الأدب النسوي

الكاتبة العربية في مواجهة الثالوث المحرم إبداعيا

عندما نشر بوعلي ياسين في عام 1973 كتابه “الثالوث المحرم دراسة في الدين والجنس والصراع الطبقي” كان اهتمامه منصباً على الثقافة الذكورية التي انقسمت على نفسها قسمين: قسم استبطن أحكام هذا الثالوث ومقتضياته، وسعى إلى التكيف معه بينما تصدى القسم الثاني له وعمل على مواجهته والاستدراك عليه.  لكن ذلك لم يمنع الكاتب من الالتفات، في هذا المؤلف، إلى منزلة المرأة عبر العصور والانعطاف على حقوقها في العصر الحديث بالنظر والتأمل.


على هدي من هذا الكتاب الذي رأى في هذه الثالوث تابوهات تتحكم في الثقافة العربية وتسيّجها بعدد لا يحصى من الممنوعات بنى عدد من المبدعات العربيات أوراقهنّ، وهنّ يتأملن أثر “الثالوث المحرّم في إبداع المرأة العربية” ضمن ملتقى المبدعات العربيات الذي انتظم أخيراً في مدينة سوسة التونسية.


  • الرواية وفعل الكشف 

ثمة اتفاق يشارف الإجماع على أن الرواية النسوية هي التي تصدت للمحظورات والممنوعات تكشفها، وتهتك أسرارها في وقت قصر الشعر عن النهوض بهذه الوظيفة، وظيفة الكشف والتعرية فلم يسهم إلا بعدد محدود من الأعمال وربما ارتدّ ذلك إلى طبيعة الشعر نفسه الذي يأنف من الأساليب المباشرة وطرائق التعبير الواضحة.


لم يكن الأمر سهلاً أو ميسوراً، فالمجتمعات العربية، ظلت، في الأغلب الأعم، مجتمعات محافظة وأحياناً متشدّدة، يرقى هتك أستار الثالوث المحرم فيها إلى مستوى الجريمة. لهذا كان الانفجار الروائي النسائي في البلاد العربية لافتاً، وربما صادماً.


لا شيء يبرّر هذا الانفجار سوى الرغبة في البوح، سوى التوق إلى تبديد كل الأساطير والأوهام التي تحاصر الجسد والروح في آن واحد.


ولعله أمر ذو دلالة أن يستأثر الجنس، من دون بقية التابوهات، باهتمام الروائيات العربيات بل ربما كانت الروائية العربية أكثر جرأة من الروائي العربي في تناول هذا التابو بإسهاب وتفصيل. وقد ذهب صاحب بحث “المرأة العربية والجنس من الحرملك إلى الإباحية” إلى حد القول “إن الأدب الذكوري العربي ظل محافظاً جداً قياساً إلى أدب المرأة”.


وكأن هدف عدد كبير من الكاتبات لا يتمثل في كتابة رواية بمواصفات فنية حديثة، بقدر ما كان يتمثل في كتابة نص ثائر متمرد يسعى إلى كسر التابوهات بجرأة غير معهودة. وبسبب من هذا عمدت السطات الإدارية والأمنية في البلاد العربية، في الكثير من الأحيان، إلى حظر بعض الروايات ومنع تداولها بين الناس بحجة أنّها “خادشة للحياء” أو “غير ملتزمة بقيم المجتمع” والأمثلة على ذلك كثيرة.


يكفي أن نشير إلى “خارج الجسد” لعفاف البطاينة و”مرافئ الوهم” لليلى الأطرش و”أصل الهوى” لحزامة الحبايب، لكن هذا المنع لم يحدّ من انتشار هذه الروايات بل ربّما أسهم في رواجها، على ضعفها الفنيّ أحياناً وتهافت لغتها السردية في أكثر الأحيان. بل وجدنا بعض هذه النصوص ينتقل إلى وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة لينتشر بين الناس.


وتظل السيرة الذاتية أكثر الأجناس الأدبية انفتاحاً على البوح وإفصاحاً عما يجول في النفس. لكن الأمر الذي يلفت الانتباه أن الكاتبات كثيراً ما تخفين وراء قناع اللغة ليفصحن عن غائر مشاعرهنّ ويروين حميم حكاياتهنّ. ولا تسعى الكاتبات من وراء الاشتغال على اللغة إلى توشية النص وتنميقه وإنما يسعين إلىالتستر والتقنع والتخفّي.


  • الكتابة والسيرة الذاتية

هذا ما أكدته الكاتبة رفيقة البحوري وهي تتحدث عن حياتها العاطفيّة من خلال عملها اللافت “في المياه المالحة”، مشيرة بخاصة إلى الطرق الفنية التي توسلت بها لتتحدث عن تابو الجسد على وجه الخصوص.


تعترف الكاتبة أنها لجأت في أكثر الأحيان إلى المجاز والصور  الشعرية لتقول ما تريد أن تقول. فالحظر لا يأتي دوماً من الخارج وإنما قد يأتي أيضاً من الداخل من غير أن تتفطن إليه المبدعة لحظة الكتابة. فالرقيب يحيا في أعماقها، يوجّهها ويملي عليها قوانينه.


كانت رفيقة البحوري تتصوّر أنها قادرة على تجاوز كل التابوهات وهي تكتب سيرة حياتها لكنها وجدت نفسها في الكثير من الأحيان تتوسل بالبلاغة و”استعاراتها” حتى تقول تجربتها. لكن بقدر ما كانت الكاتبة متردّدة في هتك التابو الجنسي كانت جريئة في حديثها عن تجربتها السياسية التي هي تجربة نضال مريرة خاضتها بكل قوة وحماسة لترفع من سقف الحريّة في وطنها. فقد كانت عبر الإضراب والتظاهر والمسيرة تجد ترجمان الرغبة والإرادة، بحسب عبارتها، مقتنعة بأنه بقدر صراخها يكون إصلاح العالم.


لا شك في أن سيرة البحوري الذاتية سيرة قوية لا تصوّر، من خلالها تاريخها الذاتي فحسب، وإنما تصور أيضاً مراحل مخصوصة من تاريخ تونس مع كل ما ينطوي عليه هذا التاريخ من انكسارات وخسارات بحسب عبارتها.


لكن التابوهات ما فتئت تتفاقم في العالم العربي وتتعدّد مرتدية أقنعة شتى، وهذا ما أشارت إليه الكاتبة الأردنية مريم جبر، وهي تتحدّث عن خطاب المتطرفين الذين يريدون بناء مجتمع أخر، غريب، على هامش المجتمع القائم. هذا الخطاب المغلق هو الذي أدّى إلى إنتاج الكراهية عوض التسامح والانغلاق والانفتاح. وقد كانت المرأة وبخاصة جسدها في القلب من هذا الخطاب.


  • الإبداع النسوي

وبنبرة حزينة تحدثت عن الإبداع النسوي في ظل مجتمعات عربية تجنح إلى المحافظة ولا تقرّ بحرية الإبداع. والأمثلة كثيرة على مطاردة المبدعات ومحاولة تكميم أفواههن بخاصة بعد تنامي الرقابة على المحرم الديني الذي تجاوز مؤسسات الدولة الرسمية ليصبح في أيدي الجماعات التكفيرية.


هذا الواقع الجديد شكل تهديداً خطيراً لهامش الحرية الذي هو ضيق أصلاً، وباتت المرأة المبدعة مهددة، في الكثير من الحالات، في حياتها. لكن شهرزاد آلت على نفسها ألاّ تصمت على رغم كل أنواع التهديد، وظلت تروي على مسامعنا قصتها، غير عابئة بالسيوف التي تتعاورها.


وأكدت الكاتبة أن شهرزاد اليوم لا تكتفي بالدفاع عن بنات جنسها، كما كان الأمر في ألف ليلة وليلة، وإنما باتت تدافع عن الجميع.


ومثل البحوري تحدثت راضية الشهايبي عن تجربتها الذاتية بوصفها كاتبة وشاعرة في مجتمع حدد وظائف المرأة تحديداً مسبقاً وصارماً. كانت شهادتها مؤثرة بخاصة حين تحدثت عن المجتمع الذي يعمد إلى سلب أنوثة المرأة وعنفوانها بعد سن معينة، بل يعمد إلى إفراغ كيانها من كل طاقاته الحيويّة الخلاقة ليحوّلها إلى “كائن أجوف، مليء قشّاً” على حد عبارة أليوت،


ويكرهها على أن تصبح مجرد آلة منذورة للعمل من أجل الآخرين. ثمة قوانين اجتماعية ظالمة تجبر المرأة، في مرحلة من مراحل عمرها، على الانسحاب من الحياة والانكماش على نفسها وقتل كل عواطفها ورغائبها. بل تجعل مجرد حديث المرأة عن تلك العواطف والرغائب ضرباً من “العيب” و”العار”، لا يجوز للمرأة في سنّ معينة الخوض فيه.


لا شكّ في أنّ تصدي المبدعة العربية لكل وجوه الحصار والحظر والحذف والمحو كان قويّاً. ولا أدلّ على ذلك من هذا الانفجار الروائي الذي أشرنا إليه سابقاً.


فكلما علا صوت التكفيريين ازداد صوت المرأة ارتفاعاً. وربما كانت التجربة التونسية في هذا المجال من أكثر التجارب وضوحاً وقوّة وإقناعاً. هذا ما أكدته الكاتبة آمنة الرميلي عندما عرّجت على الروايات التونسية التي تصدّت للمحظورات متوسّلة بأحدث الأساليب الفنية وأنضجها. وأشادت بعدد من الأعمال الروائية النسوية التي وسّعت من معنى الرواية أي وسّعت من معنى الحياة.


ونضيف نحن إلى قائمة الروايات التي نوهت بها الكاتبة روايتها “شط الأرواح” التي وظفت فيها، ببراعة لافتة تقنية التحقيق الصحافي أو “الريبورتاج” لتكتب نصاً من أقوى النصوص الروائية التونسية، نصّاً يصوّر برهافة قل نظيرها، مأساة المهاجرين يلقون بأنفسهم في البحر بحثاً عن عزاء لا يكون. وفي هذا السياق تصور الحال التي آلت إليه المرأة في عالم قاس وملتاث وعنيف.


  • الرواية وفن تذويب الممنوعات

إن سؤال الأسلوب ظل من الأسئلة التي تثار كلما عمدت المبدعة إلى الخوض في مسألة الممنوعات والمحظورات. فهل في صالح العمل الفني أن تلجأ الكاتبة إلى الإشارة بدلاً من العبارة وإلى التلميح عوضاً عن التصريح أم أن هذا الضرب من الروايات في حاجة إلى “قول ما لا يُقال” على حد عبارة المتصوفة وتعمد “التسمية” بعد قرون من التكتم؟


تقول الكاتبة أميرة غنيم صاحبة الرواية الشهيرة “نازلة دار الأكابر” إنها لم تقدم عن وعي عامد، على اختراق المسكوت عنه وتخطيه “بل كنت أذوّب كل ذلك داخل العمل الأدبي ليكون هذا الاختراق جزءاً مكيناً من العمل الفني نابعاً منه لا هابطاً عليه”.


في هذا الإطار تتنزل إشاراتها الكثيرة إلى الانتهاكات التي تطاول براءة الطفولة في عملها “نازلة دار الأكابر”، كما تتنزل أيضاً إشاراتها إلى الكثير من المواضيع المحظورة والتي ظلت تتردّد على استحياء، في عملها الكبير.

ترى الكاتبة أن دور المبدع يتجلّى في كشف المستور عن طريق اللغة الإبداعية لمحاربة المحظورات التي تتصدى لتطوّر المرأة، لكن ما يتناوله الأدب ينبغي أن يكون بشكل ضمني، والتضمين أكثر تأثيراً في القارئ، يتجدد معناه بتجدد القراءات. إن أميرة غنيم تتميز بموهبة إبداعية يسندها وعي نظري حاد لهذا لم تكتف بفعل الإبداع وإنما انعطفت على هذا الفعل بالنظر والتأمّل.


  • المسرح والرقابة

لكن سيف الحصار لم يصلت على الرواية فحسب وإنّما شمل كل أصناف الفنون، وربما كان المسرح من أكثر الفنون إثارة لتوجس الرقيب وارتيابه، لأنّه من الفنون التي تخاطب “الجمهور” مباشرة من دون وسائط تذكر.وتعدّ تجربة فاضل الجعايبي وجليلة بكار من أنضج  التجارب المسرحية في الوطن العربي وأعمقها وأكثرها إثارة للجدل.


فهذان المبدعان الكبيران عانيا طويلاً من ثالوث “العار والعيب والحرام” بحسب تعبيرهما، وعمد الرقيب في أحيان كثيرة، إلى منع أعمالهما أو بترها أو تشويهها مفترضاً أسباباً أخلاقية حيناً، وأسباباً دينية سياسية حيناً آخر.


لكن الأمر الذي يثير الانتباه في هذا السياق هو “التحوّلات” التي طرأت على الرقيب، إذ لم يعد الرقيب الجديد يراقب باسم السلطة والقانون وإنما أصبح يراقب باسم المقدس. لهذا أصبح الفن الرابع مهدّداً في كيانه ووجوده.


يؤكد الثنائي فاضل الجعايبي وجليلة بكار أنّ دور المسرح هو طرق الأبواب الموصدة، كل الأبواب الموصدة على أمل أن تفتح. بارقة الأمل هذه، هي التي أتاحت لهما أن يبدعا معاً أعمالاً رائدة ما زالت إلى اليوم تلهم أهل المسرح وهواته.


ويستمرّ تأثير “الثالوث المحرّم” في الثقافة العربية بحيث لا يمكن لأيّ فنّ أن يدعي السلامة منه. فهو يبسط جناحيه الكبيرين على كلّ أنواع الخطاب، يوجهها ويلون لغتها. وبالمقابل ترتفع الأصوات عالياً للحدّ من سطوته وجبروته موظفة كلّ أصناف الإبداع.


المصدر

محمد الغزي

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى