إيتيقا الأنثى ومقاومة التخيلات الذكورية: تأملات حول النقد النسوي عند “لوس إريغاراي”
- تقديم:
تتعالى مقولات “الجنس الأوّل” أو “الجنس الثّاني” – في ظلّ ثقافة غربيّة متمادية أكثر في خطاب الـمركزيّة – باعتبار الرّجل/ الذّكر النّوع الحصريّ في قلب دراسات الجنوسة وأخلاقيّات الجنسانيّة، في حين أُبقيَ موضوع الـمرأة في مهبّ الـممارسات الإقصائيّة الّتي لم تتردّد عن قذفها خارج النّسق الثّقافيّ المهيمن، ليُصبح كيانها مجرّد طيف اجتماعيّ يُراقب – من بعيد – الدّور الفاعل والفعّال لليقظة الذّكوريّة وهمّتها، من هذه الذّريعة تجلّى الموقف النّسويّ في شقّ طريقٍ لمقاومة السّائد الجنسيّ، عبر النّقد والكتابة والاحتجاج.
في حقل الفلسفة – مثلًا – ابتُكرت كتابة أنثويّة أو خطاب يُظهر هموم الأنثى وانكساراتها ظهورًا ممتعًا، خطاب ينفلت من عجرفة الذّكوريّة وعدم إشراكها في دوائر الفكر والثّقافة والمجتمع والسّياسة، وصبّ “النّقد النّسويّ” امتعاضه على المقولات العقلانيّة والمنطقيّة للفلاسفة الذّكور من أفلاطون إلى هيجل، تجريحًا لذلك التّاريخ الطّويل من التّهميش والإنكار والتّحيّز الذّكوريّ، فحتّى الحداثة بقِيمها التّنويريّة ومطالبها بالمساواة بين الجنسين لم تفلح كثيرًا في مساعيها.
أمّا تيّار “ما بعد الحداثة” فقد فتح الـمجالات الاجتماعيّة والحقول الفكريّة لإعادة التّفكير في ذلك التّصنيف الـمجحف للمرأة خارج النّظم والأنساق، عندما يُنظر إليها على أنّها ملحق أو موضوع غير ضروريّ وخارج نطاق التّقدّم يتناقض مع متطلّبات التّنوير.
ويمكننا القول بدقّة: إنّ المرأة لم تحظَ بوعود تحرّريّة كالّتي نالها نظيرها الذّكر “الرّجل الأوروبيّ الأبيض”، وهو نوع من المغالاة المركزيّة في الهيمنة على “النّوع الاجتماعيّ” وخطاباته السّياسيّة والثّقافيّة الّتي تختزل المرأة عنوانًا للعجز أو السّلب فقط، ويبرز خير مثال على ذلك، عندما يزور المرء متاحف الفن الحديثة، فيرى الأنثى الطّبيعيّة – وعادة ما تكون عارية – وهذا ما يعكس تـمثّلات الذّكور حول الأنثى كجسد عاجز وضعيف.
- معضلة “الأنثى” عند لوس إريغاري:
استحدثت الاستبصارات النّقديّة الّتي جلبتها موجة ما بعد الحداثة تجديدًا لقضايا المرأة وإشكالات الأنثويّة الّتي نشأت بقوّة في أعماق البحث الفلسفيّ والنّفسانيّ، ومثّل هذا النّقد النّسويّ طموحًا استثنائيًّا في شقّ آفاق جديدة ومبتكرة، فالنّظريّة النّسويّة ما بعد الحداثية محاولة مهمّة في تاريخ الإنسانيّة العتيد لفهم “كينونة الـمرأة”، أعراض الأنثويّ وآثار النّسويّ عبر مختلف المستويات: السّياسيّ والاجتماعيّ والثّقافيّ والاقتصاديّ والدّينيّ،
وهو النّحو الّذي التفتت إليه أعمال فرانكفونيّة مهمة على صعيد الفلسفة والنّقد الأدبيّ والتّحليل النّفسيّ مع: هلين سكسو (Hélène Cixous)، ولوس إريغاراي (Luce Irigarary)، وجوليا كريستيفا (Julia Kristeva)، وفرانسواز كولن (Françoise Collin)، وسارة كوفمان (Sarah Kofman)، … وغيرهنّ.
ويبدو من الواضح أنّ التّوجّه النّسويّ في سرديّات ما بعد الحداثة في فرنسا أو بلجيكا مثلًا، لا يزال غامضًا ومعقّدًا؛ لأنّه يدمج أرشيفًا هائلًا من تاريخ الملاحظات حول الأنثى في الأديان والأنتروبولوجيا والسّوسيولوجيا والثّقافة.
وهذه التّوليفة الغريبة فُكِّكت أركانها التّقليديّة ومُنِحت تفكيرًا كشفيًّا يسعى إلى إعادة تأسيس إطار لمعنى المرأة في فكرنا اليوم، تفكير أنثويّ ينخرط فيه الجسديّ والمادّيّ والـمخياليّ مع الاجتماعيّ والرّمزيّ في حالة من التّثوير البراديغميّ الّذي تتناص فيه همسات اللّغة وشذرات الكتابة واستعارت الجسد، لتصوغ تصوّرات جديدة وأسئلة راهنة تهيكل عبرها بشكل مختلف تـمامًا للنّوع النّسويّ ومـعماريّته.
هل هي ضربة موجعة إذا وجّهنا سؤالًا إشكاليًّا حول معضلة “الأنثى” داخل الخطاب الذّكوريّ؟ لماذا تكون “الأنثى” دومًا ذلك العضو الـمبتور في قلب خطاب فلسفيٍّ يسمّي نفسه بالكونيّ والشّموليّ؟
ألا يشهد ذلك التّعالي والشّموليّة على غطرسة وثقافة نبذ للآخر؟ الصّوت الدّاخليّ الـمكتوم للنّصف الآخر من الجنس البشريّ؟ بروز النّساء وتحدّيهم للغة القضيبيّة عبر اجتراح كتابة أنثويّة ومؤنّثة خالصة، خلخلت الـمألوف الذّكوريّ – بشكل غير معهود – وما أسّسه طيلة قرون من أنظمة وأنساق أو سلطان ومعياريّة وعلميّة.
من الجليّ أنّ فكر “لوس إريغاري“ النّسويّ ثوريّ الطّرح، عندما دافعت بذكاءِ – عالمة اللّسانيّات والتّحليل النّفسيّ – عن ازدواجيّة الذّات الإنسانيّة وضرورة الاختلاف الجنسيّ طيلة أعمالها الفكريّة الجادّة، مشيرة إلى أنّ البشريّة ليست واحدة بقدر ما هي قابلة للتّصريف إلى اثنين (رجالًا ونساءً).
الآخرون (والنّساء خاصة) هم مجرد نسخ عن فكرة الرّجل المثاليّة، لذلك لا تسعى تلك النّسخ إلى الكفاح من أجل التّكافؤ؛ بل تظلّ تابعة إلى أصل لا يقبل النَّسخ، علاوة على ذلك، هذه النّسخ الأقلّ مثاليّة وكمالًا، لم تُعرَّف في حدّ ذاتها، بعبارة أخرى؛ عُرِّفت تلك الذّوات بأنّها ذات فيها من النّقص والقصور ما يكفي لجعلها في تبعيّة للذّات المثاليّة[1].
فنموذج هذا الموضوع الفلسفيّ ظلّ فيه المفرد هو المثال، والبقيّة الأخرى مجرّد أمثلة أقلّ مثاليّة وكمالًا، هذا النّموذج الفلسفيّ يقابل، علاوة على ذلك، النّموذج السّياسيّ للزّعيم أو القائد الّذي يُعدّ الأفضل، ويُعدّ القادر الوحيد على حكم المواطنين الأكثر أو الأقلّ استحقاقًا لهويّاتهم كونهم كائنات بشريّة ومدنيّة.
بعد هذه الثّورة السّياسيّة والأنتروبولوجيّة، تأتي الأطروحة اللّاهوتيّة لتعيد التّفكير في إعادة بناء للمفهوم الإلهيّ، وخلخلة قضيّة (أنا – هو) داخل الخطاب الدّينيّ للحفر عميقًا في مسألة الله، وشكّل الفكر النّسائيّ عند لوس إريغاراي ضربةً موجعة للهرميّة الفكريّة الغربيّة، الّتي تمنح الرّجل والأب والإله حظوةً قصوى في السّيطرة والفعل والجبروت، وفي كلّ أشكال التّبجيل والتّقديس والإذعان له.
تقترب لوس إريغاراي من تلك الهيمنة البطريركيّة وصولًا إلى الهاجس اللّاهوتيّ؛ حيث ترى أنّه لا يمكن تجاهل أبعاد القداسة اللّاهوتيّة والتّبعيّة الأبويّة، لتثير أسئلة تيولوجيّة تتعلّق بالمقدّس برؤية نسويّة مفعمة بالتّفكيك والتّحليل النّفسيّ، وذلك بانتقاد الطّرح الأحاديّ القطبيّة في الأديان، أو الثّالوثيّ الّذي تراه يعكس رؤية ذكوريّة محضة في مختلف الأديان[2].
وألحّت على ضرورة التّفكير في شكل إلهيّ للنّسويّ[3]، يطرح الكثير من الغموض واللّبس، حتّى وإن كان ذلك ينتمي للبعد الرّمزيّ دفاعًا عن أطروحاتها لإعادة الاهتمام بالذّات النّسويّة، فبإقصاء الرّجل للجنس الثّاني لم يعد له مجال لتحديد “الأنثى”، وابتكر – بشكلٍ تخييليّ رمزيّ – مفهومًا خاصًّا بالإلهي بما يحاكي أحاديّته الفكريّة المتغطرسة، أو كما قالت إريغاراي: “يمكن القول: إنّ مفهوم الإلهيّ يخضع للعقل المذكّر في كثير من الوجوه”[4].
- تفكيكات إريغاراي: أساليب جديدة للتّفكير في “الـمؤنّث”:
يبرهن أسلوب إريغاراي في الكتابة تحوّلًا نظريًّا وتطبيقيًّا قويًّا على الوجه الثّقافيّ والأدبيّ والفكريّ الغربيّ، وتعلن مهاراتُـها عن يقظة نسويّة لها القدرة على زحزحة البديهيّات الّتي يرتكز إليها الخطاب العقلانيّ الّذي اختطّه الدّرس العلميّ والتّاريخيّ والفلسفيّ.
وتستند كتابات الفيلسوفة إلى عتاد معرفيّ متين متنوّع؛ بين اللّسانيّات والتّحليل النّفسيّ، والفلسفة، وهو ما منحها طاقة كبيرة لمواجهة البنى العقلانية الغربيّة الأساسيّة، وتفكيك قلاعها، والتّشكيك في مقولاتها، انطلاقًا من الاشتغال اللّسانيّ على مقولات المرضى النّفسانيّين، ووصولًا إلى منظرة نسويّة تتّكىء على نظريّة أخلاقيّة للاختلاف الجنسيّ وسيكولجية المرأة.
تطلق إريغاراي بصيصًا معرفيًّا يدقّق النّظر في الجنسانيّة الأنثويّة ولغتها، لتمتدّ من الإطار البيولوجيّ إلى الحسّيّ والنّفسيّ مرورًا بالتّيولوجيّ والأنتروبولوجيّ، وكلّ ما له صلة بالتّمثّلات والتّجسيدات الثّقافيّة للنّساء.
تنتهج إيريغاراي التّفكيك (La Déconstruction) في الإطاحة بقدرات المنطق العقلانيّ، لتعمل على تشويش مقولات التّمركز وتعطيل جذور الفلسفة، بالتّيه داخل تحتيّاتها وطيّاتها لتنشيط الذّاكرة وإعادة إشعال كلّ ما قُمِع من أفلوطين إلى ديكارت وسبينوزا، متأثّرة بلغة المحرومين والمجانين والشّواذّ والنّساء، كلّ ما أُقصِي من حلقات التّاريخ والميتافيزيقا، تُعيد إريغاراي التهامه، وإعادة تجسيده بخطاب لا يخلو من الـمقاومة، محاولةً خلق لغة نسويّة أو خطاب للمؤنّث يستعرض إشكالات الاختلاف الجنسيّ وهواجسه.
لهذا فكّكت إريغاراي – بشكل صارم – التّصوّرات المعرفيّة الّتي استقرّت في السّياقات الثّقافيّة الغربيّة الّتي تحدّدها أو تقبع تحت سقفها، لتقدّم بدائل أو طرائق ومنافذ جديدة للرّؤى والاستبصار، وفهم ثقافة ما قبل الحداثة والحداثة نفسها، وجعلت اللّغة بؤرة أو جزءًا لا يتجزّأ من كتاباتها النّسويّة.
فاللّسانيّات كانت منصّة نظريّة متينة انطلقت منها فيلسوفتنا، والكلام وما يحمله من التواءات وصراعات في الفهم والتّأويل وتصوّرات غير بريئة، هو وسيلة مهمّة في فهم كينونتنا وفكرنا وتاريخنا، ما دعاها إلى خلق كتابة كونيّة وشاملة؛ حيث فجّرت طاقة جذريّة في إعادة تشكيل الصّيغ الّتي تصوّر العلاقة مع النّساء عبر التّاريخ.
بطريقة تفكيكيّة استلهمت أساليبها من نيتشه وهيدغر ودريدا، مزحزحةً أسئلة الخطابات العلميّة والإيديولوجيّة، مربكةً تركة الدّين وشعارات السّياسة ونواميس الكون، إلى جانب الفانتازيا البلاغيّة والفلسفيّة والتّحليل النّفسيّ وإضافات مهمّة في تصوّر أخلاقيّات السّوق والاقتصاد.
بعيدًا عن الحقل البيولوجيّ، تهتم إريغاري بفلسفة الـمؤنّث، في ميادينها الثّقافيّة والأنتروبولوجيّة والنّفسيّة واللّسانيّة، لتقرأ الأصول التّاريخيّة للجندر النّسويّ وتأثيراته التّحوليّة[5]، ولتقرأ – دون توقّف – أسئلة المرأة، فخلقت لنا دروسًا مكتظّة وكتابة شغوفة في العلاقة بين جنسانيّة المرأة وشهوانيّة اللّغة، غيّرت بها عميقًا الطّريقة الّتي نفكّر بها بين الجنسين عبر التّاريخ؛ إذ يكتشف القارئ حصافة نقديّة، ومقدرة تحليليّة، ولغة بارعة لها دراية كبيرة بالأرشيفات النّسويّة وتـموّجاتها.
بعد تـمرّد عام 1968م، وما جرفه من مطالبات بحياة مدنيّة للنّساء، خطّت إريغاراي كتاباتها وأحرفها في وقت مبكّر في جميع أنحاء أوروبا، وأصبحت لها شريحة مهمّة من القرّاء، لاعتمادها على استراتيجيّات وتفكيكات قويّة للخطاب السّائد، استراتيجيّات تعرّي السّائد لتستفزّ وتقلق الخارطة الجندريّة والثّقافيّة.
وذلك بالعمل على كشف التّقاطعات النّظريّة والتّاريخانيّة، وشتّى الممارسات بين الجنسين وانعكاساتها على التّخييل والفلسفة، والدّراما، والكتابة، واللّاهوت، والعلوم[6].
انطلقت مهمّتها في تعرية زيف الخطاب الفلسفيّ والتّحليل النّفسيّ وفضحهما، فهناك اختزال أو نبذ رافق الأنثى كظلّها، من طرف الرّجل والـمؤسّسة الدّينيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة، ولطالما صُنِّفت في أدوار تبقى فيها مجرّد موضوع أو إسناد، تشبّه إريغاراي ذلك بالأدوار الاقتصاديّة، وما يحدث فيها من عمليّات تبادل وتوزيع؛ حيث يوجد وكلاء إنتاج، سلطة، إدارة لصرف الإنتاج (رجال)، ومن جهة أخرى؛ هناك سلع وموادّ وأشياء أو منتجات (إناث)[7].
هذا يتوافق مع ما ذهبت إليه الفلسفة التّقليديّة الّتي تسعى إلى نموذج واحد وفريد للذّاتية، هو المذكّر، وهذا النّموذج الأحادي يسمح، بتحقيق التّوازن بين الواحد والمتعدّد – في أحسن الأحوال – لكنّ الواحد لا يزال النّموذج الّذي يتحكّم في التّسلسل الهرميّ للتّعدديّة، فالمفرد هو الرّجل، وحيد وفريد من نوعه لأنّه مثاليّ، وما الفردانيّة الملموسة سوى نسخة من المثاليّ، أو صورة عنه.
إنّ النّظرة الأفلاطونيّة إلى العالم في مفهومها عن الحقيق، تنعكس – يومًا بعد يوم – على الواقع العمليّ، فبينما تعتقد أنت أنك واقع، أو حقيقة مفردة، إلّا أنّك مجرّد نسخة جيّدة نسبيًّا عن فكرة مثاليّة من ذاتك، وهي تقع خارجك (خارج ذاتك نفسها)[8].
فترزح “الـمرأة” أو “الفتاة” تحت طائلة القهر الذّكوريّ، مكتومة الصّوت، مجروحة الذّات، متحسّرة على موضعتها في مرتبة الثّاني أو الثّانويّ أو الفرعيّ بعد الرّجل، وتبدأ في تأنيب ذاتها لأنّها كائن ضعيف محمَّل بالتّخيّلات الّتي فُرِضت عليها من الأنا الأبويّ، الّذي أغرقها في تبعيّة للرّجل أو قيّدها في ثنائيّة البظر/ القضيب، أو علاقة الفاعل والمنفعل، السّالب والموجب.
ولعلّ هذه التّوجيهات الرّمزيّة جنسيًّا كانت تُمارَس بأنانيّة ذكوريّة ونوع من الاستعلاء والجبروت، غالبًا، ما يفتخر بصورته الفخمة الّتي باركها الأب أو الرّب، وهو ما ترفضه لوس إريغاراي وترى فيه احتمالات ثقافيّة رمزيّة مبالغ في تصويرها من قبل المجتمع.
فتقول: “هناك صمت – إذن – يلفّ هذه الثّقة الكبيرة الّتي تجنّبكم – للوهلة الأولى – الخطأ في تقدير جنس الشّخص الّذي يمكنكم الالتقاء به؛ فالـمهمّ – على ما يبدو – هو أن تكون قناعتكم راسخة، ومن دون أي تردّد محتمل، بأنّه لا يمكن أن تخطؤوا، وبأنه لا وجود لأيّ التباس ممكن في الأمر، وبأنّ الثّقافة تطمئنكم – أو كانت تطمئنكم؟ – بأنّ التّمييز الّذي تقومون به منزّه عن الخطأ”[9].
فهي تقرّ أنّ المرأة في عصرنا تخضع لمتخيّلات ذكوريّة تحصرها في الرّغبة الجنسيّة، وحتّى التّحليل النّفسيّ مع فرويد أو لاكان أخضعاها لميتافيزيقا الـمذكّر، فالمرأة أو الفتاة أو الـمراهقة هي ذلك “المذكّر المؤنّث”.
بمعنى؛ أنّها تلك الرّغبة الدّفينة في البحث عن الغائب الفالوسيّ للأنثى، وتحاول إريغاراي – بديلًا عن ذلك – كشف السّتار عن نوعٍ آخر من النّساء تراه النّساء فقط، وغير خاضع للرّؤية الذّكورية، هو: (المؤنّث المؤنّث)؛ أيّ المرأة بعيون المرأة نفسها، ليكون الاهتمام أعمق بالمقدّس الأنثويّ وغموضه والتباساته، والاشتغال على تأويل قداسة تضاريس الجسد الأنثويّ الّتي تفجّر كونًا دلاليًّا متشظّيًا لذات تتأزّم بين الحبّ والقهر والظّلم والصّمت، دون الخلوّ من عبقريّة نسويّة.
بالتّالي، هو اختلاف عن سرديّات الذّكورة وتمثيلاتها الّتي تحصر المقدّس الأنثويّ في نظام ما أو معنى ثابت، يتّصل بفكرة الإنتاج أو إعادة الإنتاج أو الانفعال الجسديّ مع الجسد الذّكوريّ، وهو ما يعيق– في رأي إريغاراي – الرّؤى الخلّاقة والإبداعيّة للمقدَّس الأنثويّ، الّتي تاهت تحت طيّات مفاهيم التّماثل مع الفكر النّرجسيّ الذّكوريّ وأنانته التّفرديّة.
- التّحليل النّفسيّ للأنوثة: إريغاراي وحـميميّات الـمرأة:
وطّدت إريغاراي في كتاباتها لحرب لا هوادة فيها على السّلطة الرّمزيّة للمذكّر الّتي حظرت على المرأة المشاركة في صوغ الخطاب، أو أن تكون شريكة في السّياسة وإدارة الأعمال؛ فهي مجرّد كيانات احتياطيّة مسخّرة للأمومة أو القيام بالأعمال المنزليّة، أو موضوعًا للرغبة الجنسيّة أو ما يتّصل بالإغواءات الشّيطانيّة.
وهذه النّظرة السّلبيّة مستمدَّة من عمق الأعراف الاجتماعيّة المستلبة من الكون الذّكوريّ[10]، وعدّت إريغاراي “الأبويّ” مظهرًا من مظاهر شهوانيّة الاقتصاد الاجتماعيّ الّـذي يقطع “عقدة الفحول أو الـمذكّر”، لتعيد إحياء حياة جنسيّة أخرى للأنثى، وتفسّر ذلك المكبوت بعيونها هي: “الـمؤنّث – الـمؤنّث”، باستكشاف التّضاريس المتعدّدة الأوجه لجسد الأنثى، والعمل – بقوّة – على تهجير مفهوم القضيبيّة.
لذلك تنتقد إريغاراي – بشدّة – الدّور أو الهدف البيولوجيّ السّلبيّ الـممنوح للمرأة من طرف الـمقولات العلميّة في البيولوجيا أو علم النّفس، وتدعو إلى إتيقا جديدة للاختلاف الجنسيّ؛ حيث تشكّك من جديد في التّصنيف العلميّ والإتيقيّ للهويّة الجنسيّة، هذه الـمجهولة الّتي تتناسل منها الرّجولة والأنوثة، (ما لم يتوصّل التّشريح إلى وضع يده عليها)، بالتّالي، “فإنّ ما يعيق موضوعيّة الخطاب العلميّ التّشريحيّ على الأقلّ، هو انتظار اكتشاف هذا المجهول المتعلّق بالاختلاف الجنسيّ”[11].
فإتيقا للاختلاف الجنسيّ كانت تفتقر إلى مفاهيم أنثويّة ذات أهميّة خالصة، وتحتاج في ذلك لشروح مطوّلة في حقول الأنتروبولوجيا والثّقافة والتّحليل النّفسيّ واللّسانيّات، لتعيد طرحًا نسويًّا يحفر بعمق في البنية المعقّدة للعلاقة بين السّلبيّة والفاعليّة، والاشتغال على القطبين مذكّر/ مؤنّث، وتوطّد فكرة العيش معًا وتكامل الـمختلفين.
أمّا بخصوص توزيع الأدوار الجنسيّة واكتفاء الـمرأة بوضعيّة سلبيّة أثناء الجماع الجنسيّ؛ فقامت إريغاراي بتفكيك تلك الدّعائم النّفسيّة أو البيولوجيّة، بالشّكّ في المسلّمات الثّقافيّة، ورفض أن تكون الجنسانيّة النّسويّة سلبيّة دومًا.
فهناك ميول معيّنة للأنثى نحو “الفاعليّة” أو بعض الـسّمات الحميميّة لدى النّساء باشتهائهن للجنس الـمماثل، تطرح إريغاراي – هنا – السّمة النّموذجيّة للحياة الجنسيّة للمرأة، وتنتقد ثوابتها بتصنيفها في قطب راضخ للرّجل، وذلك ما أهملته الدّراسات الثّقافيّة – وحتى النّفسيّة – فيما مضى.
الـمرأة نسيج جنسانيّ معقّد ينطلق من فكرة اندماج الدّاخل والخارج، الوصل والفصل، الاحتواء والاشتهاء، هل الـمرأة فاعليّة – مازوخيّة – هدّامة؟، تقول:
“إنّ المزاحمة والمنافسة في العلاقة الجنسيّة لا تظهران إلّا لدى الذّكور، فهل هذا ما يسوّغ المحرَّمات المنسحبة على العدوانيّة الأنثويّة؟ وبناء عليه، يتشكّل لدى المرأة ميول مازوخيّة قويّة تفلح في تجنيس (érotiser) الميول الهدّامة المتّجهة نحو الدّاخل.
إلّا في حال خالفت المرأة الضّوابط الاجتماعيّة وخالفت جبلتها”؛ إذ يجب أن نُسند إليها دورًا معيّنًا في اشتغال الثّنائيّة – داخليًّا/ خارجيًّا – الّتي تعتري التّعارض – فاعل/ سلبيّ – وتعزّزه، وفيما يخصّ الدّاخليّ؛ أي داخل المرأة، فإنّ المرأة ستكون هدّامة؛ إذ لا شيء يتيح لها العداونيّة والفاعليّة إزاء داخل آخر، أو إزاء الخارج (يمكن الاعتراض على فاعليّة الإرضاع، لكنّ هذه الفاعليّة تُركت معلّقة في مكان ما)”[12].
جهود متلاطمة في سَعْيِ الأنثى لتكون ذاتها، وليست صورة صامتة وإطارًا جامدًا، أو تمثيليّة يشتهيها الرّجل ويفرض نـمـطيّته عليها، هنا يقبع الاشتغال التّفكيكيّ عند إريغاراي، بإزالة آثار الخطاب القضيبيّ المركزيّ ببساطة عن طريق أسلوب المبالغة في خطابهم، ومحاكاته في تصويب النّقد، نقد لا يخلو من مخاطر الانتقاد والوقوع في حبائل التّناقض الذّاتيّ.
وهي مستسلمة للعبة التّمرّد على الاتّساق المنطقيّ للتّلاعبات الذّكوريّة، الأنثى هي الآخر إلى أجل غير مسمّى، إلى اللّانهاية، النّسويات هنّ غريبات الأطوار، غير مفهومات، ومهتاجات، ومتقلّبات جسدًا وذاتًا ولغةً، والكتابة بالنّسبة إليهنّ عصيان غير مسموح به، أو جنون مُهلك يتفجّر في وجه العقل وشبكاته الخطابيّة الجاهزة.
وعليه، تنقسم كتابة إريغاراي بين التّماسك والتّشظّي، لتنسج – عن قصدٍ – عبارات متناقضة، لتفتكّ حرّيتها من داخل المؤسّسة الـمتمركزة قضيبيًّا برمزها الثقافي العتيد وأساسها النّرجسيّ العميق، لتقف على مشارف الخراب الـمُبهج قاطعة أوصال الدّعم الذّاتيّ كملحق إضافيّ (شريك سالب ومنفعل) للدّور الذّكوريّ.
- “الـمرأة” بعيون “الـمرأة” ذاتـها:
لقد أحدث الخطاب الذّكوريّ – في حضوره المتعالي – غيابًا مهوّلًا للخطاب النّسويّ حول مسألة الكونيّ والإلهيّ، عبر إنتاجه منظومة خطابيّة وفلسفيّة عالميّة تخضع لها احتياجاته، وتتولّد منها آفاقه ومُثُله العليا، بالتّالي، فُرِضَت إكراهات كبّلت العقل الأنثويّ الّذي لا تناسبه كثيرًا تلك المقولات الـمتعالية، ولا تناسب احتياجاته الخاصّة وتأمّلاته الـمختلفة.
فما فرضه الرّجل أثّر على العلاقة بين الجنسين، وعلى العالم والموضوعات والكائنات، وانعكست مظاهر سلبيّة تتّصل بكلّ ما له قيمة وأهميّة كونيّة عليا، ممّا يتّصل بالرّجال – حصرًا – ويميّز جنسهم دون سواهم، ومنه مفهوم الرّبانيّ[13]، يتعالى – هنا – الخطاب المهيمن على دوائره الّتي يمتلكها بالمعنى الدّقيق، ليسمو عاليًا نحو السّماء، بعيدًا في فلك الـمجرّات، ويبتكر تأويلات وتمثّلات ذكوريّة للمفهوم الرّبانيّ، مسلّطًا نوعًا من الحياديّة على خطابه التّأويليّ لمعماريّة الكون ودلائليته الـملغّزة والغامضة، بالتّالي، إسقاط تفسيرات أحاديّة ومتسلّطة على الهيكلة الاجتماعيّة أو الفرديّة.
تقتحم إريغاراي – بهذا النّقد – جينالوجيّات الذّكورة، وصولًا إلى بداياتها، إلى الكهف الّذي أوى إليه الرّجل منذ طفولته في فجر التّاريخ، وترى أنّ الرّجل لم يترك بعد هذه الطّوبولوجيا أو الطّوبوغرافيا، والتّأرجح حول هذا الفضاء ليحدّد – بالضّرورة – كيف يعيش، وكيف ينظر، وكيف يستبدّ بالمرأة، هل هو على إدراك بعتمات ذلك الفضاء؟
إنّ التّمثيل بــ”الكهف” هو تمثيل لشيء ما بدائيّ هناك بالفعل، يسلسل عقولهم، ويكبّلها ويحجب أنظارهم عن العودة إلى الأصل، أو المصفوفة الأصليّة للرّجل – وهي “الرّحم الأنثويّ” – لذلك هم سجناء في الكهف، وتحوّل هذا القمع – فيما بعد – إلى هستيريا جنسيّة تحفظ الرّأس وتقوقعه في رواق ضيّق محشور في مواجهة الأعضاء التّناسليّة والقضيبيّة فقط.
بالتّالي، أصبحت الجنسانيّة مشروعه التّمثيليّ الأوحد، وهذا ما يجعله يعيش وهـمًا واصطناعًا في حركة مستمرّة باتّجاه واحد، وللأسف، فضّل الرّجال البقاء وقضاء النّزهات في ذلك الكهف نفسه، أو الحلقة ذاتها أو السّاحة المسرحيّة التّمثيليّة عينها.
لكنّ إريغاراي تسعى قدر المستطاع إلى تجنّب الخوض في المعارضة القويّة للأضداد، ذكر/ أنثى؛ فالانغماس في أحدهما هو إقصاء للآخر، والهروب من أحدهما وتبنّي المغاير لا يناسب تصوّراتها عن الذّات الإنسانيّة وطاقاتها المطلقة، فهي تجتنب ذلك، ولا تلجئ إليه إلّا لاستخدامه وسيلة أو استراتيجيّة لتحرير الذّوات:
“أنا لا أحبّ الأضداد أو النّهايات، أعود إليها كوسيلة للتّحرير، ويحدث ذلك لي هروبًا من العكس، الانقياد أو الانصياع للواحد، وذلك لا يُناسبني، العكس لا يناسبني، فهو ضرورة فقط يمكن أن أُجبر عليها، فكلّ الهياكل ووجهات النّظر القائمة – تقريبًا – تكون معتمة، فآخذ من ذلك المنظار نقطة انطلاق لي لتأخير قدوم الحقيقة،
لإبراز وجهة نظر أخرى أو حقيقة في الضّفّة الثّانية، لهذا يُستحسن الارتكاز إلى منطق العكسيّة أو قلب الأمور رأسًا على عقب، للبحث عن امتياز الانفتاح على كلّ شيء، لعيش الحياة، ما لا غنى عنه في الحياة، للبحث عنه وعن جوهره والباقي لا يبقي ولا يذر”[14].
تتردّد مقولات النّقد النّسويّ بين الانفتاح والانغلاق؛ فهل الـمرأة متحرّرة أمْ مقيّدة؟ هل يمكن تحديد هويّتها؟ للأسف يستعصي ذلك، فهي غير محدّدة وغير قابلة للتّصنيف، ولا يمكن تحديدها في تعريف أو تصوّر أو وحدة ما كحرف أو رقم في سلسلة.
وهذا لا يعني أنّها غير نهائيّة أو مطلقة لكنّ النّظريّة النّسويّة الفرنسيّة عامّة (مع إريغاراي أو سكسو أو كريستيفا)، تحاول إثارة الاهتمام حول الوجه الفريد للأنثويّ في تجلياته اللّغويّة والفنيّة، في مثاليّته البسيطة وتضاريسه الجسديّة المتكاملة، الواضحة والغامضة في الوقت عينه، إلى جانب التّركيز على الجانب الأنطولوجيّ.
باعتبار الذّات أو الكيان النّسويّ أساسًا لا يمكن الاستغناء عنه في حلقات التّفكيك والدّرس، للكشف عن مورفولوجيّة تتجاوز مفاهيم النّقص والسّلب والانفعال الّتي اكتستها عبر السّرديّات الذّكوريّة، وشبكات متميّزة من فعل المقاومة عبر الكتابة والفنّ والاستعارات، وعبر دائرة حلزونيّة مغلقة من “لا ولا”، ينقسم الـمشهد الجنسيّ بين الذّكر والأنثى، نفي يستقطبه كلّ طرف.
ويستميت في مركزيّته الجندريّة، من هذا الـمعطى؛ تسعى إريغاريّ إلى تلامس هذين النّوعين من جديد في عريهما الهويّاتيّ، ليجدا بعضهـما بعضًا، يلتبسان ويشتبهان في اختلافهما، ويتقاطعان عند تلك النّقطة الأنطولوجيّة الـمشتركة،
فيحدث إقلاعًا عن النّقد، وترفّعًا عن سياسة الإهمال، وتمزيقًا للصّور والمظاهر الّتي تفصل الاثنين أحدهما عن الآخر[15]، في محاولة منها للبحث عن الذّات المتموضعة تحت جلد الكائن الّذي تحت الهيكل، فنحن نتزيَّن باختلافاتنا إرضاء لأنفسنا، ناسين الذّات الوجوديّة الّتي جبل منها الإنسان، المقسّمة إلى “أنا وأنت”، “أنت” الّذي هو مجرّد أنا آخر، وهذه الغيريّة الملتبسة هي ما يخفض – بشكل كبير – النّزاعات والخلافات الحادّة بيننا.
للخروج من هذا النّموذج الخاصّ بالواحد والجمع – بكلّ قوّة – يجب علينا أن ننتقل إلى نموذج الاثنين: اثنين ليسا تكرارًا لنفسيهما، لا واحدًا كبيرًا أو آخر صغيرًا، ولكن تآلفًا من اثنين مختلفين حقًّا، ويكمن نموذج الاثنين (أو الزّوج) في الاختلاف الجنسيّ، لماذا هناك بالذات؟ لأنّ هناك ذاتين موجودتين أو متحققتين وجوديًّا، وليس من اللّازم أن توضعا في علاقة هرميّة، وكذلك لأنّ هاتين الذّاتين عليهما تبادل الهدف المشترك للحفاظ على الجنس البشريّ، وتطوير ثقافتهما، ومنح الاحترام لاختلافهما[16].
فالثورة الهادئة[17] التي تطالب بها إريغاري هي إعادة تأويل وتفسير ما يتصل بالعلاقات مع الـمرأة، ومواضيع العالم الـخارجي، كلّ ما له أن يوطّد صلتها خطابيا بفضاءات أنطولوجية جديدة تنصهر فيها علاقات التفاعل أو الاحتواء أو العطاء الـمتمثلة في الأمومة والزواج والحياة الجنسية.
- خاتمة: نحو إتيقا للاختلاف الجنسي:
تشترك رؤى إريغاراي مع أفكار التّفكيك التّقويضيّة لـمركزيّة اللّوغوس والفالوس الّتي رضخت تحت الميتافيزيقا الغربيّة، بالـمقابل؛ وجّهت عروضًا فكريّة ونقديّة لتوجُّهات التّحليل النّفسيّ عند فرويد ولاكان، خاصّة، تلك الرّؤية السّلبيّة والنّاقصة الملتصقة بالفتاة، باعتبارها رجلًا دون قضيب أو رجلًا صغيرًا.
وتتحدّى فيلسوفتنا قمع مفهوم الاختلاف بوصف الأنثى بمركّبات نقص لحقتها طيلة سرديّات التّاريخ الحداثيّ، لأنّها لا تقوم بالنشاط الفاعليّ جنسيًّا، كما يقوم به الذكور، فهي تبقى مستسلمة طائعة غائبة أو ناقصة، تثور إريغاراي – هنا – بإعادة وصف المرأة باعتبارها انعكاسًا للإنسان.
وتُـــــقبل إريغاراي – في تفكيكها للسّلطة الذّكوريّة – على لغة نسويّة جديدة طافحة بالكينونة الأنثويّة، وهي تناشد ذلك عندما تسطّر منهاجًا أو خطّة للعمل تنهض على خلق لغةٍ أنثويّة خالصة، في تفسيرها للاختلاف الجنسيّ متجنّبة لغة الذّكور، محاولة التماس الحياد حتّى لا تقع في حبالِ ذاتيّةِ التّضليل الأخلاقيّ، وتسعى هناك بقوّة إلى إخفاء هويّة المتكلّم، لتناهض العلمويّة الزّائفة الّتي تخفي هويّات المتحدّثين (قراء أو مستمعين).
وتعدّه فعلًا جبانًا، غير متحرّر، يحجب النّساء – خاصّة – عن العلوم والفلسفة، فالعلم – كما ترى – غير مستعدّ لحمل عبء هذه المسؤوليّة (اللّسانيّات، التّحليل النّفسيّ) عن أقوال وأفعال المرأة، وهي تحاول العثور على الشّجاعة المفقودة، لاقتفاء آثار الصّوت النّشط، وكشف ألاعيب الزّيف وأباطيل الخطابات العلميّة المبنيّة للمجهول.
من اليقين إلى التّفكيك والاحتماليّة، تلك هي هيئة الكتابة النّسويّة المتمرّدة عند لوس إريغاراي، معزّزة للكورا (KhÔra) الأنثويّة ومنطق الهويّة المؤنّثة الّتي تنفتح بطلاقة على المحسوس والمجازي، للانفتاح من قوقعة العقلانيّ الذّكوريّ الّذي يعزّز الإلهيّ المتخيّل، والجوانيّ بتفاصيله ولمسته الذّكوريّة.
تتجرّأ إريغاراي على طرح هويّة الأنثى مجرّدة من ألوهيّة العقل ووثوقيّته، ليكون الشّكّ والوحشيّة هما عقيدتا المرأة ودينها خارج جغرافيا الـمذكّر، فالمرأة تقع – دائمًا – في الخارج؛ بعيدًا عن أسوار القضيبيّة والتّطابق الهوياتيّ، بهذا الاختلاف التّمييزيّ بين الدّاخل والخارج[18]،
تبتكر النّاقدة النّسويّة مفهوم الأنوثة ليكون وسيلةً لتمثيل الذّات الأنثويّة وتصوّراتها لرغبة الإنسان، والبحث الـمضني عن تفاصيلها، هي متاهة أو لغز مغري بسحره يفتح شهيّة أكبر لاكتشاف مظانه وهواجسه.
- مصادر ومراجع الـمقال:
– لوس إريغاراي، سيكولجيّة الأنوثة: مرآة المرأة الأخرى، ترجمة: علي أسعد، دار الحوار، سوريا، 2007.
– مـحـمّد بكاي، الغيرية وإشكاليّة الهويّة النّسويّة عند لوس إريغاراي، نضالات الذّات النّسويّة أمام الهمينة الذّكوريّة، في كتاب “الفلسفة والنّسويّة“، إشراف وتحرير: د.علي عبود الـحمداوي، منشورات ضفاف – لبنان، ودار الأمان – الـمغرب، ومنشورات الاختلاف – الجزائر، ط 1، 2013م.
– Luce Irigaray, “Quand nos lèvres se parlent”, In Les Cahiers du GRIF, n 12, 1976.
– Ce sexe qui n’en est pas un, Éditions de Minuit, Paris, 1977.
– Le Corps – à – corps avec la mère , La Pleine lune, 1981.
– Sexes et parentés, Paris, Éd. de Minuit, 1987.
– Le Temps de la différence. Pour une révolution pacifique, L.G.F., «Le Livre de poche. Biblio », 1989.
– Je, tu, nous. Pour une culture de la différence, Grasset, 1990 ; L.G.F., « Le Livre de poche. Biblio » n°4155, 1992.
– Le souffle des femmes, ACGF, Paris, 1996.
– Luce Irigaray and premodern culture: Thresholds of history, edited by: Elizabeth D. Harvey and Theresa Krier, Routledge, UK, 2004.
[1]– يُنظر: محمد بكاي، الغيريّة وإشكاليّة الهويّة النّسويّة عند لوس إريغاراي: نضالات الذّات النّسويّة أمام الهمينة الذّكوريّة، في كتاب “الفلسفة والنّسويّة”، إشراف وتحرير: د.علي عبود الـحمداويّ، منشورات ضفاف- لبنان، ودار الأمان- الـمغرب، ومنشورات الاختلاف- الجزائر، ط 1، 2013م، ص ص 431- 432
[2]– Le souffle des femmes, ACGF, Paris, 1996, p p 212 et 218.
[3]– Sexes et parentés, Paris, Éd. de Minuit, 1987, p 79.
[4]– Ibid, p 74.
[5]– Future anteriors: Luce Irigaray’s transmutation of the past. In, Luce Irigaray and premodern culture: Thresholds of history, edited by: Elizabeth D. Harvey and Theresa Krier, Routledge, UK, 2004.
[6]– Ibid.
[7]– Luce Irigaray, Ce sexe qui n’en est pas un, Éditions de Minuit, Paris, 1977, p p 14- 19.
[8]– يُنظر: محمد بكاي، الغيريّة وإشكاليّة الهويّة النّسويّة عند لوس إريغاراي، ص ص 435- 436
[9]– لوس إريغاراي، سيكولجية الأنوثة: مرآة المرأة الأخرى، ترجمة: علي أسعد، دار الحوار، سوريا، 2007م، ص 08
[10]– Luce Irigaray, Le Temps de la différence. Pour une révolution pacifique, L.G.F., «Le Livre de poche. Biblio», 1989, p p 21- 24
[11]– لوس إريغاراي، سيكولجية الأنوثة: مرآة المرأة الأخرى، ص 10
[12]– لوس إريغاراي، سيكولجية الأنوثة: مرآة المرأة الأخرى، ص 17
[13]– Luce Irigaray, Je, tu, nous. Pour une culture de la différence, Grasset, 1990 ; L.G.F., « Le Livre de poche. Biblio » n°4155, 1992.
[14]– Luce Irigaray, Le Temps de la différence. Pour une révolution pacifique ; p: 39.
[15]– Luce Irigaray, “Quand nos lèvres se parlent”, In Les Cahiers du GRIF, n 12, 1976, pp: 23-28.
[16]– يُنظر: محمد بكاي، الغيريّة وإشكالية الهوية النسوية عند لوس إريغاراي، ص ص 436- 437
[17]– Luce Irigaray, Le Temps de la différence. Pour une révolution pacifiqe.
[18]– Luce Irigaray, Le Corps-à-corps avec la mère , La Pleine lune, 1981, p p 52-54.