أدب نساء الصحراء -أو- الكتابة بهاجس الاختلاف
إعداد: فضيلة الوزاني التهامي | ناقدة وكاتبة من المغرب
“مساء الخير قلمي الجميل، لا تعرف كم اشتقت إليك، كانت كل لحظة تمر وأنا في غفلة عنك تهدم بيتا من عالمي الجميل”[1]
في سعي للتعرف على الإبداع النسائي بالوطن العربي، برواق السفارة الموريتانية داخل المعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء، عثرت على بعض ما كنت أبحث عنه، في بحث عن إبداع المرأة العربية بالصحراء تحديدا.
خارج العواصم العربية، وبعيدا عن المدن الكبرى، المرأة عموما مقلة في الكتابة، ظلت تلك ملاحظتي لتعززها ما سعيت إلى معرفته، ومن خلال تحليل نصوص تعد نادرة لانعدام التوزيع وقلته.
هكذا عثرت على ” عالمي مختلف”: أضمومة قصصية للكاتبة فاطمة بنت سيدي عبد الله، إحدى أبرز سيدات الثقافة الموريتانية، صحافية وشاعرة، هي من القليلات اللواتي اقتحمن عالم الكتابة بعد أن ذاعت شهرتها شاعرة بالشعر الحساني.
تؤسس فاطمة بنت سيدي عبد الله من خلال أضمومتها لعالمها المختلف في بيئة صحراوية شديدة التحفظ؛ عالم يختلف عن عوالم النساء الأخريات في الرؤية والانصياع لتقاليد المجتمع وقيوده، عالم تريده أن يكون مختلفا بتغير مسار حياتها، مسار الحياة اليومي والرتيب والممل الذي تعيشه الساردة، لا يجعل منها إلا أنثى عادية، منقادة لحياة مملة هادئة، فقد: ” ذهبتُ كالعادة إلى المعهد الذي أدرس فيه، وككل يوم سلكت طريقي الذي أصبح جزءا من حياتي” [2].
هو مسار عادي مُطَمْئِن ومُطْمَئن، لكن الساردة تريد أكثر من الشعور ” بطمأنينة أرى علم النجاح يرفرف أمامي”ـ [3] ذلك أنها لا تريد أن ترى النجاح، لكنها تريد أن تلمسه في حياتها، أريد أن أنجح وأصبح مشهورة ، هذه أمنيتي منذ كنت صغيرة “. النجاح كلمة تعني لي…أن أكتب أول حرف لي وأقول، سأنجح وأواصل كتابتي وأنا متلهفة” [4] .
هذا الأمل وتلك الأمنية التي قد تبدو للكثيرات أشياء بسيطة، غير ذات أهمية، تشكل بالنسبة للساردة/ وربما المرأة الموريتانية عموما، عالما متخيلا صعب التحقيق، تصبح فيه الكتابة/ الإبداع في حد ذاته هدفا، لهدف أسمى هو الشهرة.
هاجس الإبداع عند الساردة في هذا النص غير مرتبط بخيارات كتلك التي وضعت أمام قريناتها، أو وضعتها هدفا لحياتهن: ” صديقاتي أكبر هدف لديهن هو البحث عن رجل المستقبل”[5].
إن هذا الهدف يبدو مألوفا لدى الساردة/ بل متجاوزا، هو هدف لا يبني عالما خاصا، بقدر ما يؤسس لانتماء جماعي مألوف وغير مخالف للتقاليد ومساير… وبالتالي غير مختلف.
أما الساردة فهي تكلف نفسها مسؤولية أعظم :” نسيت أن لدي عالمي الخاص، وبأني مسئولة عن جميع سكانه”. [6]
في أسلوب لا يخلو من المباشرة، تواصل الساردة في بناء هذا العالم كما تتمناه، أو كما تبني تصوراتها حوله: ” أنا اليوم حددت مساري، وانتهت مرحلة التساؤل بالنسبة لي، أنا الآن أرى هدفي بكل وضوح، أخيرا عثرت على نفسي “[7].
وفي أوج هذا التدفق السردي التي تصف به الساردة عالم الكتابة/ المثالي، وكأنها تستغرب ما يعيبه عليها الآخرون، إذ يرونها عاكفة في محرابها الصغير، ترى استنكارهم قائلة: ” يقولون ألا تملي الجلوس وحدك في هذه الغرفة؟ أقول : أنا لست وحدي، لكن المشكلة من يفهم، فكل حرف من أحرفي يعبر عن جانب من شخصيتي، قلمي بمثابة أبي، ودفتري بمثابة أمي، وأحرفي هم إخوتي الصغار، فدائما أرعاهم وأنتقيهم بمهارة” [8].
” ماذا ارتدي الليلة”: هذا السؤال الأزلي للمرأة وهي تقف قبالة خزانة ملابسها لانتقاء ما تخرج به، وتكون الحيرة أشد عندما يتعلق الأمر بدعوة إلى حفل :” ماذا أرتدي الليلة ” ، لا يؤسس للاختلاف بقدر ما يكرس الائتلاف والتشابه مع غريزة مشتركة بين كل النساء.؛ ” أيهما أجمل هذه أم هذه؟ ” اللباس الأجمل لظهور أجمل يمنح الثقة في النفس، أمام أنظار الأخريات، فسباق البنات إلى وسط حلبة الرقص.
في فعل جماعي يصبح فيه الرقص متنفسا للمرأة، ومكانا للانطلاق من القيود، الائتلاف على الموسيقى بقدر ما يصبح فعلا فرديا للظهور والتميز أمام الأخريات، واستعراضا لجمال الجسد واللباس في نرجسية مألوفة ومحمودة، مادامت تحقق التوازن النفسي والامتلاء بحب الذات والتصالح مع الجسد؛ لكن ماذا إذا كان هذا الجهد الذي تبذله المرأة فرديا، قبل الانخراط الجماعي لحركات الجسد وتنافس أقسامه، يأتي في لحظة ما، وفي أوج الانتشاء ” سمعت ذلك اللحن لم أتمالك نفسي، فدخلت وبدأت أتمايل”.[9]
يأتي صوت ليخرج الساردة من هذا الاحتفاء الجماعي للجسد ليضعها أمام حقيقة مُرَة في مجتمع يرفض النحافة، ويقدس الجسد المكتنز، تماشيا مع أعراف محلية موغلة في القدم، ضدا عن كل الأصوات في كل المجتمعات المطالبة برشاقة الجسد وانسياب أطرافه.
“أيتها النحيفة اخرجي لكي لا يغمى عليك”[10] ؛ هل كانت هذه الكلمات لتمس امرأة أخرى غير المرأة التي تعيش في مجتمع صحراوي يقدس السمنة؟ هل كان وقعها ليكون بنفس القوة التي هزَّ بها الساردة لتجعلها تعبر عن تلك الهزة النفسية بهذا الشكل: ” تحركتْ تلك الكلمات في أذني وكأنها إعصار دمر كياني” [11]، هل كانت الساردة تبالغ وهي تقدم نفسها بهذه الهشاشة، حتى تجعلها كلمات مثل ” النحيفة” تهتز إلى درجة مغادرة الحفل والبكاء والانزواء :” عدت لمنزلي وأنا منكسرة قد تناثرت شظايا مشاعري وأحاسيسي في كل مكان” [12].
في مجتمع لا يرى في المرأة إلا كتل لحم متراصة ودهن يعلو البشرة، وضمن نظام تقليد قديم وبرنامج تعد له الفتاة إعدادا، حتى تصير أهلا للزواج، نظام غذائي صارم تشرف عليه امرأة، خبيرة في التسمين يسمى ” البَلُوح” ، رغم ما يمكن أن يلحقه هذا التسمين من مضار صحية ونفسية على جسد الفتاة ونموها النفسي.
في ظل كل هذا لا يبدو النص مبالغا عندما يبتغي أن يؤسس للاختلاف ، بحفاظ الساردة على رشاقتها، أو لا يراها المجتمع الموريطاني الصحراوي سوى نحافة معيبة؟ إلى درجة تدفع بخطيب الساردة إلى التراجع عن الخطبة وهي التي رأت بر الأمان والفرح :” بقدومه ظننت بأنني امتلكت السعادة التي كنت افتقد، فهرعت لأدخل من بابها الأول”.[13]
الساردة تختزل المأساة في كلمة واحدة، ينطق بها خطيبها: ” أريد أن أتزوج فتاة سمينة، قالها في كل وقاحة وجرأة: اعذريني لا يمكننا أن نكمل” .[14]
يبقى السؤال أمام هذا الموقف هو : هل كانت مفاجأة بالنسبة للساردة؟ هل توقعت أن يكون خطيبها مختلفا عن الآخرين؟ في حين كانت حريصة على أن تكون مختلفة عن الأخريات؟ ليس تماما، فثمة توجس في النص وهي تقول: قالها أخيرا” ثم تعلق: ” إنكَ مثلهم ؟ “[15].
بهذا يكون التوتر النصي قد وصل إلى ذروته، وبالتالي لم يكن هناك بد من أن تقرر الساردة الامتثال للأمر الواقع وعدم معاندة التيار، فتقرر شراء تلك الأدوية التي تباع عند العطارين، صنعت خصيصا للتسمين:” ذهبت للسوق لأشتري حلي السحري، سوف يزيد وزني وأصبح جذابة، وقد لا تأثر تلك الحبوب على صحتي”.[16]
لكن هذه ” القد” التي ذيلت بها الفقرة لم تكن بالقوة التي تجعلها تستمر في القرار الذي قطعته على نفسها بأن تصير سمينة، وتروق لخطيبها ومجتمعها، أن تصير مثل الأخريات سمينة، لكن عليلة، هذه “القد” لا تحمل التحقيق بل الشك، ينغرس في نفسها أكثر وهي ترى تلك العقاقير تباع أمام أنظار المارة على الأرصفة معرضة للشمس، وتباع بتاريخ صلاحية منتهي.
ثم وفي لحظة تقرر الخروج من حالة اليأس والتخبط لتؤسس مسارها الجديد المختلف، لتواجه ضعفها قائلة :” يأسي من أتى بي إلى هنا، وطموحي من سيأخذني من هنا”.[17]
هكذا يصير نص ” ما تُهمتي” رغم بساطة اللغة واختزال المشاهد في جمل سردية قصيرة متتالية، مؤسسا بالفعل لحالة الاختلاف التي تريد أن تحققها المرأة الموريتانية من خلال الثورة على تقاليد المجتمع البالية التي تجعل من المرأة جسدا معروضا للأنظار ، واستمرارا لتشيء المرأة واختزالها بين ثناياه المكتنزة؛ إلى جسد ينتصر للصحة والتحكم في الذات والتحرر من التقاليد البالية.
فاطمة بنت سيدي عبد الله، من خلال مجموعتها القصصية ” عالمي مختلف” تترجم إلى حد بعيد رأي الباحثة ليلى محمد بلخير[18]: ” محلية الكتابة هي الشيء الوحيد المنقذ للكاتبة من القهر الخارجي، وهي ملجأ للإشباع الداخلي، وإن لم تمتلك موضوعا أو فكرة بعينها ” .
ذلك أن هذه المجموعة لا يمكننا أن نصنفها ضمن مجموعة القصصية المتكاملة، ذات التيمة الواضحة والمحددة، بقدر ما هي تفريغ لمواضيع شتى، وأحيانا لمواقف من حالات اجتماعية أو نفسية مختلفة. يأخذ طابعا توجيهيا، وآخر يلبس لباس التحدي :” هل تحولت حياتنا إلى غابة يحكمها العنف وشعارها الحياة للأقوى، الضعيف لا يعيش، أم أننا تحولنا من مرحلة لمرحلة أخرى؟ أأصبحت حياتنا صعبة لهذه الدرجة؟ “.[19]
هكذا تصبح الكتابة في مجتمع لازالت فيه المرأة الكاتبة عملة نادرة، ومتنفسا للخروج من عالم تصير فيه العقلية الذكورية إقصائية، وتتغول فيه التقاليد، وتغدو الكتابة النسائية ـ على ندرتها ـ تبئيريا في معالجة قضايا المرأة المستلبة من الرجل” . [20] وعليه فنحن ننحاز في هذا المجتمع بخصوصياته إلى ما خلصت إيه نوال السعداوي في كتابها ” المرأة والجنس” بقولها: ” على المرأة أن تدرك أن نجاح حركتها للتحرر يركز على مقدار نجاحها في المساهمة في تغيير المجتمع” .[21]
وبذلك تكون قصص ” عالمي مختلف” للكاتبة الموريطانية فاطمة بنت سيدي عبد الله، هي حجرة صغيرة في بركة مجتمع راكد، تنحو نحو التغيير بالاختلاف الإيجابي.
دة. فضيلة الوزاني التهامي = ناقدة وكاتبة من المغرب.
المراجع:
ـ فاطمة بنت عبد الله؛علمي مختلف، أضمومة قصصية، منشورات اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين 2012
ـ نوال السعداوي،المرأة والجنس / مؤسسة هنداوي/ مصر 2022.
ـ فاطمة محمد بلخير؛خطاب المؤنث في الرواية الجزائرية. نسخة رقمية.
ـ سعيدة بن بوزة، الهوية والاختلاف في الرواية النسوية في المغرب العربي/ دار نينوي بدمشق ـ سوريا
ـ حسين المناصرة؛ مقاربات في السرد/ عالم الكتاب الحديث، الأردن 2012.
ـ قصة” عالمي مختلف” ، ص 29 [1]
ـ ليلى محمد بلخير ، خطاب المؤنث في الرواية الجزائرية، ص 16[18]
ـ قصة ” لو أننا هكذا ” ص 49.[19]
ـ حسين المناصرة مقاربات في السرد ، عالم الكتاب الحديث 2012/ الأردن ص 93.[20]