فكر وفلسفة

العلمانية كإشكالية إسلامية-إسلامية: قراءة فلسفية

لطالما تم تصوير العلمانية في الفكر العربي على أنها ظاهرة نشأت في سياق الصراع المسيحي الداخلي، وتحديدا بين الكاثوليكية والبروتستانتية، كرد فعل على حروب دينية استمرت أكثر من قرن.

غير أن هذا التصور يغفل عن حقيقة جوهرية، وهي أن العلمانية ليست مجرد حل أوروبي خاص بإشكالية دينية-سياسية محلية، بل هي مقاربة تاريخية لمعالجة إشكالات العلاقة بين الدين والسلطة أينما وجدت.

هنا، يطرح جورج طرابيشي تصورا نقديا لهذه المسألة، معتبرا أن العلمانية في السياق الإسلامي ليست مجرد استيراد غربي، بل ضرورة تاريخية داخلية لاستيعاب وتحليل التوتر المستمر بين الطوائف والمذاهب الإسلامية الكبرى، لا سيما السنة والشيعة.

  • العلمانية بوصفها إشكالية إسلامية-إسلامية

يشير طرابيشي إلى أن الحرب الأهلية المذهبية داخل الإسلام، سواء بالأفعال أو بالأقوال، استمرت لأكثر من ألف عام، مما يجعل العلمانية ضرورة داخلية للإسلام ذاته، لا مجرد ظاهرة مستوردة.

فالعلمانية ليست فقط وسيلة لتنظيم العلاقة بين الدين والدولة، بل هي أيضا أداة لتفكيك البنى الفكرية التي تعيد إنتاج الصراعات الطائفية. من هذا المنظور، تبدو العلمانية وكأنها “تحرير مزدوج”؛ تحرير الدين من السياسة، وتحرير الطوائف من الهيمنة المتبادلة.

  • إشكالية التأويل وحدود الصراع الطائفي

تتجلى إحدى أكثر الإشكاليات الفكرية عمقا في الإسلام في تأويل النصوص، وهي إشكالية لم تكن مجرد سجال فكري، بل كانت ولا تزال محركا أساسيا للصراع الطائفي. هنا، تصبح العلمانية ضرورة للحد من الاستحواذ الطائفي على الحقيقة الدينية.

فكما كان الإصلاح الديني في أوروبا مرتبطا بعلمنة السلطة، فإن تجاوز الصراعات الطائفية في الإسلام لا يمكن أن يتحقق إلا عبر إعادة تأويل الدين بحيث يتم إخراجه من مجال الصراع السياسي المباشر.

  • مقارنة بين التجربتين الإسلامية والمسيحية

يشير طرابيشي في كتابه “مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام” إلى المفارقة التاريخية بين مساري الإسلام والمسيحية. ففيما انطلقت أوروبا من حقبة ظلامية لتشق طريقها نحو الحداثة عبر العلمانية، شهد العالم الإسلامي مسارا معكوسا.

إذ بدأ بتقدم حضاري خلال خمسة قرون قبل أن يدخل في مرحلة تراجع. هذه الديناميكية التاريخية تشير إلى أن العلمانية، بما هي منهجية تنظيمية واجتماعية، ليست حكرا على الغرب، بل يمكن النظر إليها كضرورة لاستئناف الحداثة في العالم الإسلامي.

  • العلمانية والتصالح مع التراث

إن الإشكالية التي يطرحها طرابيشي تتجاوز الفصل بين الدين والدولة لتصل إلى مسألة أعمق: كيف يمكن إعادة قراءة التراث بحيث لا يكون عبئا على الحاضر؟ يعتقد أن العلمانية ليست رفضا للدين، بل هي إعادة تموضع له داخل المجال الاجتماعي والثقافي بعيدا عن الاحتكار السياسي.

بهذا المعنى، فإن العلمنة ليست فقط تفكيكا للسلطة الدينية، بل أيضا إعادة تعريف للعلاقة بين الإنسان والنص.

  • نحو مشروع تنويري إسلامي

إن ما يطرحه طرابيشي ليس مجرد نقد للوضع القائم، بل هو نداء لمشروع تنويري إسلامي يعيد للإسلام بعده الروحي بعيدا عن التسييس والطائفية. وهو بذلك يؤكد أن العلمانية، بدلا من أن تكون صداما مع الدين، يمكن أن تكون مدخلا لإعادة تأويله بما يتناسب مع حاجات العصر.

المصادر:

  1. طرابيشي، جورج. من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة.
  2. طرابيشي، جورج. مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام.
  3. طرابيشي، جورج. نقد نقد العقل العربي.
  4. برهان غليون. نقد السياسة: الدولة والدين.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى