الأدب النسويالحقوق والقانون العامدراسات إسلامية

مرافعة تنويرية في الدفاع عن الحركة النسوية

قضيّة المرأة حقوقيًا من أهمّ قضايا التيّار التنويري؛ فلا يمكن أن ينهض مجتمع الأم والزوجة والبنت والأخت، أي نصف المجتمع، وهو مسجون في معتقلٍ ذكوري فشل ذكوره في نهضة مجتمعهم؛ فمارسوا ذكوريتهم على الجانب الأضعف.


لذا فإنّ تحرير المرأة لا يتحقّق، بمعناه العميق، قبل تحرّرها والرجل معًا من ثقافة قوانين وأعراف سياسية واجتماعية عفا عليها الزمن، فرضت عليهما استبدادًا وقهرًا سياسيًا واجتماعيًا، ولذلك لا بدّ من تحريرهما معًا، من تلك الثقافات والأعراف.


أما الحديث عن تحرير المرأة بمفردها، فهو حديث يتجاهل أنّ الرجل والمرأة هما قطبا الحياة الانسانية، فإذا وقع خلل بوظيفة أحدهما، تجلى هذا الخلل في واقع الآخر. فالرجل يحتاج إلى التحرر من أفكار وثقافات لا تنتمي مطلقًا إلى عصرنا، ولا ترى المرأة عنصرًا اجتماعيًا مكافئًا له، ولذلك فإن تحرر الرجل من تلك الثقافات والأعراف عاملٌ مهمٌ في وعيه بالعنصر المساعد له في الحياة، فقضية التحرر قضيةُ وعيٍ حقوقية وإنسانية بامتياز.


إنّ إدراك رسالة التنوير للانحرافات الدينية التي تُمارس من خلال سدنة الدين الموازي، هو إدراك للقيود الاجتماعية التي وضعتها العقلية الذكورية باسم الدين، فاعتقلت المرأة في زنزانة الأعراف والتقليد، وأوهمتها بأن في هذا الاعتقال كرامتها وعفتها.


  • قضية المرأة بين الدين والتدين

يعتقد كثير من المسلمين والمسلمات أنّ ما احتوته كتب الفقه الإسلامي، من اجتهادات فقهية بخصوص المرأة، هي الإسلام الحنيف بذاته، وعندما تعترض الحركة النسوية على هذه الاجتهادات، تُعدُّ متآمرةً على الأسرة وعلى الإسلام ذاته.


ومع تعنّت الفقهاء المعاصرين بعدم تجاوز هذا الفقه الذكوري، باتت المرأة تعيش ظلمًا وحيفًا كبيرًا يُنسب إلى الإسلام، وهو منه براء! ولذلك كلّما رفعت صوتها من خلال الحركة النسوية مطالبةً بحقوقها، مارس سدنة الدين الموازي تنمرًا عليها دفاعًا عن فقه وفتاوى ذكورية، أنتجها الاجتهاد البشري في زمن مختلف، بشروطه وبظروفه وبأعرافه وقوانينه، عن عصرنا.


حتى أضحى ما اجتهد فيه فقهاء القرون الأولى يحسبه كثيرٌ من المتدينين مُسَلَّمَاتٍ إسلامية! يجب على المرأة تنفيذها وعدم الخروج عنها، لكونها أوامر دينية! وإلا باتت ناشزًا ومتمردة على الدين والمجتمع، ومن حق السدنة وأشياعهم التنمّر عليها! ولعمري، إن هذا افتراء على الله ورسوله.


وما يُحزن أكثر أن بعض النسوة يرين أن من الواجب التقيد بتلك المقولات الفقهية، لأن هذا التقيد فيه متعة روحية دينية، ولو أننا بحثنا في تلك المقولات الفقهية، فسنكتشف أنها مما خطته يد الكهنوت، الذي يعلن الدين الحنيف براءته منها.


لقد أسهمت الثقافة الذكورية المُمَارسَة تطبيقًا منذ قرون، في جعل تلك الاجتهادات لا تنفصل عن الدين ذاته، وكأنك لو أثبتَّ بطلانها، انتهى الدين، وتلوثت طهارته؛ فظنوا أن الدين وتلك الاجتهادات الذكورية، باتا كالتوأم “السيامي”، إذا فصلتَ أحدهما عن الآخر، مات الاثنان، ولعمري إن تلك فِرية كبرى على الدين الحنيف، تتهافت بمجرد إعمال العقل فيها.


والتنوير يعمل بمقصد إنساني عام، والتكريم الإلهي للإنسان لا يخصّ الذكر دون الأنثى، ولكن في زحمة التفكير الأحادي الاتجاه، ضاعت حقوق المرأة.


إذن؛ الفرق كبير بين الدِّين والتديّن، أما الدين فهو رسالة السماء التي تنظر إلى كلّ بني البشر بعين العدالة والمساواة، وأما التديّن فهو فهم بشري لرسالة الدين من جهة، وأحيانًا كثيرة تتدخل المصالح في تشكيل التدين، من خلال تحالف قبيح بين السلطة وكهنة التدين من جهة أخرى.


  • قصور حركة التجديد الديني في قضية المرأة

إن بعض المجددين الأوائل لم يمنحوا قضية المرأة المساحةَ التي تستحقها، لتُسهم في عملية النهضة، وربما أسهمت عقدة الاستبداد السياسي في انشغالهم كثيرًا عن قضية المرأة، لذلك نجد أن مشروعات التجديد العتيقة، ومشروعات النهضة الحديثة، فشلت أو تعثرت، لغياب رؤيتها في النهضة عن نصف المجتمع الذي تشغله المرأة، فجاء تجديدهم أعرجَ، وكان مشروعهم مشلولًا.


وغاية من انشغل فيه بعضُ المجددين، في قضية المرأة ومساواتها بالرجل، كان مُقَزّمًا بمسألة الحجاب واللباس، على الرغم من أهميتها، فقرؤوا النصّ الديني قراءة بعيدة من الشروط السياسية والقانونية والاجتماعية والدستورية، التي تُعيد للمرأة حقوقًا سلبتها إياها ذكورية فاحشة! خضعت للأعراف والتقاليد فشرعنتها باسم الدين.


فالتجديد الديني هو بحثٌ عن نصّ بديل عن النص المعمول به، لاستدراك نقصٍ ما في وظيفة النص، أما التنوير فهو بعثٌ للمقاصد الإنسانية العادلة، وإنْ انطلق من النص، فهو يعمل بمقصده، لا بظاهره.


إن الشرط التنويري لتحرّر المرأة يقتضي تفكيك تلك الفتاوى الفقهية التي سطّرها فقهاء العصر الذكوري، إبان عصر التدوين، ويحتاج إلى القول بكل شجاعة إن تلك الفتاوى المقيدة لحقوق المرأة زمكانية، وانتهت صلاحيتها اليوم في عصر المواطنة والمساواة التي باتت المرأة تعمل فيه كالرجل،

وإنّ أي تديّن، إنْ لم يدرك القائمون عليه أن وظيفته متغيرة وفق شروط سيرورة وصيرورة الاجتماع والسياسة والحقوق، لا يمكن اعتباره صالحًا، ولا يحق لدعاته نسبه إلى السماء، ولا تكفي ثرثرة رجال الدين بحديث المؤامرة على المرأة المسلمة، لإقناع الرأي العام بحججهم المتهافتة.


فكما عالج النص في عصر الرسالة قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية، وكان حالة انقلابية عليها، ونجح في عملية التغيير، يجب علينا التعامل مع المعاصرة من تلك الزاوية، إذ نحافظ على المقاصد السماوية، ولكننا نبدل الوسائل المعرفية، حتى نحقق القفزة التي حققها النص القرآني في تغيير ونهضة مجتمع الرسالة.


ومما تقدّم، يتبين أنه لا يمكن منح الفتاوى الفقهية التي صدرت في قضية المرأة أبدية التعامل والإلزام، إنما هي محكومة بزمانها وبيئتها، وهذا يعني أنها ليست أبدية الصلاحية، وهذا ما يخشى سدنة الدين الموازي اليوم الاعتراف به، ليذهبوا وأشياعهم إلى شنّ الهجوم على الحركات النسوية، مستغلين بعض الانفعالات النسوية، لاستخدامها ذريعة في إبطال أحقية تلك المطالبات الحقوقية.


حيث يقوم الكهنة والسدنة، من خلال خطابهم في مواقع التواصل الاجتماعي، بإجراء قياسات فاسدة على المجتمع الغربي، فلا يرون حقوق المرأة وحريتها إلا أنها دعوة للفسق والفجور، ليجمعوا حولهم تيارًا شعبويًا، فيجعلوا نضالات المرأة موسومةً بالعمالة للغرب، ومهددةً لكيان الأسرة، وقد غاب لذكوريتهم أنّ مسألة تحرّر المرأة شيء، وتحرير الوصول إلى جسدها شيء آخر، هو مرفوض عند تلك الحركات ذاتها.


هذه الخطاب المؤامراتي لسدنة الدين الموازي يُراد منه حرف الرؤية المجتمعية لمطالب تلك الحركات عن هدفها الإنساني باتجاه حالة أخلاقية تثير غرائز مجتمع ذكوري، فترفض أي حديث في قضية تحرر المرأة التي تتولى منابرها منظمات نسوية في مجتمعاتنا،

نالها من الظلم والافتراء والاتهام ما نال تيار التنوير ذاته، في مجتمع يرفض إنهاء عصر “الحرملك”، ولا يرى المرأة إلا لخدمة الرجل ومتعته، حتى أصابه عمه البصيرة عن نسوة قادت بلادها نحو التحضّر والتنمية، فباتت في طليعة دول العالم، كألمانيا، وفنلندا، وسنغافورا، وغيرها.


وهذا يعني أن الحديث النبوي الذي يلوكه السدنة (ما أفلح قوم ولّوا أمورَهم امرأة)، ليمنعوا المرأة حق قيادة البلاد، يردّه الواقع، فضلًا عن أنّ راويه “أبي بكرة” متهمٌ، حتى لو كان الحديث صحيحًا، فهو يتحدث عن حرب أهلية وقعت لفارس، تولّت خلالها امرأة تدعى “بوران” عرش كسرى، وهذا الحديث إنما هو تحليل لوقائع سياسية، وليس إخبارًا تشريعيًا، كما يظن ويروّج كهنة الدين الموازي ([1]).


  • تحرّر المرأة قضية تنويرية

إن التنوير الديني لا يمكن أن ينجز مهمته، إذا تجاهل قضية تحرر المرأة، فحقوقها منحة سماوية وهبها لها الخالق عزّ وجل، وإن أيّ مشروع للنهضة والتنمية والتقدّم لا يُنجز تحرر المرأة من نِير تلك الفتاوى الذكورية، سيبقى أبتر بلا نتائج إصلاحية.


وفي قضية تحرّر المرأة، نحن -كتنويريين- لا ننقض عرى الدين، لكننا ننقد ونتمرد على مسلّمات الدين الموازي المتعارضة مع حقوق الإنسان التي تحدثت عنها مقاصد الدين الحنيف، القائمة على الحرية والعدالة والمساواة، كما ننقد الأدوات المعرفية التي أنتجت هذا الفقه الظالم للمرأة! فالفرق كبير بين النقد والنقض.


نحن ننقد جَعلَ فهم النص الديني محنطًا على فقهاء عصر التدوين، الذي أنشأ تدوينُهم دينًا مخالفًا للدين الحنيف، حيث إن النصوص القرآنية شيء وتفسيراتها شيء آخر، وهذا يعني أن لا قداسة لفهم بشري، ولا تبعية له،


وأما الاستمرار في منحه الفاعلية، في مجتمعٍ يبتعد عنه على الأقل باثني عشر قرنًا، فهو تقديس للثقافة الأبوية التي ذمّها القرآن نفسه: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} الشورى:22.

فتحنيط النص القرآني، على فهم أنتجه عقل بشري منذ قرون، مسألة آبائية مذمومة، قرآنيًا وعقليًا، والانغلاق على تلك الفهوم البشرية إعلانٌ غير صريح بإفلاس العقل المتديّن من الإبداع والإصلاح، وعدم الأخذ بعين الاعتبار التطور الإنساني في مجالات الحياة كلها،

وهي عُزلة شعورية/ ذكورية تجعلهم كأهل الكهف، حيث لم تعد عملتهم النقدية (أفكارهم) صالحة للزمن الآخر، بعد أنْ أيقظتهم مطالباتٌ نسوية من نومهم في كهفهم سنين عددًا.


  • الفرق بين المساواة والتساوي

الإسلام، إذ احترم أنوثة المرأة ورعاها، لم يرتّب على ذلك غمطًا لحقوقها، ونقول لمن يتذرع بالرد علينا ببعض نصوص الميراث: لماذا غيبتم وأقصيتم الوصيّة التي أكدها سبحانه وتعالى، في تسع آيات بيّنات، وكانت مقدّمة بالنصوص كلّها على الفرائض في عملية تقسيم الإرث؟ والعجيب أن مجتمعات العالم كلها وقوانينها تعمل بالوصيّة القرآنية! إلا أتباع الدين الموازي في شرقنا البائس الذين يدّعون التزامهم بالدين.


كما أن ابتداع المبدأ الأصولي عند الفقهاء المسمى “سدّ الذريعة”، الذي يشبه كثيرًا قانون الطوارئ في أنظمة الاستبداد المكبّل لحرية الرأي والتعبير، كان جلّه مستخدمًا لتقييد المرأة منطلقًا من كونها ليست أهلًا للثقة، ولا أهلًا لتباشر شؤونها بذاتها، وتحت مبدأ سد الذريعة، اعتُقِلت المرأة قديمًا في بيتها.


فالتعليم محرّم، والخروج ممنوع، وصوتها عورة! والمسلم الحقيقي ليس مكلّفًا باجترار عادات قريش ونجد والحجاز، ولا استنساخ روايات “الحرملك”، إنما مكلف بتقديم إسلام عقلاني، متصالح مع العصر، وكما عاش الأولون عصرهم بشروطه، الواجب علينا أن نعيش عصرنا بشروطه.


وإنّ من يدعي أن القرآن فرّق بين دور المرأة والرجل، في بناء المجتمع السليم، مفترٍ على الله! وهناك عشرات الآيات التي تؤكد المساواة بينهما، منها قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} التوبة: 71.


والواو هنا في الآية، ليس لعطف الإناث على الذكور، كما يظن بعضهم، إنما الواو هنا -لغويًا- هي واو المشاركة بالحكم والمهمة والدور، بدليل سياق الآية ذاتها (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ). إذن الولاية دور تبادلي، وليست محصورة بالذكور، وكذلك سياقها في قوله {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ}؛ فالجمع هنا يخص المؤمنين والمؤمنات، ولا يُفضِّل نوعًا على نوع.

بناء على ما سبق، نطالب بالمساواة بين المرأة والرجل، لا بالتساوي، لأن المساواة مفهوم حقوقي إنساني لا يتعلق بالذكورة والأنوثة، وأما التساوي فهو مفهوم وظيفي فيزيولوجي، يتعلق ببعض الوظائف والمهام والأعمال، حيث يجب مراعاة طبيعة المرأة في العمل المنوط بها،

وللمرأة مهام تبدع فيها، بالرغم من ضعفها الفيزيولوجي، ولا ينافسها الرجل فيها، ولا يجيدها، وبذلك تتجلى مفهوم الزوجية -أي الثنائية- القائم عليها الكون كله، فالزوجية الكونية وظيفة حيث يحتاج كلُّ جزء إلى مقَابِله حتى تكتمل الحياة.


  • معنى الآية {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} تنويريًا

هناك من يتذرع بأنّ هذه الآية تمنح الرجل أفضلية على المرأة! ولطالما أرقتني هذه الآية، وأنا أتدبّرها، ولم تقنعني التفاسير في تأويل معنى الدرجة لذكوريتها، حتى وضعتها ضمن سياقها، واطمأننت لما وصلتُ إليه. فقد وردت في سياق الطلاق.


وهذا ما يتم تجاهله في أثناء الاستشهاد بها، فالدرجة هنا هي عصمة الزواج، وهذا موجود في كلّ الشرائع والقوانين السماوية والأرضية، ففي اليهودية والإسلام الرجلُ يعطي الميثاق لزوجته، بأن يرعاها ويكرمها ويحافظ عليها.

ولهذا ينال درجة أن تكون العصمة بيده، أما في المسيحية، فلا توجد هذه الدرجة، لأن الميثاق متبادل يعطيه الزوج والزوجة في آن واحد (سرّ الزواج)، وبالتالي فإن الدرجة هنا في العصمة وتكاليف الزواج، ولا تتعداها، والله أعلم.


فالمساواة حقّ في القرآن للمرأة، لا يحقّ لأحد أن يسلبه منها، حتى إن كلمة (امرأة) تكررت في القرآن (24) مرة، وكلمة (الرجل) أيضًا (24) مرة أيضًا. كما أنّ الآية تجتزئ من سياقها بالسورة: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ} البقرة: 228.


ولو قرأت الآية ضمن سياقها، لوجدت أنها تتحدث عن قضايا الزواج والطلاق حصريًا، فالرجل متكفّل بمصاريف الزواج، وهذا عُرْفٌ معمولٌ به في كل العالم، فهي درجة تكليف لا تفضيل، لأن الآية تُقِرُّ بمبدأ المساواة بينهما: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. والرجولة صفات شخصية لا فيزيولوجية، من الممكن أن تجدها عند المرأة، كما عند الرجل.

والفرق كبيرٌ بين الرجولة والذكورة، وإلا كان الحصان أكثر رجولة منا! وفي آية أخرى، قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء} النساء:1.

هذه الآية ترد على المقولة الباطلة والمنسوبة إلى النبي الكريم، بأن “المرأة خُلِقت من ضلع أعوج”، لتؤكد أن الرجل والمرأة خُلقا من نفس المادة (خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ)، وليست المرأة خُلِقت من الرجل، كما في الرواية اليهودية، وبيّنت الآية نفسها أن ليس كلُّ ذكرٍ رجلًا، فقالت (رِجَالاً كَثِيرًا)، ولكنها أكدت أنّ كل أنثى صالحة للأمومة (وَنِسَاء) فجاءت كلمة نساء مطلقة، أما كلمة رجال فقُيدت على الكثرة لا على العموم.


ولنقرأ كيف فسّر السابقون “الدرجة” في الدين الموازي:

اضطرب المفسرون في معنى الدرجة، حتى جاؤوا بمتناقضات وتأويلات مضحكة في تفاسيرهم، فابن كثير نقل في تفسيره “الدرجة أي الجهاد”.

ونردّ هذا التأويل، فنقول: أليست المرأة اليوم موجودة في الجيش باختصاصات عسكرية شتى، حتى القتالية منها؟ ثم يستدرك ابن كثير في عنعنة أخرى قائلًا: “يُطِعْن الأزواجَ الرجالَ، وليس الرجالُ يطيعونهن”! فنرد عليه: ألم يستشر النبي نساءَه في مسائل مهمة وحاسمة، وعَمِلَ بمشورتهن،

كما في صلح الحديبية وغيرها؟ ثم يتابع في نقله عن الأوليين، ليأتي بتفسير مضحك عن معنى الدرجة، ويقول “الدرجة التي له عليها أن جعل له لحية (شعر الذقن)، وحرمها ذلك”!!!! ثم جاء بتأويلات أخرى يطول ذكرها هنا ([2]).


أما البغوي في تفسيره، فقال: الدرجة هي اللحية! والصفح عنها! ([3]) وأما القرطبي في تفسيره فقد نقل عددًا من أقوال للسلف، منها “هي اللحية! وهذا إن صحّ عنه فهو ضعيف”، و”الصداق”، و”حقوق النكاح” ([4]). وأما الطبري، فنقل في تفسيره عن السلف معاني عدة، منها أن معنى الدرجة “يطعن الأزواج الرجال، وليس الرجال يطيعونهن”، و”إنها إذا قذفته حُدّت، وإذا قذفها لاعن”! ([5]).

ألم تلاحظ أنّ المشترك في تفاسيرهم، وهي تفاسير تعمل بالمأثور، أن الدرجة هي “اللحية”، وتتهافت تفاسيرهم هذه بوجود الرجل الأمرد! هل هذا معقول؟ هذا ما نقله لنا المفسرون في مسألة كيف فهم الأولون معنى الدرجة، ثم يأتيك من يُنكر عليك،

إذا جئت بفهم عقلاني واقعي لآيةٍ لم يقُل به آباؤهم الأولون! فكلّ هذه التأويلات التميزيّة التي تضع المرأة بدرجة أقل من الرجل تردّها آية واحدة، تقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} التوبة:71.

ختامًا: لا يمكن أن يكون هناك تنوير حقيقي دون أن نبحث موضوع المرأة، ونصل فيه إلى حلّ حاسم، ولا يمكن أن تتحرر المرأة، وتنهض الأمة، إلا إذا تحرر الرجل من ثقافةٍ ذكورية تجاوزها العصر، وتخلص من سوء فهمه للإسلام ومقاصده.


يقول مالك بن نبي: “المرأة ليست أدنى من الرجل، ولا أعلى منه، إنما هي الوجه الأجمل للإنسانية. الذي لا يمكن أن نحيا بدونه”. ولكن: هل كانت هناك حركة نسوية في تاريخ الإسلام، تمرّدت على الفقه الذكوري والدين الموازي، وتحدّتِ الفقه والفقهاء واجتهاداتهم، ولم يجرؤوا على معارضتها؟! هذا ما سنبحثه في الورقة القادمة، إن شاء الله.


[1] ـ هذا الحديث رواه أبو بكرة معترضًا على قيادة السيدة عائشة في موقعة الجمل. وأبو بكرة هو نفيع بن الحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج، وقد جلده عمر بن الخطاب بحدّ القذف بالزنى، وأسقط شهادته.

[2] ـ راجع تفسير ابن كثير لمعنى الآية (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ).

[3] ـ راجع تفسير البغوي لمعنى الآية (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ).

[4] ـ راجع تفسير القرطبي لمعنى الآية (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ).

[5] ـ راجع تفسير الطبري لمعنى الآية (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ).


أحمد الرمح :
باحث وكاتب سوري، مهتم بشؤون الإسلام السياسي، شارك في نشاط لجان إحياء المجتمع المدني في سورية، وفي تأسيس ملتقى الحوار الوطني السوري وغيرهما، وله العديد من الكتب المطبوعة.

مركز حرمون للدراسات المعاصرة

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى