“فرديناند سيلين” يعود بإبداعه .. اكتشافِ أوراقِه الأَدَبيَّةِ المسروقة منذ 1944
كثيرةٌ هي الشّخصياتُ الفِكرية والأدبية والفنية التِّي تفرِضُ نفسها حتى على الأعداء بإبداعها الاستثنائي، رغمَ كلِّ ما تُثيره من كرهٍ وحقدٍ واشمئزاز، بسببِ مواقفَ إيديولوجية عامة وسياسية خاصة.
وإذا كانت الزَّوابِعُ التي عرفها التاريخُ بسببِ مَوقِفَ هذا الكاتِبِ أو ذاك، قد خفَّت نِسبيًّا مع مُرورِ الوقتِ لِتَراجُعِ أو تَغَيُّرِ رُدودَ الأفعالِ نتيجةَ إعادَةَ نَظَرٍ أو خَطأ في التقديرِ والفَهم (مثال ألبير كامو ومَوقفه من الثورة الجزائرية)، فإنَّ بعضها بقيت عالقةً ومؤثِّرَةً ومُتجذِّرَةً في المِخيالِ الفردي والجماعي الفِكري والأدبي، لارتباطها بِصِراعٍ إيديولوجي عالمي ما زال يُحدِّد توجُّهاتِ الكثيرِ من الكُتَّابِ والسيَّاسيِّينَ والقادة، ونَقصِدُ في هذا السياقِ النَّازِية التِّي تسبَّبت في حربٍ عالميَّةٍ ثانيّة رَسمتْ خريطةً إيديولوجية انعكست في شتَّى أشكالِ الإبداعِ دونَ استثناء بوجهٍ عامٍ، وفيِ الرِّواية والسينما بوجه خاصٍ، ولا يُمكن اليومَ إثارةَ هذا الأمرِ دونَ التفكيرِ في الرِّوائِي الكبيرِ والشَّهيرِ لويس فرديناند سيلين (1894 – 1961) الذي قالَ لي عنه في باريس قبلَ أعوامٍ الرِّوائِي المعروف رشيد بوجدرة “إنَّهُ أكثرَ وأَقوَى الرِّوائيين الفرنسيين إبداعًا على الإطلاق”، إلى جانب بروست وفلوبير.
سيلين.. النازي المفترض
سيلين الميّت الحيِّ أكثرَ منْ أيِّ وقتٍ مضَى، عادَ مُؤَخَّرًا إلى واجهةِ الحدَثِ الفِكري والأدبي ليسَ باعتبارِه نازيًّا مُؤكّدًا حسبَ اليَهود والصهاينة وغيرهم من مُؤِّيديهم من مُنطلَقٍ عِرقي وَتوجُّهٍ عقائِدي ومُمارسة سياسيَّةٍ فحسب، بل كرِوائي مُعترف به إبداعيًّا، واكتشافِ الآلافِ من أوراقِه الأَدَبيَّةِ التِّي سَرَقت منهُ عام 1944 حسب قوله، هُو الدَّليل الدامِغِ الذِّي لاَ يَترُكُ هامِشًا للتَّشكيكِ في أهمية الحَدثِ مهمَا كَبُرت مزاعمَ مُفَنِّدِيه. لمْ يكُن هذا الاكتشاف خبرًا عاديا، وشكَّلَ حَدَثًا اهتزَّ لهُ المشهَدُ الأَدَبي والفِكري والسياسي، وتسبَّبَ في إجماعٍ حوْلَ أَهميَّتِه الأَدبيَّةِ القُصوى بِغَضٍّ النَّظَرِ عن “قُبْحِ” مَوَاقِفَ صاحِبِه الذِّي أيَّدَ النازية.
سيلين صاحبَ رائعةِ وتُحْفَةِ “رِحلَةٌ حتَّى حافَةِ اللَّيلِ” (1932) اللصيقةِ بخصوصيَّتِه الإِبداعية حسبَ كلِّ النُّقَّادِ والدارسين المتخصصين، عادَ بقُوَّةٍ بعدَ أكثرَ منْ سِتِّينَ عامًا من تاريخِ وَفاتِه من خِلالِ كتاباتٍ تُشكِّلُ مَتْنًا رِوائِيًّا تَستعِدُّ دار غاليمار الشهيرة لِنَشرِه في لاحقِ الأيَّامِ بعدَ تَردُّدٍ كبِيرٍ باعتبارِه قصَّةٍ بديعةٍ، علَى حدِّ تعبير النَّاقدِ والباحِث الأدبي هنري غودار، وحدَثًا غيرَ مَعقولٍ، حسبَ إيميل برامي، كاتبِ سيْرَةِ سيلين.
صحيفة “لوموند” التي انفردت بنشر الخبر، أكَّدت أنَّ المِلفَّ الأدبي الذِّي عُثِرَ عَلَيْهِ يَتَضمَّنُ حوالِي سِتَّةِ آلافٍ وَرَقَةٍ وَجَدَتْ فيِ كيسٍ خشَبيٍّ للملابسِ، ورَغمَ قِدَمِهَا وَتعرُّضِها للرُّطوبَة والوسخ، فإنَّ المخطوطِ مَا زالَ صالحًا كمادَّةٍ تَنضحُ بحُمَّى كِتَابَةٍ بديعة جديدة. فردينا دوتوش المعروف روائيا بسيلين- وحسب “لوموند” دائمًا- أكد مرارًا أنَّ المخطوطَ قدْ سُرِقَ مِن بَيْتِه قبلَ فِرارِه، وكتَبَ ذلك في دفاتِر السِّجْنٍ عام 1946. ويَجْدُرُ بالذِّكر، أنَّ قبرَ سيلين الذي تُوفِيَّ يوم الفاتح من تموز/ يوليو 1961- قد فُتِحَ يومَ الثامن من نوفمبر/ تشرين الثاني لوضْعِ جُثمانِ زوجَتِه جَنْبَهُ.
شهادة أوستر المحب للروائي المنبوذ
قبل عوْدةِ سيلين إلى واجهَةِ الحَدثِ الأدبي اليوم، ونَشرِ دارِ غاليمار لمخطوطه قريبًا، استبق الروائي الأميركي الكبير بول أوستر تاريخَ أهميَّةِ اكتشافِ مخطوطِ سيلينَ الجَدِيدِ. وفَعلَ أوستر ذلك، مطلعَ عامِ 2018 حِينَمَا صرَّحَ قائلًا لإِذاعةِ “فرانس أنتير”: “إن التَّعتِيمُ على كتاباتِ سيلين الرائعة ليسَ فِكرة جيدة”، وقال هذا الكلام مُعقِّبًا على عدَمِ مَنْعِ تداولهَا في فرنسا بسبَبِ عدَمِ طَبْعِها مُجدَّدًا منذُ الحربِ العالميةِ الثانية، وَتَرَدُّدِ دارِ غاليمار في نَشرِها قبلَ تَغيِير مَوقِفِها مُؤخرًا إثرَ اكتشافِ مخطوطِه الذِّي ضاعَ مِنْهُ أو سُرِقَ مِنهُ، كما قال سيلين نفسه.
واستطرد أوستر قبلَ عامين قائلًا: “هل يجبُ إعادَةَ طبعِ “تفاهاتٍ لمَجزَرَةٍ” ـ لـBagatelles pour un massacreـ وكتابات أُخرى مُناهِضة للسَّامية؟ لا أعرِفُ، وَأَعرِفُ في الوَقتِ نَفسِه أَنَّهَا كانت مُنتَشِرة في كلِّ مكانٍ، وأعتقدُ في النِّهايةِ أنَّهُ يجبُ نشرها، لأنَّهُ كاتبٌ كبيرٌ، ورغمَ أنه ارتكبَ أخطاءً في التَّقدِيرِ والحُكمِ، لاَ يَجِبُ مَنعُ كتاباته ونَبْذِهِ حتَّى ولو أَضحى الأمرُ مُقزِّزًا وَمُنَفِّرًا وصَادِمًا، وذَلك لِفَهمِ كلِّ شيئ عنه. أُحبُّ رواياته بطبيعةِ الحالِ رغم قُبحِها”. يَجدُر التَّذكيرُ أنَّ بول أوستر، الذِّي يُعدُّ أحدَ أهمِّ الكُتَّابِ الأميركيين اليومَ، مثلَ الراحلِ فيليب روث، قد أدلى بالحديث المذكورِ للإذاعَةِ الفرنسية المذكورةِ بِمُناسَبةِ نَيْلِه جائزةَ الكِتابِ الأجنبي عن روايته “4321” التِّي صدَرت عن دار أكت سود.
لمزيدٍ من التوضيحِ لسياقِ عدم طبعِ روايات سيلين قبل اليوم، نُضيفُ أنَّ الدار الفرنسية “غاليمار” قد خضعت قبلَ ثلاثة أعوامٍ للوبي المعادي لفكرة طبع روايات سيلين، فلَمْ تَنشُر في طبعاتٍ نقدية -كما أعلنت ذلك بهذا التعبير- رواياتِ “تفاهات لمجزرة” و”مدرسة الجُثَث” و”الملاءات الجميلة” التي كتبها سيلين بين أعوام 1937 و1941. وجاء في بيانِ عدمِ طَبعِها: “لا نَنْشُر رواياتِ سيلين لأنَّ الشروطَ المنهجية والأخرى المتعلقة بالذاكرة غيرُ متوفرة اليوم”.
كاتب كبير لا يخرج من التاريخ
كما أسلفنا الذِّكر، لم يتمكَّن أعداءُ سيلين من مَحْوِ أو طَمسِ اسمِهِ رغمَ عَدَمِ إِعادةِ طَبْعِ كُتُبه المطلوبة، وما زالَ صاحِبُ الرِّواياتِ البديعةِ يُذكَرُ ويُقرَأُ ليسَ باعتبارهِ كاتبًا مُعاديًا للسَّامية، كما يُقالُ كلَّما ذُكِر اسمه، ولكن كمبدعٍ حقيقيٍّ وكَأحَدِ كِبارِ الرِّوايَة الفرنسية والعالمية في القرن الماضي. سيلين الذِّي خطَف الأنظارَ والألبابَ بكلِّ رواياته، وبروايَتِي “رِحلةٌ حتى حافةِ اللَّيل” (1932) و”موتٌ بالدين” (1937) بوجهٍ خاصٍّ، من مواليد السابع والعشرين من شهر مايو/ أيار عام 1894 في ضاحية كوربفوا القريبة من باريس العاصمة، وهو إبن فيرنا الذي عَمِل مراسلًا لإحدى وكالات الضمان، ومارغريت التي كانت تشتغِلُ في محلٍّ لبيعِ الألبسة.
بعد إصابته في الذِّراع خلالَ الحربِ العالمية الأولى يوم السابع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول عام 1914 وتَسريحه من الجيش، أقامَ في لندن التي هامَ فيها بحُبِّ سيزان نبو والتي تزوجها عام 1916، ولم يَدُم زواجَه إلا بعضَ الأسابيع إثرَ ذهابِه إلى الكاميرون التي عمِل بها مُراقبًا في المزارِعِ قبلَ أن يَعودَ مريضًا إلى فرنسا بعد ثمانية أشهرٍ من الإقامةِ في البَلَدِ الإفريقي المذكور.
ضربَ موعِدًا مِهنيًّا جديدًا، حينما قرَّرَ أنْ يُصبِحَ طبيبًا بعدَ حصوله على شهادة البكالوريا في سن الخامسة عشرة، وبَدَلَ الذَّهابِ إلى إفريقيا الغربية كمبعوثٍ من الأمم المتحدة كأخصائي في نظافةِ اليَدين، فضَّلَ البَقاءَ في فرنسا لمعالجَةِ المرضى الفُقراء مجَّانًا قبلَ العملِ في مستوصف، والزَّواجِ من الراقِصةِ الأميركية إليزابيت كريغ. وشرع في نهاية عام 1929 في كتابةِ أشْهَرِ رواياته “رحلة حتى حافَة اللَّيلِ” التِّي استوحاها من تجاربه الشخصية، وهي الرواية التي صَدَرَتْ في 700 صفحة ونشرتها دار “دونوال” عام 1932 مُوَقَّعَةٌ باسم جدته سيلين، ونبَّهَ الناشِرُ القُرَّاءَ بكلماتٍ جاء فيها: “هذا الكتاب لن يَترُكَكُم غيرَ مُبالينَ، كرهتموه أو أحببتموه”.
لم يحصل سيلين على جائزة غونكور بروايته التِّي أحدثت ضجَّةً أدبية ونقدية ونالت رواجًا شعبيًّا، واكتفى بجائزة رونودو، واستمر في تكريسِ أسلوبِهِ القائِمِ على الجُمَلِ غير المكتملة والتعبير الشعبي الدارجِ والأوصافِ النابية، غيرُ عابئ بنقدِ الصَّحافة المُحافِظة وعلى رأسها صحيفة “لوفيغارو”، ودفعَ أُسلُوبَه المُثيرُ النَّاشِرَ إلى اقتطاع بعض الأجزاء والكلماتِ من روايته “بكل بطء”.
سيلين الذي كانَ يَكتُبُ ويَعملُ طبيبًا في الوقت نفسه، مضى قُدمًا في تكريسِ نزعته الروائية ناشرًا رواية “موت بالدين” عام 1936، وهي الروايةُ التي فتحت شهيَّةَ الكرْهِ لدى قُرَّاءٍ كُثُر وَجدوا في هذه الرواية وفي روايات “تفاهات لمجزرة” (1937) و”مدرسة الجثث” (1938) و”الملاءات الجميلة” (1941) حِقدًا دفينًا ضدَّ الشُّيُوعيين والماسونيين واليهود بوجهِ خاصٍ “لأنهم يتحَمَّلُونَ مسؤوليةَ انحطاطِ البَلدِ”، في تقديره.
في الوقتِ الذِّي لفَظَ فيه البعضُ كتاباته، راح كثُرٌ يحتفُون بها لأسلوبها المتفرِّدِ، ولاعتبارِهَا تعْميقًا لخِطَابِ وَرَثة المناهضين للنقيب درايفوس اليهودي الذي اتُّهِمَ بتسريبِ وثَائِقَ للألمانِ وحُكِمَ عليه بالسجن المؤبد رغم البراءَة المُفترَضة التي دفعت إميل زولا إلى مُراسلة الرئيس الفرنسي فليكس فور عام 1898.
استمر سيلين في الكتابةِ ببيتهِ في ضاحية بيزو Bezons الواقعةِ في ضاحية فالدواز بنفسِ النَّهج الذي تَسبَّبَ في وصْفِه بـ”المعادي للسامية”، ناشرًا بعض كتاباتِه حسبَ تعبيرِ الصحافة المُناهضةِ له في صُحف المحتل النازي حتى غاية عام 1944 وحتى وفاته عام 1961.
اكتشاف أدبي غير مسبوق
رغم العداءِ المستمر ضد سيلين ورفضِ الأوساطِ المُناهِضة للحاقد على اليهود، كما يقولون، رضخت دارُ غاليمار لأهميَّةِ نَشْرِ المَخطوطِ المُكتَشف لسيلين، وقرَّرَت نشرَه مُستفِيدَةٍ من رمزية اسم أدبي يُحقِّقُ الإجماعَ إبداعيًا، ويحقِّقُ السبق الذي تحلم به دور النشر الكبرى.
اكتشافَ المخطوطِ الذي سرقه المقاومون المناهضون للنازية، وعلى رأسهم أوسكار روزنمبلي، حسبَ البعض بَعْدَ مُرور ثَمانِينَ عامًا من تاريخ وفاة الروائي المحبوبِ والمكروهِ والمنبوذِ في الوقت نفسه، يُعدُّ اكتشافًا غيرَ مسبوقٍ في التاريخِ الأدبي، حسب إيميل برامي، صاحِبِ مكتبةٍ ومتخصِّصٍ في تاريخ سيلين، واعتبر برامي مخطوطه اكتشافا لا يقِلُّ أهميةً عن اكتشافِ مومياء توت عنخ أمون، و”لم يعرف إن تم اكتشاف مخطوط بمثل هذا الحجم وهذه الأهمية في تاريخ الأدب العالمي”، على حد تعبيره لإذاعة “فرانس أنفو”.
وأعلِنَ عن اكتشاف المخطوطِ المثيرِ والفريدِ من نوعه الصحافي جان بيار تيبادو، الذي عمل في صحيفة “ليبراسيون”، دون الكشفِ عن هويَّةِ من سَلَّمه إياه ومُقابلَ كمْ ومتى تحديدًا، وقبل التَّعهد له بعدم ذكر اسمه قبل موت أرملة سيلين التي رحلت قبل عامين.
كما كان منتظرًا، عَرف الاكتشاف إشكالًا قانونيًا، بعد أن رَفَع ورثة سيلين دعوى قضائية ضد الصحافي تيبادو بتهمة الاحتيال، واضطر هذا الأخير لتَسليمِ المخطوطِ إلى المكتبِ الوطني لمُكافحة المتاجرة بالمقتنيات الثقافية. وعلَّق محامي ورثة سيلين، جيريمي عسوس، على موقف الصحافي الفرنسي قائلًا: “يجب أن يكونَ الإنسانُ وحشًا أو جبلًا من الأنانية للانفرادِ بحقِّ التَّصرُّف في المخطوط، وبتصرفه يكون قد حَرم الورثة من مبلغ مالي كبير”. من جهته، المحامي إيمانويال بيار، المتخصص في النشر، دافعَ عن زبونه مُؤكدًا أنه لم يُتاجر بمخطوط سيلين، وكان مَحميًّا بحقه في حماية مصادره كصحافي. ومناهضو حجة الصحافي، يشككون في ادعائه الاحتفاظ بالمخطوط مدة 15 عامًا!