن قراءتنا له إذا ما تخصصنا في تحليل الشعر في مراحل لاحقة من حياتنا.

تتعدد دلالات النص بتعدد صور تلقيه من خلال عملية القراءة. والقراءة مثل الكتابة ليست مهارة ثابتة. إن التحول والتنوع والتعدد سمات مشتركة بين الكتابة والقراءة، وإن ما نكتبه في مرحلة المراهقة يختلف عن مرحلة الشيخوخة، ونقول الشيء نفسه عن القراءة. قد نطور كتاباتنا وقراءاتنا، ونجعلهما معا قابلتين للتطور والتبدل، إذا كنا نؤمن بضرورة التحول مع الزمن. وقد نقتنع أن الطريقة التي نتلقى بها الأشياء، أو نكتبها، صحيحة فلا نعمل على تطوير مهاراتنا وقدراتنا.

وهذا واحد من مظاهر الاختلاف بين الناس أيا كان مستواهم التعليمي والثقافي والمعرفي. قد تتلبسنا عادات فنصبح أسرى لها، ولا نستطيع منها فكاكا، لذلك قد نجد طالبين أو باحثين تحققت لهما الشروط نفسها في تلقي المعرفة، يختلفان في قراءة نص واحد، حتى إن كانا يوظفان المنهج نفسه، وينتميان إلى اتجاه تحليلي معين، فهل الأمر هنا يتعلق بالنص أو بتلقيه، أم بهما معا؟

كل شعب يقرأ، بصفة عامة، وفق الأدبيات التي تطورت لديه بحسب شروط تحوله التاريخي، ونظامه التعليمي.

القراءات متعددة، وأقصد بالقراءة هنا ليست التحليلية ولكن ما قبلها، إنها القراءة الأولى التي تسبق عملية التحليل، وفي غالب الأحيان يكون نتاجا لها، ولاسيما لدى القارئ العربي، الذي لم يتعلم من القراءة والكتابة في التعليم العربي، من الابتدائي إلى العالي، غير ترجمة النص إلى معنى مختزل في ما يسمى الأفكار، ولم يتعلم قط تقنيات القراءة أو الكتابة التي تمكنه من التواصل مع النص والتفاعل معه في كليته.

مع التكنولوجيا الجديدة للمعلومات، وما وفرته من غزارة على مستوى المعلومات، بات الحديث عن القراءة السريعة مطلبا مهما للقارئ كي يحقق المراد من القراءة، وظهرت عدة كتب تتناول هذه القراءة السريعة بالشرح والتفصيل، وهي تقدمها من خلال الدعوة لامتلاك عادات ومهارات جديدة ومختلفة عن القراءة التقليدية، كي لا أقول البطيئة. القراءة باعتبارها فعالية تواصلية متعددة ومتنوعة. وممارسة هذه الفعالية تختلف باختلاف ما نريد الوصول إليه من خلال امتلاكها وتطويرها.

كل شعب يقرأ، بصفة عامة، وفق الأدبيات التي تطورت لديه بحسب شروط تحوله التاريخي، ونظامه التعليمي. فهناك قراءة من أجل الفهم، وأخرى من أجل التأويل، وأخرى من أجل التفسير، ورابعة من أجل القراءة فقط، وأخرى من أجل النوم، وهكذا دواليك. كما أن هناك القراءة الكمية، وثمة الكيفية. فكيف يمكننا في الزمن الرقمي، وقد صارت النصوص مطروحة في الطريق أن نستفيد منها، ونحصل على ما نريد لتحقيق المتعة والفائدة معا؟ هل بالقراءة السريعة التي باتت مطلبا ضروريا أمام شساعة المادة المطروحة؟ أم لا بد من القراءة الكيفية البطيئة والقائمة على الفهم والاستيعاب؟

أدافع عن القراءة البطيئة والكيفية، والمؤسسة على مبدأ فهم صفحة واحدة من أي نص، إبداعيا كان أو فكريا، أحسن من قراءة الكتاب بكامله قراءة ننساها بعد مدة وجيزة. إنها قراءة صعبة جدا لمن لم يتمرس عليها. إنك مطالب فيها بإعادة كتابة ما تقرأ بطريقتك الخاصة، والمختلفة عن الطريقة التي فرضها علينا تعليمنا العربي، وهي التلخيص المبني على الاختزال وانتقاء الأوضح والأبسط. هذا الاختزال والانتقاء الذي نجده حتى في ترجماتنا. فالمقاطع «غير الواضحة» يتم حذفها في الكثير من الترجمات العربية؟ القراءة البطيئة قراءة تفاعلية بالمعنى الحقيقي للكلمة. إنها تمكننا من النفاذ إلى النص الواحد، وكل النصوص الأخرى متناصات معه. لا يمكننا الانتقال إلى امتلاك مهارة القراءة السريعة المرتبطة بالرقمي بدون تمثل طريقة القراءة البطيئة التي كان يفرضها الورقي.

 

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى