اقتباسات فلسفية

فلسفة الجابري – خلاصات مركزة جدا (2)

  • الذاكرة والنسيان: جدلية التأريخ والزمن

“حقاً إن الذكريات لا تعيش إلا مع النسيان، والتأريخ لا يستقيم بدون ما أهمله الزمن” – محمد عابد الجابري.

يرى الجابري أن عملية التأريخ ليست سوى انتقاء لما يبقى وما يُنسى. فالنسيان ليس غيابًا للذاكرة، بل هو جزء منها، إذ يتيح إعادة ترتيب الماضي وفق الحاجات الحاضرة. هذه الفكرة تنسجم مع التصورات الفلسفية حول تشكّل الهوية الجمعية، حيث يُعاد تشكيل الماضي باستمرار ليخدم رؤى المستقبل.

  • العقل الفقهي: سلطة النص والتقليد

“العقل العربي؛ عقل فقهي تكاد تقتصر عبقريته في البحث لكل فرع عن أصل. وبالتالي؛ لكل جديد عن قديم يُقاس عليه. وذلك اعتمادا على النصوص، حتى غدا النص هو السلطة المرجعية الأساسية للعقل العربي وفاعليته” – محمد عابد الجابري.

يُسلط الجابري الضوء على خاصية مركزية في بنية العقل العربي، وهي اعتماده على سلطة النص وغياب النزعة الإبداعية في توليد الأفكار الجديدة. إن هذا المنهج القياسي يُقيد تطور الفكر، إذ يُبقيه في دائرة التكرار، مما يجعل أي محاولة للتجديد مرتبطة بإعادة إنتاج القديم لا تجاوزه.

  • إشكالية العلمانية في العالم العربي

“مسألة العلمانية في العالم العربي مسألة مزيفة، بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات: إن الحاجة إلى الديمقراطية التي تحترم حقوق الأقليات والحاجة إلى ممارسة العقلانية للسياسة هي حاجات موضوعية فعلاً، إنها مطالب معقولة وضرورية في عالمنا العربي ولكنها تفقد معقوليتها وضروريتها بل ومشروعيتها عندما يُعبر عنها بشعار ملتبس كشعار العلمانية” – محمد عابد الجابري.

يُبرز الجابري هنا إشكالية ترجمة المفاهيم الغربية إلى السياق العربي. فالعلمانية ليست مجرد فصل الدين عن الدولة، بل تمثل فلسفة سياسية نشأت في سياق محدد. في العالم العربي، يتم استيراد المصطلح دون إعادة تأصيله في سياق محلي، مما يجعله شعارًا فضفاضًا لا يعكس المطالب الحقيقية للمجتمع.

  • التطرف في الإسلام: بُعد سياسي أكثر منه ديني

“التطرف في الإسلام كان دائما نوع من التعبير عن موقف سياسي معين” – محمد عابد الجابري.

يربط الجابري نشوء الحركات المتطرفة بالسياقات السياسية أكثر من ارتباطها بالمعتقد الديني. فالتطرف لا ينبثق من جوهر الدين ذاته، بل من توظيفه في صراعات السلطة. هذه الرؤية تتماشى مع التحليل السوسيولوجي للحركات الأصولية، حيث يتم استخدام الدين كأداة مشروعة لتحقيق أهداف سياسية.

  • العاطفة والزمن: استمرارية الشعور خارج الزمن التقليدي

“الحق أن العاطفة لا زمن لها، بل زمانها حاضر ممتد لا أول له ولا آخر” – محمد عابد الجابري.

يُعبّر الجابري عن فكرة فلسفية وجودية حول العاطفة، حيث لا تخضع للمفهوم التقليدي للزمن الخطي. فالمشاعر، بعكس الوقائع، لا تتقيد بماضٍ أو مستقبل، بل تظل قائمة في لحظة دائمة الحضور، مما يعكس طبيعة الوجدان الإنساني غير القابلة للتأطير الزمني.

  • استحالة العودة إلى الماضي: استعارة فلسفية عن القطيعة المعرفية

“إن الولادة عملية غير قابلة للانعكاس، والعودة إلى الرحم هي أولى المستحيلات” – محمد عابد الجابري.

يستخدم الجابري استعارة الولادة كرمز للقطيعة المعرفية التي تحدث عند انتقال المجتمعات من مرحلة إلى أخرى. فالعودة إلى الماضي ليست ممكنة، لا معرفيًا ولا تاريخيًا، لأن كل تجربة جديدة تخلق واقعًا لا يمكن التراجع عنه. هذه الرؤية تعكس فهمًا ديناميكيًا للتاريخ، حيث لا يمكن إعادة إنتاج السياقات الماضية كما هي.

  • النظرة المعيارية مقابل النظرة الموضوعية في الفكر العربي

“العقل العربي تحكمه النظرة المعيارية إلى الأشياء. ونحن نقصد بالنظرة المعيارية ذلك الإتجاه في التفكير الذي يبحث للأشياء عن مكانها وموقعها في منظومة القيم التي يتخذها ذلك التفكير مرجعاً لها ومرتكزاً. وهذا في مقابل النظرة الموضوعية التي تبحث في الأشياء عن مكوناتها الذاتية وتحاول الكشف عما هو جوهري فيها. إن النظرة المعيارية نظرة اختزالية، تختصر الشيء في قيمته، وبالتالي في المعنى الذي يضيفه عليه الشخص (والمجتمع والثقافة) صاحب تلك النظرة. أما النظرة الموضوعية فهي نظرة تحليلية تركيبية: تحلل الشيء إلى عناصره الأساسية لتعيد بناءه بشكل يبرز ما هو جوهري فيه” – محمد عابد الجابري.

يُقدّم الجابري تشخيصًا دقيقًا لمنهج التفكير في العقل العربي، حيث يُلاحظ ميله نحو المعيارية بدلًا من الموضوعية. فبدل أن يسعى العقل العربي لفهم الظواهر في ذاتها، يقوم بتقييمها وفق منظومة القيم السائدة، مما يؤدي إلى تشويه الواقع وحصره في أطر أخلاقية أو أيديولوجية.

هذه المقاربة تجعل من التجديد والتطور أمرًا صعبًا، لأن كل ظاهرة جديدة يتم الحكم عليها لا وفق طبيعتها، بل بناءً على مدى تطابقها مع معايير جاهزة مسبقًا.

  • استنتاج

يطرح محمد عابد الجابري إشكاليات جوهرية حول بنية العقل العربي، وتعامله مع التراث، والعقلانية، والحداثة. تحليله يتجاوز النقد السطحي ليقدم قراءة عميقة تبرز التحديات الفكرية التي تواجه المجتمعات العربية في سعيها نحو التقدم.

فمن خلال تسليط الضوء على آليات التفكير، وسلطوية النص، وتداخل السياسي والديني، يضع الجابري الأسس لفهم معمق لواقع الفكر العربي وسبل تطويره.

المصادر والمراجع

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى