فلسفة جورج طرابيشي – خلاصات مركزة جدا (4)
- 1- النسخ في المنظومة الحديثية: تحييد العقل لصالح التقليد
“إن استقراء أدبيات (الناسخ والمنسوخ)، يظهر أن هذه الآلية لا تعمل إلا في اتجاه واحد. فالسنَة هي دوماً التي تَنْسَخُ القرآن، ولسنا نقع على شاهد واحدٍ في تلك الأدبيات يدل على نسخ السنَة بالقرآن. إذ عندما يتدخل عامل الزمن، فإن (المابعد) هو وحده الذي يستطيع أن ينسخ (الماقبل), وليس العكس”.
جورج طرابيشي – من كتاب: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة.
هذه الملاحظة تعكس هيمنة التقليد الحديثي على النص القرآني، وهو ما أدى إلى ترسيخ نموذج معرفي لا يعترف بأسبقية الوحي القرآني في التشريع، بل يكرس أسبقية الرواية الحديثية، التي تأتي لاحقًا في الزمن، لكن يتم منحها سلطة أكبر في توجيه الفكر الإسلامي.
هنا يشير طرابيشي إلى أن هذه الآلية تحيل إلى نموذج معرفي مغلق يقدس النصوص الثانوية أكثر من النص المؤسس، مما أدى إلى تغييب الاجتهاد العقلي.
- 2- معيار الصحة الحديثية: انزياح من المضمون إلى الشكل
“والواقع أن؛ العيب الإبستمولوجي الذي ينخر كل المنظومة الحديثية كما تضخمت في القرن الثالث فصاعداً، هو قلبُ معيار الصحة وإزاحته من المتن إلى السند. فليس الحديث صحيحاً أو ضعيفاً بمتنه، أي بمضمونه. بل هو صحيح أو ضعيف بقوة سَنَدِه أو ضعفه. أي شكلُ تخريجه. وهذه الشكلية الخالصة؛ هي المسؤولة عن كل اللامعقول الذي شحنت به المنظومة الحديثية”.
جورج طرابيشي – من كتاب: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة.
هذه الرؤية تعكس نقدًا إبستمولوجيًا صارمًا لبنية الفكر التقليدي، حيث تتحول المعايير من جوهرية إلى شكلية. فبدلاً من اختبار مدى معقولية الحديث ومحتواه الأخلاقي والفكري، يتم التركيز على سلسلة الرواة كمعيار وحيد للصحة.
هذه الآلية تجعل من الممكن تمرير مضامين غير عقلانية لمجرد أنها تحظى بإسناد قوي، مما أدى إلى تكريس مفاهيم غير عقلانية في الوعي الجمعي.
- 3- تغييب القرآن والعقل والتعددية: أفول العقلانية الإسلامية
“إن تغييب (القرآن) وتغييب (العقل) وتغييب (التعددية) في (الإيديولوجيا الحديثية المنتصرة)، هو المسؤول الأول عن أفول العقلانية العربية الإسلامية، وعما قاد إليه هذا الأفول من انغلاق ذهني وحضاري، أنهى العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، ليدخلها في ليل الانحطاط الطويل”.
جورج طرابيشي – من كتاب: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة.
يربط طرابيشي بين سيطرة المنظومة الحديثية واندثار روح الاجتهاد العقلي الذي كان محركًا أساسيًا للحضارة الإسلامية في عصورها الذهبية. تغييب العقل، ورفض التعددية في التأويل، والارتكاز على منظومة مغلقة في التفكير، أدى إلى أفول العقلانية الإسلامية ودخولها مرحلة طويلة من الركود.
- 4- المعجزة مقابل الواقعة القرآنية: دور اللاوعي الجمعي
“كان لا بد أن تتقدم المعجزة النبوية في الوعي الديني السائد، ولدى شعوب أعجمية اللسان، على الواقعة القرآنية، لأن المعجزة لا تحتاج إلى “قراءة”، على عكس الواقعة القرآنية التي تربط نفسها ربطًا ماهويًا، ومن خلال الاسم الذي اختاره القرآن لنفسه، بفعل القراءة.”
جورج طرابيشي – من كتاب: المعجزة أو سبات العقل في الإسلام.
في هذا الطرح، يبرز طرابيشي دور اللاوعي الجمعي في تشكيل الوعي الديني. المعجزة تتطلب تصديقًا فوريًا، بينما النص القرآني يتطلب فعل القراءة، أي التأمل العقلي والتفسير. هذا التناقض أدى إلى تعزيز النزعة اللاعقلانية في الثقافة الإسلامية، حيث أُعطيت الأولوية لما هو خارق للطبيعة بدلًا من الاحتكام إلى النص الذي يدعو إلى التدبر والتعقل.
- 5- السند الحديثي: آلية توهيمية
“فالإسناد يبقى أولاً وأخيرًا؛ آلية توهيمية، لا تُقنع إلاّ المُقتنعين سلفًا. جرى اختراعُها في القرن الثاني فما بعده، لتمرير الحديث (أي حديث كان) دونما اعتبارٍ لمتنه، أو لحد أدنى من المعقولية في مضمونه”.
جورج طرابيشي – من كتاب: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة.
ينتقد طرابيشي هنا البنية المنهجية للإسناد الحديثي، باعتباره نظامًا مغلقًا لا يقبل النقاش، بل يعمل فقط كأداة لإضفاء المشروعية على النصوص بغض النظر عن مدى معقوليتها أو توافقها مع العقل.
- 6- الاجتهاد بين التشريع والتاريخ
“ولئن يكن ابن حزم قال: (من قاس أو اجتهد برأيه فقد شرَّع)، ولئن يكن الشافعي قال من قبله: (من استحسن فقد شرَع). فالأولى أن يقال بالنظر إلى ما آل إليه إسلام التاريخ: إن من شرَع هو في واقع الحال من حدَث”.
جورج طرابيشي – من كتاب: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة.
يبرز هذا الاقتباس أن التشريع في الواقع التاريخي الإسلامي لم يكن مجرد عملية اجتهادية محضة، بل كان نتيجة لتراكم الأحداث السياسية والاجتماعية، مما أدى إلى تكوين منظومة تشريعية تستند إلى عامل التاريخ أكثر مما تستند إلى الوحي القرآني نفسه.
المصادر والمراجع:
- جورج طرابيشي – من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة.
- جورج طرابيشي – المعجزة أو سبات العقل في الإسلام.
- جورج طرابيشي – شرق وغرب: رجولة وأنوثة.