إبستيمولوجيا القراءة .. قراءة في المنظورات الستة
- تقديم:
في هذه الدراسة سنحاول أن نقدم قراءة في المنظورات الستة(*)، من خلال مرجعين:
1 ـ من خلال التوجيهات التربوية الرسمية.
2 ـ من خلال كتابي كيفية القراءة (Savoir – lire)(*) و الإقراء lire) (Faire(**) لـ”شميت” و”فيالا”.
ونتوخى من هذه القراءة، أولا، الوقوف على كيفية تعامل التوجيهات التربوية مع هذه المنظورات، ما هي الصورة التي تقدمها فيها؟ وثانيا تأمل هذه المنظورات في أبعادها النظرية والتحليلية.
إن هذه القراءة، توجهها رغبتنا في تعميق المعرفة بالفرضيات النظرية والأصول المرجعية لها، بهدف الوصول إلى تطبيق وجيه وواع لها، والمساهمة في تفادي مشاكل التطبيق الاختزالي والمشوه.
- I ـ المنظورات من خلال التوجيهات التربوية الرسمية:
في دراسة سابقة بينا أن التوجيهات التربوية الرسمية (***)، تقترح منهجية لدراسة المؤلفات، تسميها بـ “القراءة المنهجية”، وتتكون هذه القراءة من ثلاث مراحل قرائية:
ـ القراءة التوجيهية
ـ القراءة التحليلية
ـ القراءة التركيبية
فما هي مكونات ومحتويات هذه القراءات الثلاثة؟
القراءة التوجيهية تهدف إلى “تجميع معطيات ومؤشرات حول المؤلف من داخله أو خارجه، وتوقع اتجاه القراءة ووضع فرضيات لها. والثانية (أي القراءة التحليلية) تهدف إلى فهم الأجزاء المقروءة من المؤلف واستخراج مكوناتها المميزة وتفكيكها، وتحديد أبعادها. أما الثالثة فتهدف إلى اكتساب القدرة على الربط والبرهنة…”(1).
وقد اقترحت التوجيهات التربوية، في الخطوة الثانية من القراءة التحليلية ستة مكونات/ منظورات: “ترتكز على قراءة عمودية لكل محور من محاور المؤلف، يعدها التلاميذ بتوجيه من أستاذهم في شكل أنشطة جماعية أو فردية”(2). وترد هذه المنظورات في التوجيهات الرسمية، وفق الترتيب التالي:
1 ـ تتبع الحدث
2 ـ تقويم القوى الفاعلة
3 ـ الكشف عن البعد النفسي
4 ـ الكشف عن البعد الاجتماعي / التاريخي
5 ـ استخراج البنية
6 ـ تعرف الأسلوب(3).
- ملاحظات نقدية:
1 ـ الملاحظ أن التوجيهات التربوية الرسمية، تعرض لهذه المنظورات الستة بكثير من الاختزال والتصرف، مما يخل -أحيانا- بمعنى ومحتوى هذه المنظورات، ويفضي إلى سوء التطبيق، بل أكثر من ذلك، نلاحظ أن هذه التوجيهات تغيب إجراءا متمما للمنظورات، ويشكل مرحلة حاسمة في سيرورتها، إنه إجراء “مقابلة القراءات” Confronter les lectures.
إن أهمية هذا الإجراء، تكمن في كونه يشكل تركيبا نهائيا للمنظورات الستة، نجمع فيه معطيات ونتائج كل منظور على حدة، من أجل مقارنتها وفحصها، بهدف الوصول إلى إصدار حكم نقدي شامل بصدد النص، من هنا يكتسب هذا الإجراء أهميته التطبيقية.
لذلك نرى المؤلفين يعطيان لهذا الإجراء رقم 7، وهو ما يعني بديهيا أن هذا الإجراء جزء لا يتجزأ من هذه المنظورات الستة، يقول المؤلفان: “إنه من الضروري إذن مقابلة هذه الطرائق القرائية المتنوعة، وجعلها تتحاور فيما بينها لأن هذا يسمح بالتحقق من انسجام نتائجها، ومن اختيار تأويل شامل وحكم نقدي معا، انطلاقا من التآويل المقدمة من لدن كل قراءة (أي منظور)”(4).
2 ـ والملاحظ أن عرض التوجيهات الرسمية للمنظورات الستة يتسم بالاختزال والحذوفات، نأخذ منظور تتبع الحدث، ونقارن بين كيفية حضوره في التوجيهات الرسمية، وصورة حضوره في كتاب كيفية القراءة. في التوجيهات الرسمية نجد التعريف التالي لمنظور” تتبع الحدث” وهو الكشف عن سلسلة الوقائع أو الأدلة التي تشكل نسيج النص، وكذا الأثر الذي تحدثه في القارئ من خلال الإجابة عن الأسئلة التالية: من فعل؟ لمن؟ كيف؟ لماذا؟ أين؟ متى؟..”(5).
وحسب التوجيهات الرسمية لدراسة الحدث يلزم إنجاز ما يلي:
ـ جرد الوقائع (المتن الحكائي).
ـ الحبكة
ـ الرهان
ـ دلالات وأبعاد الحدث”(6)
نلاحظ أن التوجيهات الرسمية تخلط بين الهدف من دراسة منظور الحدث، وبين إجراء “الحبكة” Intrigue الذي هو جزء من الإجراء أو المفاهيم الأخرى المكونة لمنظور الحدث.
فالهدف المتوخى من دراسة الحدث-حسب “شميت” و”فيالا” هو كشف سلسلة الوقائع أو الأدلة التي تكون نسيج النص، والأثر الذي تحدثه في القارئ”(7). في حين أن الإجابة عن الأسئلة التالية: من فعل؟ ماذا؟ لمن؟ كيف؟ لماذا؟ أين؟ متى؟ تتعلق -حسب ما ورد لدى “شميت” و”فيالا”- بمفهوم أو إجراء الحبكة الذي يعني” مجموعة المبادئ التي توجه الحدث في النص، وكيفية تأثير المتكلم في المتلقي”(8).
ونشير إلى أن هذه الأسئلة المتعلقة بمفهوم الحبكة، لم ترد في عرض “فيالا” و”شميت” لهذا المفهوم، كما يظهر من التوجيهات الرسمية، بل فقط في الهامش رقم 14.
3 ـ حذفت التوجيهات الرسمية إجراء “الملخص” Résumé من منظور الحدث، دون أن تبرر أو تشير إلى هذا الحذف، فمنظور تتبع الحدث يتكون من الإجراءات التالية:
أ ـ تتبع الحدث:
ـ الملخص Résumé
ـ المتن الحكائي Fable
ب ـ الحبكة Intrigue
ج ـ الرهان Enjeux
د ـ دلالات وأبعاد الحدث Significations et portée de l’action (9).
4 ـ إن التعريفات التي تسوقها التوجيهات الرسمية لإجراءات ومكونات المنظورات، تظل جزئية ومختزلة، إلى حد الإخلال والإساءة للمعنى المقصود منها وسوف نأخذ مفهوم “الرهان” لنقف على بعض هذا الاختزال والتجزيء.
يرد الرهان في التوجيهات الرسمية كما يلي: “هو هدف النص وفكرته، وقد تكون له دلالة مباشرة وأحيانا رمزية”(10). ويقدم “شميت” و”فيالا” التعريفات التالية للرهان:
“الرهان هو الطريقة التي ينتظم بها الحدث، ولنتذكر دائما أنه يوجد رهان المحتوى ورهان الخطاب (الأثر الذي يتوخى النص إحداثه في المتلقي)… إن الرهان هو معرفة لماذا يتشكل الحدث بهذه الصورة؟ إنه الموضوع الذي تتصارع عليه الشخصيات، أو العلاقة التي يؤسسها المتكلم مع المتلقي.
ويمكن أن يكون الرهان معقدا Complexe“(11). “أحيانا يعطى الرهان دفعة واحدة، انطلاقا من العنوان، مثلما في الفيلم… ولكن الحالة الأكثر صعوبة هي التي ينكشف فيها [من خلال إتمام ] فعل القراءة، ويبنى من خلال اكتشاف النص”(12).
“تكمن الصعوبة، حينما يتضمن النص أحداثا جزئية عديدة، إذ تتعدد رهانات النص. وهنا ينبغي اكتشاف الرهان الذي يستوعب النص برمته”(13).
من خلال هذه المقارنة بين تعريف التوجيهات الرسمية للرهان وتعريف المؤلفين لهذا المفهوم، تبدو مظاهر الاختزال والتجزيء واضحة في تعريف التوجيهات الرسمية.
وإذا ما قارنا تعريف التوجيهات الرسمية لمفهوم الرهان، بتعريف “شميت” و”فيالا”، نلاحظ أن هذه التوجيهات تقدم تعريفا خاطئا للرهان، يختزله إلى مفهوم “المضمون” في النقد التقليدي.
إن مفهوم الرهان -كما هو وارد- لدى المؤلفين مفهوم متعدد، يتعلق بـ “محتوى الشكل”، ومن ثمة فإنه غير منفصل عن طريقة تبين وتكون النص، إنه -كما ورد في التعريفات السابقة- يتضمن العلاقات التالية:
ـ الرهان يحدد نظام الحدث –< علاقة مع الحدث
ـ الرهان موضوع لصراع الشخصيات –< علاقة مع القوى الفاعلة
ـ الرهان يتعدد بتعدد أحداث النص –< علاقة مع كلية النص
ـ رهان الخطاب يسعى إلى التأثير في القارئ –< علاقة مع القارئ
ـ الرهان قد يوحي به العنوان –< علاقة مع العنوان
ـ الرهان لا يظهر إلا باكتمال القراءة –< علاقة مع فعل القراءة.
5 ـ تكتفي التوجيهات الرسمية بهذا العرض المختزل للمنظورات الستة، دون أن ترفقه بقاموس نقدي، يتكفل بشرح جميع المفاهيم والمصطلحات التي تتكون منها المنظورات، وإذا ما عدنا إلى كتاب كيفية القراءة Savoir lire، نجد المؤلفين، قبل أن يقوما بعرض المنظورات الستة، يضعان بين يدي القارئ قاموسا مصطلحيا terminologie(14) يشرح كل المفاهيم الموظفة في المنظورات، وذلك لتفادي كل سوء فهم في التطبيق.
وتكمن أهمية هذا القاموس، في أنه يتضمن تعاريف إجرائية، تشكل العدة المنهجية اللازم اعتمادها لإنجاز المنظورات، وتساهم في توحيد اللغة الواصفة بين الأستاذ والتلميذ، خاصة وأن المفاهيم التي تكون محتوى المنظورات تنتمي إلى مرجعيات نظرية متعددة ومتباينة، بحيث أن نفس المفهوم يمكن أن نجد له دلالات متعددة حسب المرجع الذي ينتمي إليه، لهذا فالتحديد الإجرائي هو بالأساس ضرورة ديداكتيكية، وإلا أصبحت هذه المفاهيم عرضة للتأويلات المختلفة.
يتبين مما تقدم، أن عرض التوجيهات التربوية الرسمية للمنظورات الستة يتضمن مجموعة من السلبيات، ويمكن تلخيص مظاهر هذه السلبية فيما يلي:
1 ـ الاختزال
2 ـ الحذف
3 ـ الخلط
4 ـ التجزيء
5 ـ غياب التحديد الإجرائي للمفاهيم.
II ـ المنظورات من خلال كتابي كيفية القراءة و الإقراء:
إن أية مقاربة تقدم نفسها، بوصفها مشروعا جديدا لتحليل النص، لا بد لها من الارتكاز على أسس ومنطلقات نظرية، تبرر تصوراتها للمنهجية التي تعتمدها في التحليل، وتكشف عن مظاهر الجدة في هذا التحليل، بالمقارنة مع المقاربات السابقة عليها.
ولن نبالغ إذا قلنا بأن تحديد المنطلقات النظرية التي يقوم عليها مشروع “فيالا” و”شميت”، “جزء لا يتجزأ من مشروع بناء تصور ما يطلق عليه “ابستمولوجية القراءة”، وما تطرحه من قضايا متعددة على مستوى التفكير الأدبي”(15).
ولعل أهم المفاهيم التي تشكل الأسس النظرية لكل مقاربة هي مفاهيم:
النص texte والقراءة Lecture والواقع Réel، وبحسب تصورات كل مقاربة لهذه المفاهيم المركزية، تختلف المقاربات وتتعدد طرائق وأدوات اشتغالها.
فما هي -إذن- المنطلقات النظرية التي بني عليها مشروع “المنظورات الستة”؟ وما هي تصورات المؤلفين لمفاهيم “النص” و”القراءة” و”الواقع”؟
1 ـ المنطلقات النظرية:
1-1-مفهوم النص:
يشير المؤلفان إلى أن مفهوم النص، في اشتقاقه الأصلي اللاتيني يفيد معنى النسيج Tissu ومعنى اللحمة Trame، ّإن النص يظهر مثل نسيج تتشابك فيه سلسلة متنوعة من الخيوط”(16).
ويتحقق النص -في نظر المؤلفين- عبر خمسة مظاهر، هي:
ـ المظهر المادي L ‘aspet matériel: ونتعرف من خلاله على طبيعة النص، هل هو طويل أم قصير؟ شعر أم نثر؟ مكتمل أن شذري؟ “هذا المظهر يقدم مجموعة من الإشارات حول طبيعة النص وهدفه”(17).
ـ المظهر اللفظي L ‘aspect verbale: يتحدد النص في هذا المستوى باعتباره تشغيلا للغة La mise en oeuvre d’une langue، ومن ثمة فإن دراسته تتم عبر كلماته (من حيث الأصوات ومورفولوجياتها) وفهم فقراته (من حيث التركيب).
ـ المظهر الدلالي: L ‘aspect sémantique يتجاوز هذا المظهر فهم كلمات وفقرات النص إلى فهم معناه، إذ يبحث فيما تنتجه هذه المظاهر التركيبية والصوتية للنص من دلالات.
ـ المظهر التداولي L ‘aspect pragramtique يتحدد فيه النص باعتباره فعلا تواصليا Acte de communication، يقيم علاقة بين الكاتب والقارئ في سياق ما. ولتحقيق أهداف معينة، ويقتضي هذا المظهر الاجتماعي للتواصل الاستعانة بالعلوم الإنسانية الأخرى في التحليل مثل: التاريخ، علم الاجتماع، السيكولوجيا، نظرية التواصل…
ـ المظهر الرمزي L ‘aspect symbolique يتحدد النص في هذا المستوى باعتباره حدثا ثقافيا دالا Fait culturel singnificatif وشكلا من أشكال التعبير، التي من خلالها يعبر المجتمع عن مواقفه وسلوكاته وقيمه.
هذه المظاهر الخمسة، تشكل العناصر الأساسية لبناء النص، وبالتالي لا يمكن فهم معناه، إلا بإدراك كيفية اشتغال هذه المظاهر، وأي إسقاط لمظهر، هو في الآن نفسه، إسقاط لجزء من أجزاء معنى النص، لأن هذه المظاهر الخمسة توجد متداخلة في النص، و”لأنها تدرك في لحظة واحدة هي لحظة القراءة، وتشكل في مجموعها جزء جوهريا من معنى النص”(18).
نستخلص -إذن- أن مفهوم المؤلفين للنص، يتجاوز التصور البنيوي الذي يقول بانغلاق النص واستقلاله، إلى اعتباره فعلا متعدد المظاهر، يخضع لشبكة من العلاقات، ويتحقق في فعل التلقي والتواصل، إلا أن المؤلفين ينبهان إلى أن هذا التواصل نابع من طبيعة اللغة وسننها الخاص، وليس من خارج النص.
ويشير هذا التعدد في مظاهر النص، إلى أن مفهوم النص يظل نسبيا، رهين شروط الإبداع والأجهزة الأدبية في القراءة والتلقي، وبما أن النص معقد ومتعدد على مستوى التركيب، فإن فعل القراءة المرتبط بالنص، سيكون حتما متعددا ومعقدا، يراعي الطبيعة التركيبية للنص من حيث البناء والدلالة.
1-2-مفهوم القراءة:
تعتبر المنظورات الستة -في تصور المؤلفين- جوابا على سؤال: كيف نقرأ؟ Comment lire (19), فالأمر لا يتعلق بالقراءة في ذاتها، أو بأية قراءة، بل أساسا بكيفية القراءة. هذه الطريقة التي يسميها المؤلفان بـ”القراءة النقدية” Lecture critique. فما هي مواصفات هذه القراءة؟
إنها القراءة التي تتأسس على رؤية نقدية، وتشارك في تسنين قواعد إنتاج النص (ملاحظة بلاغته، اختياراته في الكتابة، سياقاته، أنغامه، آثار السخرية فيه…) “ومثل هذه القراءة لا يمكن أن تكون إلا قراءة متعددة”(20) لأنها تقارب النص انطلاقا من وجهات نظر متعددة، وتفحصه انطلاقا من منظورات متنوعة، وهي بهذا التنوع “تعدد زوايا النظر حول النص”(21)،
بحيث أن نفس الدال النصي، يمكن دراسته من زوايا متعددة، ويقدم المؤلفان مثالا على ذلك: أفعال الشخصية، فهذه الأخيرة، هي في نفس الآن موضوع للسيكولوجيا، والسوسيولوجيا، وأيضا للتحليل العاملي، فالموضوع إذن واحد، لكن طرائق تحليله متعددة:
- أفعال الشخصية
السيكولوجيا السوسيولوجيا التحليل العاملي
وهذا التعدد في القراءة يرجع إلى طبيعة النص، إذ “تتقاطع في نسيج النص أنظمة متعددة من الحقائق réalités“(22)، وهي:
ـ واقعة اللغة، أي كون النص تشغيلا للغة معينة
ـ تنظيم النص
ـ المعطيات العاطفية والفكرية والشعورية
ـ الأثر الذي يسعى النص إلى إحداثه في القارئ
ـ علاقات القوى داخل النص، وبين القارئ والنص
ـ المعطيات الاجتماعية والتاريخية(23).
إن هذه الأنظمة من الحقائق المتعددة توجد في كل النصوص، ويمكن أن توجد حتى في النصوص التي تفتقد إلى عنصر الأدبية، مثل المقال أو الخطاب السياسي…
ويخلص المؤلفان إلى أن هذه القراءة النقدية، لا تقتل لذة القراءة، بل على العكس إنها تشحذ فعل القراءة، وتجعلها أكثر فعالية plus vive.
نلاحظ إذن -أن المؤلفين في تصورهما للقراءة، ينطلقان من التسليم مبدئيا، بأن قراءة أي نص، تتم وفق مستويات متعددة ومتراكبة، إلى جانب أنها محكومة بطبيعة النص المتعددة، وهي أيضا إجراء يثير لذة القراءة، وبفعل هذا الإجراء يتحول القارئ إلى منتج للنص.
إن هذا التصور للقراءة يندرج ضمن الاتجاه ما بعد البنيوي، أي التفكيكية، التي تقوم على مبادئ التعدد والانفتاح، ويستفيد هذا التصور أيضا من جمالية التلقي ونظريات القراءة، التي تؤكد على أهمية دور القارئ في إنتاج معنى النص.
ويقود هذا التصور المؤلفين إلى اعتبار القراءة ممكنا من الممكنات المقترحة، الذي لا يلغي المقاربات الأخرى، وما قد تكشف عنه من قراءات أخرى. وبناء على ذلك يتأسس فعل القراءة لدى المؤلفين على التعدد، الذي لا يعني إثبات الحقيقي أو المعنى الواحد، إنما يعني بلورة قراءة أفضل “فليس هناك أبدا قراءة شاملة، وإنما هناك قراءة أفضل”(24).
1-3-مفهوم الواقع:
إن التعدد في الآراء والسياقات، الذي وجدناه يطبع مفهوم المؤلفين للنص والقراءة، نجده أيضا حاضرا وبقوة في تصورهما لمفهوم الواقع le réel.
إن الواقع -في نظر المؤلفين- لا يرتبط بعناصر أو ذوات توجد خارج النص، بل يرتبط بـ”وجهات النظر Points de vue” المبثوثة داخل النص، “يقدم الواقع في النص، انطلاقا من وجهة نظر من يتكلم أو يكتب”(25). ماذا يقصد -إذن- المؤلفان بوجهة النظر؟
في المعنى الخاص، “وجهة النظر هي المكان الذي نتموقع فيه لملاحظة شيء ما. وفي النص هي النظرة التي نتلقى عبرها الأخبار، وقد تكون نظرة شاهد، أو مشارك في أحداث النص، أو نظرة كاتب عليم بكل شيء”(26).
وتتمظهر “وجهة النظر” في النص، عبر مؤشرات التلفظ L’énonciation ذلك أن المتلفظ بالأخبار، يضفي على ملفوظاته تلوينات خاصة، محملة بعواطفه وإيديولوجيته. وبهذا المعنى يمكن اعتبار وجهة النظر تجليا تنكشف فيه التضمينات التي يؤمن بها الكاتب، وتترجم ذاتيته، “إن استخلاص وجهة نظر نص ما، يعني إدراك موقعه في الواقع (في المرجعيات والسياقات) وقصده”(27).
بعد هذا التحديد لمفهوم وجهة النظر، يكشف المؤلفان عن مختلف السياقات التي يحيل عليها مفهوم الواقع، وهي:
*المرجع Le référent: ويعني مجمل العناصر الواقعية الخارجة عن النص، والتي يحيل عليها النص. وتتميز هذه العناصر بطبيعتها المتنوعة، إذ ترجع إلى كل مقولات الواقع (الإحساس، الفكر، الخيال، “وإذا كانت هذه العناصر توجد خارج النص، فإنها تتمظهر في النص في صورة علامات نصية، انطلاقا منها نتعرف عليها وندرسها”(28).
*التواصل La communication: ويفيد أن النص شكل من أشكال التواصل، لأنه يقيم علاقة بين المرسل والمتلقي، وأهميته ترجع إلى كون “وجهات نظر وتجليات وضعية من يتكلم، تتجلى في فعل التواصل، ويعبر عنها بواسطة التلفظ”(29).
*الكاتب والقارئ: كل نص له كاتب ويتوجه إلى قارئ، وتكمن صعوبة هذا المرجع في كون الكاتب والقارئ يتجليان في صور متنوعة، وبالتالي فإن النص لا يقدم صورا حقيقية لهما (الكاتب الحقيقي والقارئ الحقيقي)، بل صورا مشوهة، لذلك وجب الاعتماد على علامات التلفظ في دراستهما، والاحتراس من الانسياق وراء المعلومات البيوغرافية.
*المناصات Les intertextes: وتعني مجموع العلاقات التي يؤسسها النص مع نصوص أخرى، ويميز المؤلفان بين مناصات واضحة explicités ومناصات مضمرة implicités(30).
*المعايير الجمالية Les normes esthétiques: “يتعلق الأمر بالمعايير التي يخضع لها النص”(31). وهي معايير محددة في مجال اللغة والبلاغة والشعرية والأسلوب. وهذه المعايير قد تكون واضحة كما قد تكون مضمرة.
*السياقات التاريخية والاجتماعية: كل نص له مراجع تاريخية واجتماعية، بل “إن وضعية تلفظه تتحدد عبر تموضعه في زمان معين، وفي مجتمع معين، وفي إيديولوجيا محددة، وفي ثقافة خاصة”(32)، وتكمن أهمية هذه السياقات في كونها تكشف عن المظهر التداولي والرمزي للنص. وينبه المؤلفان إلى أن المهم هو “فحص العلاقات التي يحملها نص عن مرحلته التاريخية والاجتماعية، والتي تمنحه دلالات إيديولوجية، وليس دراسة التاريخ والمجتمع بصفة عامة انطلاقا من النص”(33).
بعد هذا العرض لمختلف السياقات والمفاهيم التي يحيل عليها مفهوم الواقع، يخلص المؤلفان إلى أنه “إذا كان النص دائما يرجع إلى الواقع، فإنه لا يطابق الواقع: إنه لا يمكن أن يقدم إلا صورة عن الواقع، لأنه موسط médiatisée، بمعنى أنه يتشكل انطلاقا من مجموعة من الوسائط Les intermédiaires“(34). وبفعل تأثير هذه الوسائط فإن “صورة هذه الإحالات والسياقات في النص تظل محرفة réfractée، أي ناقصة incomplétée ومشوهة Déformée“(35).
الملاحظ أن المؤلفين في تصورهما لمفهوم الواقع، يسلكان نفس الاستراتيجية المعتمدة في تصورهما لمفهوم النص والقراءة. إذ ينطلقان من تصور للواقع منفتح على مرجعيات وحقول متعددة. هذا التعدد يكشف عن أن مفهوم الواقع متعدد ومعقد، ويحيل على سياقات متنوعة، يجب مراعاتها أثناء التحليل، والمهم في مفهوم المؤلفين للواقع، أنه بعيد عن التصور التقليدي الذي يقول بمفهوم الانعكاس.
إن المؤلفين يتحدثان عن الواقع باعتباره علامة نصية وليس معطى خارجيا، تشتغل وفق قواعد الدال والمدلول.
هذه -إذن- أهم الأسس والمنطلقات النظرية، التي اعتمدها المؤلفان، وهي في أغلبها مستمدة من الاتجاهات النقدية واللسانية الحديثة. وتتميز بالتعدد والمرونة والانفتاح على حقول معرفية ونظرية متعددة ومتنوعة.
ويظل البعد البيداغوجي حاضرا بقوة في هذه المنطلقات النظرية، فالمؤلفان في منطلقاتهما النظرية ينفتحان على مختلف النظريات، ولا ينحازان إلى نظرية بعينها، وذلك بغية إعطاء التلميذ (المتعلم) فرصة الإطلاع على جميع النظريات والتعرف على جميع الآراء.
- 2 – الأصول المرجعية:
بعد أن رأينا في الفقرة السابقة المنطلقات النظرية، التي بني عليها مشروع المنظورات الستة، سنعمد في هذه الفقرة إلى تبيان الأصول المرجعية لهذا المشروع، أو الاتجاهات النقدية التي شكلت مراجع نقدية بالنسبة للمؤلفين.
بالرجوع إلى الكتاب كيفية القراءة، نجد المؤلفين يعرضان لهذه الاتجاهات النقدية، والملاحظ أن هذا العرض يتسم بالاختصار، إذ يكتفي المؤلفان بتسمية هذه الاتجاهات النقدية، وذكر بعض أسماء النقاد والباحثين في هذه الاتجاهات، لذلك فإن عرضنا لهذه الأصول سيكون هو الآخر مختصرا، ونحيل القارئ الذي يرغب في التوسع على مرجع مهم في هذا الإطار(36).
إن أهم الاتجاهات النقدية الواردة في مشروع “فيالا” و”شميت” والتي شكلت أصولا مرجعية بالنسبة لهما، هي:
2-1-التاريخ الأدبي L’histoire littéraire: “في المعنى الضيق إنه الدراسة التاريخية للوقائع الأدبية”(37)، إنه يحلل النصوص من الخارج، ويفحص سياقاتها ومراجعها.
2-2-النقد النفسي والتحليل النفسي Critiques psychologiques et psychanalytiques: ويبحث فيما وراء المقاصد الواعية للكتاب، مستلهما أعمال السيكولوجيا والتحليل النفسي؛ ويميز المؤلفان بين ثلاثة تيارات في هذا الاتجاه(38): “التحليل النفسي مع فرويد Freud، وأعمال جان بول سارتر J.P. Sartre، حول “بودلير” و”جان جنيه”، و”النقد الموضوعاتي” La critique thématique مع “باشلار” G.Bachelard، و”رشادر” J.P. Richard، و”بوليه” G. Poulet و”ستاروبنسكي” J. Starobinski.
2-3-السيميولوجيا والشعرية Sémiologie et poétique(39): ويركزان على التحليل الداخلي للبنيات النصية، ويستعيران المفاهيم والنماذج من اللسانيات، خاصة من أعمال “سوسر Saussure” و”بنفنست Benveniste. وأهم ممثلي هذين الاتجاهين نجد: جيرار جنيت في كتابه Figures III، وأعمال “تودوروف” Todorov خاصة كتابه أنواع الخطابات Les genres du discours، وأبحاث “جماعة U” Groupe U في البلاغة، والأبحاث الأسلوبية لـ “ياكبسون” Jakobson خاصة في كتابه قضايا الشعرية Questions de poétique، و”ريفاتر” Riffaterre في كتابه أبحاث في الأسلوبية البنيوية Essais de stylistique structurale، والأبحاث السيميولوجية خاصة أعمال “جوليا كريستيفا” J.Kristeva.
2-4-النقد الاجتماعي Critiques Sociologues(40): ويحتوي اتجاهات متنوعة ومتباينة أحيانا، وأهم ممثليه نجد، بيكار Picard، ولوسيان غولدمان L.Goldman، وجاك ديبوا J.Dubois، وإسكاربيت Escarpit، وياوس Jouss، وأعمال بورديو Bourdieu n
هوامش العنصر الأول:
(*) M.P. Schmitt. A. Viala: Savoir-lire, 4ed. Didier 1982, Paris.
وقد فضلنا ترجمته بـ “كيفية القراءة”، وليس بالقراءة، لأنها تعبر عن الهدف من هذه المنظورات، الذي يحاول الإجابة عن سؤال: كيف نقرأ؟ Comment lire?”” فالأمر لا يتعلق فقط بالقراءة، ولكن بطريقة القراءة وكيفيتها.
(**) A. Viala et M.P. Schmitt, Faire-lire, 4ed. Didier 1982, Paris.
(***) انظر دراستنا “ديداكتيك مادة المؤلفات” حلول تربوية.
1 – اللقاءات التربوية الخاصة بأستاذة اللغة العربية بالتعليم الثانوي، وثائق خاصة بالسنة الثالثة الثانوي 1996، ص 52.
2 – المنهاج، ص 74.
3 – اللقاءات، ص 52-53-54.
4 – Savoir-lire, p. 193.
5 – المنهاج، ص 77.
6 – اللقاءات، ص 52-53.
7 – Savoir – lire, p. 147.
8 – Ibid, p. 150.
9 – Ibid, p. 174-152.
10 – اللقاءات، ص 52.
11 – Savoir – lire, p. 147.
12 – Ibid, p. 151.
13 – Ibid, p. 151.
14 – انظر مكونات هذا القاموس في : Savoir-lire, p. 48. Ibid, p. 151.
هوامش العنصر الثاني:
Faire – lire, Savoir – lire
15 – بشير القمري: شعرية النص الروائي، شركة البيادر للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1991، ص 10.
16- – Savoir – lire, p. 18
17- Savoir – lire, p. 20– .
18 – Savoir – lire, p. 21– .
19 – Savoir – lire, p. 143.
20 – Ibid, p. 144.
21 – Savoir – lire, p. 144.
22 – Ibid, p. 144.
23 – Ibid, p. 144
24 – Ibid, p. 146
25 – Ibid, p. 30
26 – Ibid, p. 130.
27 – Ibid, p. 30
28 – Ibid, p. 31
29 – Ibid, p. 32
30 – Ibid, p. 38
31 – Ibid, p. 40
32 – Ibid, p. 43
33 – Ibid,, p. 43
34 – Ibid, p. 46
35 – Ibid, p. 46
36 – Ibid, p. 201
37 – Jean – Yves Tadie: Critique Littéraire au XX siècle, Belfond, 1987, Paris.
38 – Savoir – lire, p. 201.
39 – Ibid, p. 1202
40 – Ibid, p. 203.