يقول طرابيشي:
“إن أقسى آية نزلت بحق أهل الكتاب هي بلا شك الآية التاسعة والعشرون من سورة التوبة التي هي كما رأينا السورة الوحيدة التي لم تفتتح ب “بسم الله الرحمن الرحيم” لمنحاها العنفي والقتالي في شطرها الأول: “قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون”.
وهي الآية التي احتج بها فقهاء إسلام الفتوح، من حيث مدى عمومية حكمها، لفرض الجزية على جميع أهل الكتاب من اليهود والمسيحيين ومن اُستلحق بهم من الصابئة والمجوس، ولإيجاب معاملتهم باستصغار وإذلال. والحال أن هذه الآية لا تخلو من التباس: فهي لا تأمر بقتال جميع أهل الكتاب لإجبارهم على إعطاء الجزية صاغرين، بل تحصر هذا الحكم بمن لا يدين من أهل الكتاب “دين الحق”.
والحال أيضا أن استقراء الآيات القرآنية التي مدارها على أهل الكتاب يفيدنا أن دين الحق الذي كان يُفترض بأهل الكتاب أن يدينوا به هو ذاك الذي يقول إن المسيح ليس ابن الله، وإنه لم يُقتل ولم يُصلب، بل كان ذلك على سبيل التشبيه لهم، وإن مَن يعتقدون غير هذا المعتقد فإنما يعتقدونه بعد أن حرَّفوا كتابهم.
والحال أيضا وأيضا، أنه وُجدت – على ما تفيدنا أدبيات الفرق والهرطقات المسيحية – فرقة نصرانية تذهب هذا المذهب “الحق” وتنكر على باقي الفرق المسيحية ما ينكرها عليه القرآن، وهي على وجه الحصر فرقة الإبيونيين الذين عانوا أصلا من اضطهاد السلطات الكنسية الرسمية واضطروا إلى النزوح عن فلسطين واللجوء إلى المناطق التي لا تقع تحت سيطرة هذه السلطات، ومنها مكة نفسها.
ولعل المقصود ب”دين الحق” هنا هو مذهب أولئك الإبيونيين الذين لا يُستبعد أن القس ورقة بن نوفل وابنة عمه خديجة، أولى زوجات الرسول، كانا منهم. وإذا صدق حدسنا هذا، فإن آية الجزية والصغار لا تكون تعكس موقفا عاما من المسيحية بقدر ما تتصل بضرب من تسوية الحسابات بين الفرق المنتمية إليها.”
― جورج طرابيشي، من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة
1. السياق التاريخي للنزول: بين الجهاد والسياسة
يُعد السياق التاريخي للآية 29 من سورة التوبة ضروريًا لفهم مدلولاتها، إذ إنها وردت في سياق المواجهات العسكرية بين الدولة الإسلامية الناشئة والإمبراطوريات الكبرى المحيطة، لا سيما الروم البيزنطيين. كان فرض الجزية آلية سياسية واقتصادية لضبط العلاقة مع غير المسلمين في ظل الحكم الإسلامي.
2. الجزية: مفهومها ووظيفتها
يطرح طرابيشي مسألة الجزية بوصفها أداة للإذلال والاستصغار، إلا أن هذا التأويل يتجاهل وجود نماذج تاريخية كانت فيها الجزية بديلاً عن الخدمة العسكرية أو شكلاً من أشكال الضرائب المفروضة على المواطنين غير المسلمين، مثلما كانت ضرائب مماثلة تُفرض على المسلمين أنفسهم في سياقات أخرى (كالزكاة).
3. “دين الحق” وتأويله في التراث الإسلامي
يرى طرابيشي أن مفهوم “دين الحق” في الآية يرتبط برؤية القرآن للعقيدة الصحيحة التي تنفي ألوهية المسيح وتؤكد تحريف الكتب السابقة. لكن الطرح الأكثر إثارة للجدل في تحليله هو ربط “دين الحق” بفرقة الإبيونيين، وهي مجموعة يهودية-مسيحية رفضت ألوهية المسيح وعانت من اضطهاد الكنيسة الرسمية.
4. الإبيونيون وموقعهم في السردية القرآنية
يشير طرابيشي إلى احتمال ارتباط ورقة بن نوفل وخديجة بنت خويلد بهذه الفرقة، مما يفتح باب التأويل لفهم الإسلام في سياق الصراعات اللاهوتية بين الطوائف المسيحية آنذاك. هذا التحليل يتماشى مع دراسات حديثة في تاريخ الأديان المقارن، لكنه يبقى افتراضًا يحتاج إلى مزيد من التدقيق الأكاديمي.
5. إعادة قراءة الآية في سياق التعددية الدينية
يتطلب تفسير هذه الآية الأخذ بعين الاعتبار البعد الجدلي للقرآن، حيث لم يكن نصًا معزولًا عن نزاعاته التاريخية. ولذلك، فإن قراءتها ضمن إطار “تسوية الحسابات بين الفرق المسيحية“، كما يقترح طرابيشي، قد تكون أحد الأبعاد الممكنة، لكنها لا تلغي الأبعاد الأخرى ذات الصلة بعلاقة الإسلام بالآخر الديني.
استنتاج:
يقدم تحليل طرابيشي مقاربة جدلية تسلط الضوء على أبعاد مغفلة في فهم العلاقة بين الإسلام والديانات السابقة، لكنه يظل بحاجة إلى توازن بين النقد الفلسفي والسياق التاريخي للنصوص. إن إعادة قراءة هذه الآية، بعيدًا عن التفسيرات الفقهية التقليدية، تمثل فرصة لإعادة التفكير في دلالاتها ضمن مسار تطور الفكر الإسلامي وعلاقته بالموروث الديني السابق.
