- نقد النقد والتحرر: وعدٌ بالخلاص أم إعادة إنتاج القيود؟
“بيد أن نقد النقد كمشروع، ينطوي أيضا على وعد بالتحرر. وليس من يفرح بالحرية كمن ذاق العبودية”.
جورج طرابيشي – نقد نقد العقل العربي.
ينطوي هذا الاقتباس على تأكيد مزدوج: الأول، أن نقد النقد ليس مجرد ممارسة أكاديمية، بل مشروع تحرري يهدف إلى تفكيك الأنماط الفكرية التي تعيق الانطلاق نحو حرية الفكر والتجديد. والثاني، أن الشعور بالحرية لا يمكن أن يكون له نفس المعنى عند من لم يجرب العبودية الفكرية، فالتجربة وحدها تُكسب الإنسان وعياً حقيقياً بمفهوم التحرر.
هنا، يطرح طرابيشي رؤية ديالكتيكية للحرية، حيث لا تكون مجرد انعتاق شكلي، بل تحرراً من المحددات الأيديولوجية والموروثات التي تكبل العقل.
- الخيال بوصفه واقعاً موازياً: أفق الوعي لدى المحرومين
“الخيال هو واقع من لا واقع له”.
جورج طرابيشي – المعجزة أو سبات العقل في الإسلام.
ينطلق طرابيشي في هذا الاقتباس من تصورٍ فلسفي عميق لدور الخيال في حياة الإنسان، خصوصاً لمن يعانون من الحرمان الواقعي أو الاجتماعي. فالخيال يصبح عند هؤلاء بديلاً عن الواقع، بل واقعاً موازياً يمتلك قوانينه الخاصة، ويعمل كأداة تعويضية تمنحهم القدرة على الاستمرار في الوجود.
هذا ينسجم مع رؤى الفلاسفة الوجوديين الذين اعتبروا أن الإنسان قد يخلق واقعاً ذهنياً عندما يعجز عن التفاعل مع الواقع المادي. من هنا، يتخذ الخيال وظيفة مزدوجة: فهو محرر لكنه أيضاً سجن، إذ يمكن أن يُستخدم للهروب من مواجهة الحقيقة.
- قدسية العدد في الفكر الديني: بنية رمزية عابرة للأديان
“لنلاحظ استمرارية قدسية العدد اثني عشر بين الديانات التوحيدية الثلاث: أسباط بني إسرائيل الاثنا عشر، وتلاميذ المسيح الاثنا عشر، ونقباء الرسول الاثنا عشر، وأئمة الشيعة الاثني عشر. ولعله من منطلق هذه القدسية عينها جرى تقسيم أشهر السنة اصطلاحاً وتواضعاً إلى اثني عشر”.
جورج طرابيشي – المعجزة أو سبات العقل في الإسلام.
يشير طرابيشي هنا إلى مفهوم “البنية الرمزية” التي تحكم الفكر الديني، حيث تعمل بعض الأرقام مثل “اثني عشر” كعنصر مشترك يعكس أنماطاً فكرية موروثة، تتجاوز الانقسامات الدينية الظاهرة. هذا الطرح يتوافق مع نظرية كارل يونغ حول “الأنماط الأولية” (Archetypes)، حيث تمثل بعض الرموز قواسم مشتركة في اللاوعي الجمعي للبشرية.
من خلال هذا التحليل، يكشف طرابيشي عن أن الدين، رغم تعدديته، يخضع لمنطق داخلي مشترك يرتكز على عناصر ثابتة تشكل وعي الجماعات عبر التاريخ.
- اضطهاد المرأة كقاعدة للعلاقات الإنسانية: جدلية السلطة والجنس
“فنظراً إلى أن علاقات الرجل بالمرأة في ظل الحضارة الأبوية -التي هي حضارتنا- كانت منذ ألوف السنين ولا تزال علاقات اضطهاد وسيطرة، فإن سحب طبيعة تلك العلاقات على العلاقات بين الإنسان والعالم يقدم تبريرات ممتازة لتحكيم مبدأ الاضطهاد والسيطرة في علاقات الإنسان بالعالم…”
جورج طرابيشي – شرق وغرب: رجولة وأنوثة.
هنا، يقدم طرابيشي تحليلاً جدلياً للعلاقة بين الرجل والمرأة، مسلطاً الضوء على كيف أن هيمنة الرجل على المرأة ليست مجرد مسألة اجتماعية، بل نموذجاً تُسحب منه آليات السيطرة إلى مستويات أخرى، بما فيها العلاقة بين الإنسان والطبيعة.
هذا التحليل يتلاقى مع طروحات ميشيل فوكو حول السلطة، حيث تتخذ السيطرة أشكالاً متعدية، تبدأ في مجالٍ معين (الجندر)، لكنها تمتد إلى مختلف المستويات (السياسة، الاقتصاد، الفكر). بعبارة أخرى، فإن اضطهاد المرأة ليس مجرد نتيجة للظروف الاجتماعية، بل جزءٌ من منظومة أوسع تحكم كل أنماط الهيمنة في المجتمع.
- نهضة العقل العربي: نصف نجاح أم فشل ضمني؟
“بيدَ أنَّ عصر النهضة العربي لم يُحرز في مَهمته التحريرية هذه؛ إلا نصف نجاح. وذلك أن العقل النهضوي نفسُه وقع أسير ملابسة خطيرة. فقد كان عليه في مواجهة الذات، أن يكون نقدياً، وفي مواجهة الغرب، أن يكون دفاعياً. الشيء الذي قضى عليه بشلل الفاعلية”.
جورج طرابيشي – مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام.
يطرح طرابيشي هنا معضلة أساسية في الفكر النهضوي العربي، إذ إنه وقع بين مطرقة النقد الداخلي وسندان الدفاع أمام الآخر. هذا الوضع خلق ازدواجية جعلت النهضة مشلولةً وغير قادرة على تحقيق التحولات الجذرية المطلوبة.
التحليل الفلسفي، هنا يتقاطع مع قراءات هابرماس حول “الفضاء العام”، حيث يشير إلى أن أي حركة فكرية تحتاج إلى قدرة على النقد الذاتي دون الوقوع في فخ الخطاب الدفاعي، وإلا تحولت إلى حالة من المراوحة الفكرية غير المنتجة.
المصادر والمراجع:
- جورج طرابيشي – نقد نقد العقل العربي
- جورج طرابيشي – المعجزة أو سبات العقل في الإسلام
- جورج طرابيشي – شرق وغرب: رجولة وأنوثة
- جورج طرابيشي – مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام
