محمد عابد الجابري: ونقد العقل العربي
يعود عمل محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي إلى السنوات الأولى من ثمانينيات القرن الماضي، حين نشر الجزء الأول منه عن تكوين العقل العربي (1984).
لكن فكرته تبلورت، عند الكاتب، قبل هذا التاريخ كما توحي بذلك مقدمة كتابه الخطاب العربي المعاصر ، وخاصة تشديده فيها على الحاجة إلى الانتقال من نقد التراث إلى نقد العقل، وهو ما كان بدأه تمريناً معرفيّاً على نصوص الفكر العربي المعاصر في كتابه المومأ إليه، وجرّب فيه مفاهيم سيكون لها الحضور الكبير في قراءته للعقل العربي.
والحقّ أن عمل محمد عابد الجابري على نقد العقل لا يمكن أن يُفْصَل عن سياقٍ علميٍّ طويل سَبَقه، ومهَّد له؛ وهو كناية عن اهتمام فكريّ شديد بدراسات التراث، لدى الجابري، من جهة أولى، واشتغالٍ مديد ـ تأليفاً وتدريساً ـ بمسألة المناهج والدراسات الايبيستيمولوجية.
وهُما معاً ـ الدراسة التراثية والدراسة المنهجية ـ تَضَافَرَا ليصنعا، في فكر الرجل، هذه اللحظة المعرفية الجديدة التي دشّنها مشروع نقد العقل العربي في مسيرته الفكرية.
- أولاً: مقدّمات المشروع وموارده
أنجز الجابري أطروحته للدكتوراه في الفلسفة، في أواخر الستينيات، عن ابن خلدون (العصبية والدولة) ، وناقشها في العام نفسه الذي نشرها فيه (1970).
ومنذ ذلك الحين، كرّس اهتمامه للتراث الفكري العربي الإسلامي: تدريساً، وبحثاً، وتأليفاً، لم يكن يقطعه ـ خاصة في سنوات السبعينيات ـ غير الاهتمام السياسي والتربوي الذي دفعه إلى تأليف كتابين في التعليم والتربية ( أضواء على مشكلة التعليم بالمغرب، و من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية) ، وآخر في التعريف بفلسفة العلوم والايبيستيمولوجيا ( مدخل إلى فلسفة العلوم؛ جزآن، 1976 ).
وبحكم اختصاصه، كباحث في الفلسفة، ومدرِّس لها في الجامعة، شُغِل، في المرحلة الأولى من مسيرته العلمية، بالتراث الفلسفي العربي الإسلامي، وأنجز ـ في نطاق اهتمامه به ـ دراسات متفرقة عن الفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وابن خلدون، جمعها إلى بعضها في كتاب حمل عنوان: نحن والتراث.
وكان، قبل ذلك، في جملة لجنة من الأساتذة كلفتها وزارة التعليم، في النصف الثاني من الستينيات، بوضع كتاب مدرسي (للمدارس الثانوية) للفلسفة والفكر الإسلامي (صدر في جزأين)، وكتب نصوصاً في علم الكلام والفلسفة بدَت ـ في حينه ـ قراءة جديدة في تراث الإسلام.
ولقد استمرَّ بعضُ تلك القراءة حيّاً في تفكير الجابري حين كتب دراسات المجموعة في نحن والتراث ، ومنه أنه لم يبارح أطروحته القائلة بأن الإشكالية الرئيسية الحاكمة للفكر العربي الإسلامي هي إشكالية العقل والنقل.
تميزت قراءات الجابري، في هذه الفترة، بانفتاحه على قراءاتٍ معاصرة، ومفاهيم رائجة، في الفكر الفلسفي الغربي وقتئذ، وتوسُّلها تطبيقاً وتجريباً؛ فعلى نحو قراءة الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير لفكر كارل ماركس (في كتابين له هما: Pour Marx و Lire le Capital )، وسعيه في بيان الثورة المعرفية التي أنجزها ماركس في علاقته بسابقيه من المفكرين،
وخاصة هيغل، جرّب الجابري قراءة الفكر الفلسفي العربي في المغرب والأندلس، وخاصة فكر أبي الوليد بن رشد، من زاوية ما أنجزته كتاباتُه من تحوُّلٍ معرفيّ مقارنةً بسابقتها في المشرق العربي. ومثلما تحدّث ألتوسير عن قطيعة معرفية (Rupture إpistإmologique) ماركسية مع فكر هيغل، والنزعة الإنسانية (الإنسانوية)، قادت إلى تأسيسه المادية التاريخية،
تحدّث الجابري عن قطيعة ايبيستيمولوجية أنجزها فكر ابن رشد مع «الفلسفة الإشراقية» المشرقية لابن سينا، قادت إلى قيام عقلانية رشدية أرسطية. ولقد ارتسمت، منذ ذلك الحين، معالم عقلانيته، أو انحيازه إلى العقلانية، في دفاعه الشديد عن العقل الأرسطي في الفلسفة العربية الإسلامية،
وخاصة في صيغتها المغربية ـ الأندلسية، في مقابل نقده الحاد للغنوصية[(1)] والهرمسية[(2)] التي صنعت فكر الفلسفة الإشراقية السينوية، وقبل ذلك في دفاعه عن العقل الكلامي الاعتزالي في مقابل نقدٍ حادّ للأشعرية[(3)].
لم يكن محمد عابد الجابري، حتى هذه الفترة التي نتحدث عنها (أواسط السبعينيات ونصفها الثاني)، مهتمّاً إلاّ بمجالات فكرية ثلاثة من التراث العربي الإسلامي، هي: علم الكلام، والفلسفة، و ـ إلى حدٍّ ما ـ التصوّف.
حتى الفكر السياسي الإسلامي لم يكن يعنيه منه لا فقهُ السياسة الشرعية[(4)]، ولا الآداب السلطانية[(5)]، وإنّما ـ حصراً ـ الفلسفة السياسية: كما يتبين ذلك من اهتمامه بالفارابي والاشتغال عليه.
وكان عليه أن ينتظر نضوج فكرة نقد العقل العربي ليوسّع ـ في ما بعد ذلك بسنوات قليلة ـ دائرة الاهتمام لِتَشْغَل مجالات فكرية أخرى كأصول الفقه، والسياسة الشرعية، واللغة والنحو، والبلاغة…، كما سيلي بيانُ ذلك في فقرة أخرى من هذا العرض.
غير أن الجابري، وفي هذه الدائرة المحدودة من علوم التراث التي اهتمّ بها في تلك الفترة من مسيرته العلمية، قدّم مساهمةً منهجية جديدة في مقاربة إشكاليات التراث، أحدثت اختراقاً في موضوع ازدهرت فيه، في ذلك الحين.
القراءة المادية التاريخية، أو الآخذة في بعض مفاهيم المادية التاريخية وأدواتها، وكادت تحتكر فيه القول، على نحو ما تبيّن مع سطوة كتابات طيب تيزيني وحسين مروّة في سنوات السبعينيات.
تعزّز هذا الشغف الفكري المثابر، لِدراسة الموروث الثقافي، عند الجابري، بشغف رديفٍ بمسائل المناهج والثورات العلمية والايبيستيمولوجية المعاصرة. وهو بدأ، عنده، تربوياً قبل أن يترسخ في وعيه كخيارٍ فكري؛ ذلك أنّ تحدّي تعريب الفلسفة في المدارس الثانوية والجامعات، ووضْعَ كتاب مدرسي لهذه المادة، ممّا خاض فيه الجابري بهمّة وحماسةٍ مثيرتين.
ووسّع دائرة اهتماماته الفلسفية لتشمل مجالات جديدة لم تكن، عنده، في نطاق الاختصاص. ومع أن شغف الرجل بالرياضيات ـ التي بدأ طالباً فيها قبل التحاقه بقسم الفلسفة في جامعة دمشق في النصف الثاني من الخمسينيات ـ هيّأهُ لأن يهتم بفلسفة العلوم، مثلما صَبَغَ تفكيره بالعقلانية، إلا أن الضرورات التدريسية وتحدياتها عند أستاذ كُلّف بوضع كتاب مدرسي، ووجد نفسه ـ في الجامعة ـ مضطرّاً إلى تدريس مواد الفلسفة كافة.
قذفَ به في عالم العلوم الرياضية والتجريبية كمشكلات فلسفية (فلسفة العلوم)، وما ارتبط بتلك المشكلات من مسائلَ مثل مناهج المعرفة العلمية، وأزمات العلم المعاصر (أزمة اليقين الرياضي، وأزمة الميكروفيزياء[(6)]، وما استَتْبَعَها من أزمات هزّت مبادئ العلم الكلاسيكي (الحديث) مثل مبدأيْ الموضوعية والحتمية. وبكلمة، وجد نفسَه، وجهاً لوجه، أمام ميدان الدراسات الإيبيستيمولوجية.
جمع الجابري، في منتصف السبعينيات، دروسه وكتاباته في موضوع فلسفة العلوم في كتاب حمل العنوان عينَه، وتألف من جزأين: جزء أول عن العلوم الرياضية، وجزء ثان عن العلوم التجريبية، مع ملاحق لنصوص مترجَمة من الفرنسية إلى العربية بأقلام كبار العلماء والإيبيستيمولوجيين المعاصرين.
غير أن الجابري ـ الشغوف بكتابات عالم الفيزياء الفرنسي غاستون باشلار، وعالم النفس التربوي السويسري جان بياجيه ـ سرعان ما سيعثر في أعمال الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير على تطبيقٍ خلاق للمفاهيم الباشلارية على نصّ ينتمي إلى العلوم الاجتماعية.
هو النصّ الماركسي، وسيجد نفسَه مدفوعاً إلى تجريب المقاربة عينِها على النصّ الفلسفي العربي الإسلامي الكلاسيكي (الوسيط)، كما مرّ معنا الإلماح إلى ذلك، قبل أن يدخُل ـ في حملة عُدّته المعرفية ـ الجهازُ النظريّ والمفهوميّ للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو؛ المستَقَى من تحليله للثقافة الغربية في كتابه الشهير الكلمات والأشياء ( Les Mots et les choses ).
ولقد ظلّ الجابري مُصرّاً على تسمية مقارباته للتراث باسم «التحليل الايبيستيمولوجي»؛ سواء في كتابه الخطاب العربي المعاصر ، أو في سلسلة نقد العقل العربي.
هذه هي موارد مشروع الجابري لنقد العقل العربي، ومقدماته، والسياقات التي تطوّر فيها وعيُه قبل أن يبدأ مباشرةً الكتابة في الموضوع؛ إنه حصيلة هاجسٍ ومنهج : هاجسٍ دراسيّ حادّ بأولوية قضية التراث، انتقل من التعبير النظري عنه إلى حيّز الدراسة التطبيقية، وهاجسٍ منهجي صَقَله الاهتمام بفلسفة العلوم والايبيستيمولوجيا، وتطبيقاته الفلسفية في الفكر الغرْبي (الفرنسي) المعاصر.
- ثانياً: نقد العقل العربي
أعلن محمد عابد الجابري عن مشروعه في نقد العقل العربي في خاتمة كتابه الخطاب العربي المعاصر ، الذي صدر في 1983: عاماً قبل صدور الجزء الأول من نقد العقل العربي ( تكوين العقل العربي (1984)) .
وكان واضحاً من خاتمة الكتاب، بل من بعض فصوله، أن استنتاجات الجابري فيها وأحكامه على الخطاب العربي المعاصر، تبلورت بعد ـ أو أثناء ـ اشتغاله على نقد العقل العربي ؛ ذلك نقدُه لآلية القياس الحاكمة للخطاب المعاصر، ونقده لسلطة النصّ وسلطة السّلف في الوعي المعاصر، ودعوته لتدشين «عصر تدوين جديد».
وهذه ـ جميعها ـ إنما هي جوهر نقده للعقل العربي. وهو ما يوحي بأنه كَتَبَ الجزء الأول من نقد العقل قبل الخطاب العربي المعاصر أو أثناء كتابته له، وأن تواريخ النشر ليست، بالضرورة، مطابقة لتواريخ الكتابة.
كان في نية الجابري، على نحو ما أفصح عن ذلك، أن يُصدر كتاباً في نقد العقل العربي من جزأين: التكوين، والبنية.
وهكذا فَعَل، في البداية، مستعيداً ـ بهذا التقسيم ـ تقليداً فكريّاً بنيوياً متداولاً في المدرسة الفرنسية، وامتداداتها، يميّز في الفكر بين لحظتين فيه هما لحظة التكوين (Genةse) ؛ التي تتشكل فيها مفاهيمه وتتطور، ولحظة البنية (Structure) ؛ التي تتحدد فيها شخصيته كنظام.
وليس من الصعوبة على قارئ الجابري،وقارئ مصادر تفكيره، أن يَرُدّ هندستَه للكتاب تلك إلى تأثير فكر جان بياجيه فيه أكثر من لوسيان غولدمان وغيره من رموز البنيوية التكوينية.
ولقد التزم الجابري بهذه الهندسة إلى حين إصداره الجزء الثاني من الكتاب، الذي حمل عنوان: بنية العقل العربي ، وصدر في عام 1986. لكنه سرعان ما تجاوزها حين انخرط في كتابة جزء ثالث عن العقل السياسي العربي (صدر في عام 1990).
ثم أتْبَعَهُ بجزء رابع عن العقل الأخلاقي العربي (صدر في عام 2001)؛ حيث مالَ إلى هندسةٍ منهجية جديدة تستعيد التقليد المألوف في الفكر الغربي منذ القرن الثامن عشر، مع الفيلسوف الألماني إيمانويل كَنْت، في قسمة العقل إلى عقل نظري ، و عقل عملي.
وهي قسمة قد تعود إلى الإغريق (فلسفة نظرية وفلسفة عملية) قبل أن يتمسك بها فلاسفة الإسلام. هكذا أصبح نقد العقل العربي ، ذو الأربعة أجزاء، جزأيْن: عقل نظري في جزأين فرعيين ( تكوين العقل العربي ، و بنية العقل العربي) ، و عقل عملي في جزأين آخرين (العقل السياسي العربي ، و العقل الأخلاقي العربي).
كان لهذه الهندسة الجديدة ما يبرّرها عند صاحبها؛ فلقد استشعر الجابري، وهو يقرأ ما كُتِبَ نقداً لكتابه (بعد صدور الجزء الثاني منه)، أن معظم النقد انصرف إلى منهج القراءة (البنيوية، الايبيستيمولوجية) الذي يُغْفِل التاريخ والتاريخية.
ولا يقيم لهما اعتباراً في النظر إلى الأفكار وتيارات الفكر، وأن أحكامه النقدية ـ التي بدت قاسية لدى كثيرين ـ إنما تولّدت من إسقاطه الظروف والشروط التي نشأت فيها أفكار مفكري الإسلام.
ومع أنه حاول أن يشرح، بكثير من التفصيل، منهجيته الجديدة، وأن يبيّن ما تنطوي عليه من قيمة معرفية في تمكين الباحث من معرفة كلّية الفكر و نظامه من الداخل ، إلاّ أن ناقديه آخذوه على إغفاله العوامل والسياقات الموضوعية التي تتحرك فيها الأفكار والمعطيات الفكرية، وشككوا في جدوى قراءةٍ للموروث الثقافي لا تأخذها في الحسبان.
ولعلّ هذا هو السبب ـ في ما نزعم ـ وراء إقدام الجابري على تعديل هندسته للكتاب بحيث تشمل جانبين من تجلّي العقل العملي هما: السياسة والأخلاق.
لكن الجابري نَحَا منحىً آخرَ مختلفاً في الجزأين الثالث والرابع من نقد العقل العربي عما سار عليه في جزأيه الأوّلين؛ فهو لم يستخدم فيهما العُدّة المنهجية والمفهومية التي توسَّلها في التكوين و البنية ، ليس لأنها لا تناسب العقل العملي، مناسَبَتها للعقل النظري كما قد يُظَنّ، وإنما لأنه لم يتناول في ذينك الجزأين العقل العملي ـ كما افترضَ أو خطّط ـ وإنما تناوَل تجلياته في السياسة والأخلاق.
وتقتضينا الدقة أن نقول إن موضوعيْ الجزأين الثالث والرابع من الكتاب هما: المجال السياسي الإسلامي وتكوُّنه، ومنظومة الفكر الأخلاقي في الإسلام. وغنيّ عن البيان أن الفارقَ كبيرٌ بين العقل والمجال السياسي، وبين العقل والفكر : كما بيّن الجابري نفسُه ذلك في مقدمة الجزء الأول من كتابه ( تكوين العقل العربي).
استتبع هذا التغيير في موضوع الجزأين الثالث والرابع تغييراً في طريقة القراءة، والأدوات المُتَوَسَّلَة من الباحث لمقاربة الموضوع. وهكذا بمقدار ما تراجعت منظومة مفاهيم التحليل الايبيستيمولوجي، في هذين الجزأيْن من الكتاب، دَخَل العامل التاريخي في نسيج التحليل؛ أكان تاريخاً للوقائع والمؤسسات، أو تاريخاً للأفكار.
ومع أن أحداً، نزيهاً، لا يستطيع أن يجحد القيمة العلمية للجزأين الثالث والرابع، وما أضافَتْه قراءة الجابري للمجال (والفكر) السياسي، وللفكر الأخلاقي، في الإسلام الكلاسيكي، إلاّ أنّ فرصةً ضاعت ـ على الكاتب وعلى القراء معاً ـ لقراءة نقدٍ معرفي للعقل السياسي والأخلاقي العربي، أي لقراءة تحليلٍ لمنظومات إنتاج المعرفة في مسألتيْ السياسة والأخلاق في التراث العربي الإسلامي.
سنحاول، في ما سيلي، عرض معطيات هذا الكتاب/المشروع، بأجزائه الأربعة، عرضاً مركّزاً مرجئين ملاحظاتنا على العمل إلى الأخير.
- 1 ـ تكوين العقل العربي
صدرت طبعته الأولى في عام 1984، وهو يتألف من قسمين؛ تُشكل الفصول الثلاثة ـ التي يتألف منها القسم الأول ـ مدخلاً نظرياً ومفاهيميّاً إلى موضوع الكتاب، أمّا الفصول التسعة الأخرى (من الفصل الرابع حتى الفصل الثاني عشر) ـ وهي مادة القسم الثاني من الكتاب ـ فتتناول مكونات الثقافة العربية بالتحليل، راصدة النظم المعرفية في تلك الثقافة تكويناً، واشتغالاً، وتداخُلاً، واصطداماً.
يتوقف الباحث، في القسم الأول من الكتاب، أمام طائفة من المفاهيم التي توسَّلَها، ملقياً ضوء التحديد والتعريف عليها، مميّزاً بعضَها عمّا يتداخل معه في المعنى من مفاهيم أخرى مجاوِرة: على الأقل في الحقل التداولي المعاصر.
وهكذا ميَّز بين الثقافة و العقل ، كما رام (هو) استعماله، أي بمعناه الايبيستيمي لا بمعناه الإثنولوجي، مثلما ميَّزَ في العقل بين العقل المكوِّن (La Raison constituante) و العقل المكوَّن (La Raison constituإe)، مستعيراً التمييز من أندريه لالاند، مشدِّداً على أن هدفه إنما هو نقد هذا العقل المكوَّن في الثقافة العربية، وذاهباً إلى مقارنةٍ مستفيضة بين العقل العربي والعقل اليوناني، ثم العقل الأوروبي: الحديث والمعاصر.
يعرّف الجابري العقل العربي، الذي سيهتم بتحليله ونقده، بأنه: «ليس مقولة فارغة ولا مفهوماً ميتافيزيقياً ولا شعاراً إيديولوجياً للمدح أو الذمّ، وإنما… جملة المفاهيم والفعاليات الذهنية التي تحكم، بهذه الدرجة أو تلك من القوة والصرامة، رؤية الإنسان العربي إلى الأشياء، وطريقة تعامله معها في مجال اكتساب المعرفة، مجال إنتاجها وإعادة إنتاجها».
ويعرِّفُهُ في مكان آخر (من الكتاب) بما هو «البنية الذهنية الثاوية في الثقافة العربية كما تشكلت في عصر التدوين». على أن هذا العقل ـ عند الجابري ـ يشتغل، مثلما يتكون، على نحوٍ لا شعوري؛ فإذْ هو استعار مفهوم اللاشعور المعرفي (L’Inconscient cognitif) من جان بياجيه، ذهب به إلى حسبانه ممّا به تشكّل العقل العربي.
وهكذا فإن « بنية العقل، الذي ينتمي إلى ثقافة ما، تتشكل لا شعوريّاً داخل هذه الثقافة ومن خلالها، وتعمل بدورها، وبكيفية لا شعورية كذلك، على إعادة إنتاج هذه الثقافة نفسها».
وإذْ يستعير مفهوم الإطار المرجعي من الدراسات الايبيستيمولوجية المعاصرة، يقرّر أن الثقافة العربية هي الإطار المرجعي للعقل العربي؛ لأنه فكّر من داخل معطياتها، وبأدواتها التي كرّستها. على أن الثقافة العربية شهدت تقنيناً وتبويباً في مرحلةٍ من تاريخها سمّاها الجابري «عصر التدوين» ، ويقع بين منتصف القرن الثاني للهجرة ومنتصف القرن الثالث للهجرة.
وفي هذا «العصر»، دُوِّنت العلوم العربية الإسلامية من نحوٍ، وبلاغةٍ، وعَروض، وفقه، وحديث، وكلام…، وخضعت لتقعيد (أو قَوْعدة) لم تتغير منذ ذلك الحين، ممّا دَلّ ـ في نظر الجابري ـ على أن «الزمن الثقافي العربي راكد»، وآسن، لا حياة ولا سيولة فيه، ويعيد إنتاج نفسه في دورة متكررة مغلقة.
ومن هناك يتأدى إلى القول إن عصر التدوين ذاك هو الإطار المرجعي للعقل العربي ، وهو المسؤول عن استمرار انشداد العقل العربي إلى آلياته التكوينية التي لم تتطور، ولم تتغير، حتى باتت تشكل عوائق معرفية أمام تقدم الفكر والثقافة العربيَّيْن.
ويرصد الجابري، في فصول القسم الثاني من تكوين العقل العربي ، مكوّنات الثقافة العربية في نطاق تصنيفٍ آخر غير تصنيفها إلى علوم ـ على ما درجت على ذلك العادة ـ فيضعها تحت ثلاثة نظم معرفية هي: البيان ، و العرفان ، و البرهان ، مؤرّخاً تكوين تلك النظم، وراصداً تكوُّن مفاهيمها، وعلاقات التماثل بين مجموعات العلوم الواقعة تحت كل نظامٍ معرفي.
ويتناول، في تَأْريخه تكوين العقل، ظاهرة التداخل بين النظم المعرفية الثلاثة مميِّزاً، فيه، بين ما سيسميه في بنية العقل العربي باسم التداخل التكويني ، الذي بَدَا له طبيعياً وموضوعيّاً في أيّ تكوينٍ تتناظر فيه قواعد المعرفة داخل كلّ علم (خصوصاً بالنظر إلى أن عالم الكلام أو عالم أصول الفقه كان، في الوقت عينه، عالم لغة ونحو، وربما عالم بلاغة أو عالم تفسير).
وما سمّاه التداخل التلفيقي ؛ وهو التداخل الذي يمزج مزجاً نافراً بين قواعد المعرفة في نظام معرفي وقواعدها في نظام آخر، مثل الذي قام به الغزالي بين البيان والعرفان، أو الإسماعيلية بين العرفان والبرهان. وهذا التداخل (التلفيقي) هو الذي أسَّس للأزمة في الثقافة العربية، في نظر الجابري، كأزمة أسس.
على أن الجابري كرّر في تكوين العقل العربي ما سبق له أن عبّر عن بعضه في نحن والتراث ، وخصوصاً من تَعْليةٍ لمكانة الثقافة العربية في الغرب الإسلامي، وفي الأندلس خاصة؛ فطفِقَ يرى في فكر ابن حزم، وفقه الشاطبي، وفلسفة ابن رشد، محاولة رائدة لإعادة تأسيس أسس تلك الثقافة؛ خاصة في الفقه والفلسفة.
ومع أنه خفَّف من أحكامه القَطْعية السابقة، فلم يتحدث عن قطائع ايبيستيمولوجية بين المعرفة في المغرب والمعرفة في المشرق، إلاّ أن حديثهُ عن دورٍ ما مُفْتَرَض للفكر الإسلامي الأندلسي في إعادة تأسيس الأسس ـ وهو الذي سيستفيض فيه في الجزء الثاني ـ لا ينسجم مع تشديده على فكرة مرجعيّة عصر التدوين بالنسبة إلى الثقافة العربية والعقل العربي.
(*) هذا هو محتوى الكتيب الذي نُشر في شباط/فبراير 2013 ضمن سلسة “أوراق عربية” التي صدرت عن مركز دراسات الوحدة العربية.
ما احوجنا للثقافة الجادة ومااحوجنا للفكر العقلاني ولهؤلاء العمالقة امثال الدكتور سي محمد الجابري والدكتور حسن الحنفي سكرا موصول الى اصحاب الموقع bilarabkya.net