الدراسات الأدبية

ماذا فعل “جيرار جينيت” بالرواية ؟

 

لا يمكن للعلوم أن تتأسس وتتطور إلا بطريقة تراكمية تجعل من اللاحق تصحيحا وتمحيصا للسابق أو إضافة وتثبيا له، وقد أجمعنا الأمر أن نقتصر في هذه المقالة على تتبع جهود الناقد الفرنسي جينيت (1930 – 2018) وسنخص مشروعه النقدي بالدراسة والمقاربة على أن تكون لنا وقفات أخرى تباعا مع غيره من النقاد الذي أثروا الساحة النقدية بل والعلمية العالمية عموما. وتجدر الإشارة أن هذه المقالة كُتبت استرشادا واستلهاما وتلخيصا لمؤلف د. سليمة لوكام الموسوم بـ “تلقي السرديات في النقد المغاربي” وهو من تقديم أ.د محمد القاضي، وما أخذنا من هذا الكتاب واعتمادنا عليه إلا تقديرا منا للمجهود المبذول من طرف المؤلفة وعرفانا منا لها بأهمية ما أنجزت.

لجيرار جينيت عدة مؤلفات أهمها صور 1 وفيه حلل بعض السرود كالبحث عن الزمن الضائع لبروست، ثم أتبع كتابه ذاك بكتاب مشابه سماه صور 3 خصه للحديث عن الخطاب السردي، ثم أتبع كل ما سبق بـكتابه المعنون بـ “الجديد في الخطاب الحكائي”. تعد مقالة “حدود الحكي” المنشورة في العدد الثامن من مجلة تواصل حجر أساس رؤية جينيت في تحليل الحكي. تجدر الإشارة أن لجينيت مؤلفات أخرى “كمدخل إلى جامع النص” وكذا “أطراس” و”التخييل والإلقاء”. بعد اطالعه على منجزات أفلاطون وأرسطو خلُص جينيت إلى أن: الأدب عرف صيغة وحيدة للعرض هي المحكي، بوصفه مكافئا لفظيا لأحداث لفظية وأخرى غير لفظية.” حدود الحكي جيرار جينيت ص 161.

حيث السرد عند جينيت يقتضي وجود تمثيلات للأفعال والأحداث، أما الوصف فهو تمثيلات للأشياء والشخصيات الناتجة عن فعل الوصف. فيليب هامون مدخل لتحليل الوصفي ص 31 حيث الوصف عنده دائما رهن إشارة السرد متى ما طلب الأخير لبى الأول. وهو بهذا يقلص “مجال شعرية الأنواع التي تنزع نحو التطابق مع شعرية المحكي”. وللوصف وظيفتان أولاهما تزينية decorative، أما الأخرى فتوضيحية ورمزية في الآن ذاته وظيفتها تبرير نفسيات الشخصيات من خلال وصفها.

ميز جينيت بين 3 مصطلحات هي: القصة histoire المحتوى السردي أي المدلول والخطاب recit ما يوافق الدال، والسرد عنى به الفعل المنتج للحكي
في حديثه عن العلاقة بين الحكي والخطاب جعل جينيت الخطاب مجالا للبحث وليس الحكي. ووصف ميشال فوكو الخطاب بكونه موصولا بفعل الكتابة، الخطاب المعاصر في وقوعه المنغلق على نفسه. إحدى مبادئ جينيت في تعامله مع النصوص الأدبية التي يتناولها بالدراسة والتحليل هي أن: “لتحليل عمل أدبي لا ينبغي الانتقال من العام إلى الخاص وإنما من الخاص إلى العام.” أي أنه يرفض كسر خصوصية العمل الأدبي بدعوى صرامة النظريات العامة. وفي هذا الصدد يؤكد جينيت بقوله: ” علي أن أعترف أنني وأنا أبحث عن الخاص والمتميز أجد الهام والشمولي وأنني وأنا أحاول جعل النظرية في خدمة النقد أجدني مرغما على وضع النقد في خدمة النظرية.

ميز جينيت بين 3 مصطلحات هي: القصة histoire المحتوى السردي أي المدلول والخطاب recit ما يوافق الدال، والسرد عنى به الفعل المنتج للحكي. حيث الخطاب محل الاهتمام ومستقر الدراسة “باعتباره الوحيد الذي له قابلية الانفتاح على التحليل النصي.” واقتداء بمقولات تزفيتان تودروف الثلاث التي أوردها في مقالته المعنونة بـ “مقولات الحكي الأدبي” قسم جينيت كذلك تحليله للمحكي لثلاث مقولات رئيسة، هي على التوالي: مقولة الزمن وقد درس فيها العلاقة بين زمن القصة وزمن الخطاب، ومقولة الصيغة التي درس فيها أشكال التمثيل السردي ودرجاته، أما مقولة الصوت فقد تناول فيها علاقة السارد بالمتلقي. وسنتناول كل مقولات بالتفصيل فيما يلي.

أولا: مقولة الزمن
وتنقسم هذه المقولة لثلاثة فروع هي، الترتيب l’ordre والمدة la durée والتواتر la fréquence:

1- الترتيب
ونعني به نظام ترتيب الأحداث في الخطاب السردي في قابل ترتيب ظهورها الحقيقي في القصة، وكل عدم تطابق بينهما يُنتج انحرافا زمنيا وقد عد جينينت هذه الأخيرة أمرا يحدث دائما منذ الروايات الكلاسيكية القديمة بل إنه ذهب لأبعد من ذلك حين عد التطابق الزمني بين الخطاب والقصة أمو لا يمكن أن كون إلا على سبيل الافتراض لا الحقيقة.

وقد قسم جينيت المفارقات الزمنية لقسمين هما:
أ. الاستباق prolepse: كل إعلام وتنبؤ بما هو قادم من الزمن.
ب. الاسترجاع analepse: كل تذكر واسترجاع لما حدث قبل اللحظة الزمنية التي وصل لها الحكي.

وللاسترجاع عند جينيت أنواع كثيرة منها الاسترجاع الداخلي وهو نوعان استرجاع تكميلي يملأ الثغرات التي قفز عليها الزمن، والاسترجاع الخارجي، والاوتجدر الإشارة بداية أن جينيت يعتبر المفارقة الزمنية محكيا ثانويا يتبع حتما لمحكي أولي هو الخطاب قبل دخول المفارقة الزمنية. وللاستباق والاسترجاع مدى la portée حيث هي المسافة بين لحظة حاضر الحكي ولحظة المفارقة الزمنية. وسعة l’amplitude وهي المدة التي تغطيها المسافة.

وللاستباق حور في المرويات الغربية التقليدية يطغى على حضور الاسترجاع وتبرير ذلك أن هذا النوع من النصوص يهتم لأمر التشويق أكثر من سواه وهو ما يُحققه الاستباق حيث يشد انتباه القارئ ويجعله في حالة ترقب لما ستبوح به مقبل الصفحات وقادم الأحداث. وكل استباق يدل على تسريع سردي يحدث نوعا من الانتظار في ذهن القارئ، ويزول الانتظار بمجرد تحقق الإعلان في وقت لاحق في مدى قصير.

2- المدة
التواتر هو قياس عدد المرات التي ينتج فيها الحدث فعلا في القصة، وعدد المرات التي يُنتجها المحكي تعبيرا عن الحدث الذي حصل في القصة
إذا ما قارنا بين المدة والترتيب والتواتر فإن المدة هي الأصعب من حيث الدراسة، حيث تتعلق هذه الأخيرة بالزمن المستغرق في القراءة. “تتحدد سرعة المحكي بضبط العلاقة بين مدة القصة مقيسة بالدقائق والساعات وطول المحكي مقيسا بالسطور والصفحات.” جينيت خطاب الحكي، ص123 ووضع جينيت أربعة أشكال أساسية للحركة السردية هما الحذف والوقفة والمشهد والتلخيص.

أ‌. التلخيص le sommaire
حركة تسريع للزمن حيث يتم تلخيص ما حدث في سنوات وأشهر في بضع أسطر، حيث زمن المحكي هنا أقل من زمن القصة.

ب‌. الوقفة la pause
وهي وقفة وصفية غالبا، حيث تعرض لنا الشخصيات تفاصيل كنا نجهلها من قبيل وصف الشخصيات، الأماكن، الزمن. ويؤكد جينيت على أن الوصف البروستي خدم الرواية ولم يعطل سردها. وللوصف جملة وظائف كأن يكون وظيفيا يُذكر فيساهم في توضيح ما أُشكل أو سد فراغات سابقة، أو أن يكون جماليا لا غير.

ج. الحذف l’éllipse
وهو القفز على مدة زمنية دون إعطاء تفاصيلها، وقسم جينيت لقسمين الحذف المحدد حيث يتم فيه إعلان الحذف، وحذف أخر غير محدد وهو عكس الأول حيث لا نعلم بالضبط كم هي المدة المحذوفة كقولنا: وبعد سنوات. وهناك نوع أخر من الحذف يتعين استنادا للشكل فيصير لدينا حذف صريح explicite يذكر السارد مدة السرد –سواء أكانت محددة أو غير محددة-، وحذف ضمني implicité حيث لا يتم التصريح بالحذف ” يتم تحسسه من خلال التغييرات التي تتخلل الوتيرة الزمنية”. جينيت، خطاب الحكي، ص 102. وأضاف جينيت نوعا آخر من الحذف سماه بالحذف الافتراضي virtuel لا وجود لما يدل عليه، فيُفترض أنه حدث كلما سكتت الرواية عن تفاصيل ما.

د. المشهد la scène
هنا “يمحى الحدث ليترك المجال للتصوير البسيكولوجي أو الاجتماعي” نفس المرجع السابق، ص 142. وينقل المشهد الحوارات –الداخلية أو الخارجية، الأحادية أو المتعددة- وقد يشمل حتى الخطابات النظرية للسارد.

3- التواتر
ونعني به دراسة علاقات التكرار بين المحكي والقصة، وبعبارة أخرى هو قياس عدد المرات التي ينتج فيها الحدث فعلا في القصة، وعدد المرات التي يُنتجها المحكي تعبيرا عن الحدث الذي حصل في القصة، وقد حدد جينيت أشكال هذا التكرار بكثير من الدقة فجعلها ثلاثة نفس المرجع السابق، ص 146.

أ. المحكي الأحادي le singulatif:
حين يُورد الحكي مرة واحدة، ما حدث مرة واحدة، وهو النمط الغالب في كل المرويات. وبإمكاننا أن نجمع مع هذا النمط نمطا أخر يُكرر في الحكي عدة مرات ما حدث في القصة عدة مرات أيضا.

ب. المحكي التكراري le répétitif:
وفيه نُورد ما حدث في القصة مرة واحدة عدة مرات في الحكي، والحقيقة أن هذا يبدو غير معقول إلى حد ما، لكنه موجود حقيقة خاصة في الرواية الحديثة التي تمردت على كل ما هو معقول.

ج. المحكي التأليفي l’ itératif:
وفيه يُحكى مرة واحدة ما حدث أكثر من مرة. وقد حضر هذا النمط في الملاحم ثم في الرواية الكلاسيكية فالمعاصرة. وهو غالبا ما يتجاور مع المحكي الأحادي بل ويخدمه. وفصل كل ما سبق وفق 3 مصطلحات هي: التحديد détermination والتخصيص spécification والامتداد l’extension.


خولة عمامرة – الجزائــــر

 

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى